المغرب يهدف إلى استثمار يَتجاوز 10 مليارات دولار بنيجيريا في مجالات الطاقة والمعادن والزراعة
في واحدة من أضخم المبادرات الاستثمارية الثنائية في القارة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، أعلنت حكومة ولاية كانو النيجيرية، نهاية الأسبوع الماضي، توصلها إلى شراكة استراتيجية مع مؤسسات مغربية مرموقة، يُرتقب أن تجلب استثمارات تتجاوز 10 مليارات دولار (حوالي 100 مليار درهم مغربي) خلال الخمس سنوات القادمة، تتركّز أساسًا في مجالات الطاقة المتجددة وتطوير المعادن الصلبة.
وجاء في بيان صادر عن المتحدث باسم حاكم ولاية كانو، سنوسي باتوري داواكين-توفا، أن هذه المبادرة الاستثمارية تأتي تتويجًا لزيارة رسمية إلى المغرب، قادها حاكم ولاية كانو، أبّا كبير يوسف، برفقة وفد رفيع المستوى، حيث عُقدت سلسلة من الاجتماعات الاستراتيجية مع مؤسسات مغربية من الطراز الأول، شملت كل من وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، الوكالة المغربية للطاقة المستدامة (MASEN)، مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط (OCP Africa)، وغرفة التجارة والصناعة والخدمات بمدينة الدار البيضاء.
أما الهدف من هذه اللقاءات، بحسب البيان ذاته، فهو إرساء إطار مؤسساتي متكامل لتعاون طويل الأمد بين الطرفين، ينهض باقتصاد ولاية كانو ويؤسس لمنظومة شراكة إنتاجية لا تقتصر على التبادل التجاري، بل تمتد إلى نقل التكنولوجيا، وتكوين الكفاءات، والتكامل الصناعي.
ووفق داواكين-توفا، فإن حكومة الولاية بصدد توقيع سلسلة من مذكرات التفاهم الاستثمارية مع المغرب، تتناول ملفات استراتيجية دقيقة، من أبرزها تحديد قائمة المستثمرين ومجالات تدخلهم القطاعي، ووضع نماذج التمويل الملائمة لكل مشروع، واعتماد تقنيات متقدمة في تخزين الطاقة وتوزيعها على المناطق الصناعية، ومواكبة الجهود الجارية للتحول الطاقي داخل الولاية، فيما تأتي هذه المبادرة ضمن رؤية شاملة لإعادة تموضع اقتصاد ولاية كانو، التي تسعى، حسب مسؤوليها، إلى تجاوز الاعتماد على نماذج النمو التقليدية، والانفتاح على مصادر الطاقة النظيفة والصناعات الاستخراجية.
وأبرز البيان كذلك أن غرفة تجارة الدار البيضاء، التي تُعد واحدة من أكبر الهيئات الاقتصادية في شمال إفريقيا، أبدت استعدادها الكامل لدعم ولاية كانو في تنفيذ مشاريع استراتيجية في مجال الطاقة المتجددة وتطوير المعادن، كما أكدت التزامها بمواكبة الولاية عبر شراكات تقنية واستثمارية متعددة المستويات، من شأنها تعزيز النمو الصناعي، وتحقيق الأهداف الاقتصادية الطموحة المسطرة ضمن مخطط خمس سنوات.
ومن أبرز لحظات الزيارة، اللقاء الذي جمع الوفد النيجيري مع مسؤولي مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط (OCP Africa)، إحدى أبرز الشركات العالمية في إنتاج الأسمدة، إذ أسفر عن تفاهم مبدئي حول تنفيذ مشاريع زراعية متكاملة في ولاية كانو، تشمل إنشاء مصانع محلية لخلط الأسمدة، دعم تطوير سلاسل الإمداد الزراعي، تطوير وحدات لتخزين وتوزيع المنتجات الزراعية، ودعم صغار الفلاحين عبر تقنيات الزراعة الدقيقة والتكوين، فضلا عن تعزيز الولوج إلى التمويل المخصص للأنشطة الفلاحية، فيما تُراهن كانو على هذه الشراكة مع OCP Africa من أجل تحسين الإنتاجية الزراعية وتحقيق اكتفاء غذائي محلي، في ظل تحديات التغير المناخي وارتفاع كلفة المواد الأولية.
من جهة أخرى، تم التوصل إلى اتفاق مبدئي مع الوكالة المغربية للطاقة المستدامة (MASEN)، من أجل تطوير شراكة تقنية شاملة، تُمكّن ولاية كانو من تعزيز قدراتها في إنتاج الطاقة المتجددة، عبر مشاريع محلية للطاقة الشمسية، وتطوير حلول ذكية لتخزين الطاقة وتوزيعها، خاصة في المناطق الصناعية وشبه الحضرية التي تعاني من ضعف البنية التحتية الطاقية.
وفي تصريح خصّ به "الصحيفة"، قال الخبير الاقتصادي النيجيري الدكتور إيمانويل أوباسانجو، أستاذ السياسات الاقتصادية بجامعة لاغوس، إن "هذه الخطوة تعكس تحوّلًا تدريجيًا في نظرة الولايات النيجيرية إلى المغرب، ليس فقط كشريك تجاري، بل كمنصة استراتيجية للتنفيذ والتمويل ونقل التكنولوجيا في القارة".
وأبرز المتحدث ضمن التصريح ذاته، أن ما يميز المغرب عن شركاء آخرين هو أنه لا يكتفي بالوعود، بل يُنزل المشاريع إلى الواقع، ضمن منظومة إنتاج وتكوين وتدبير، مضيفا: "الزيارة الرسمية لوفد ولاية كانو إلى مؤسسات مغربية مثل MASEN وOCP Africa تمثل لحظة نضج سياسي واقتصادي، لأنها تُبرز إرادة نيجيرية للاستفادة من التجربة المغربية في مجالات الطاقة والزراعة والصناعة.. وهذا ما تحتاجه نيجيريا اليوم شركاء أفارقة يفكرون من داخل القارة، وليس عبر مصالح استعمارية قديمة."
وتابع الخبير النيجيري، ضمن التصريح ذاته الذي خص به "الصحيفة": "المشاريع المزمع إطلاقها في كانو ليست مجرد استثمارات رأسمالية، بل هي رهان على نموذج اقتصادي تنموي، يقوم على الاندماج المحلي والتوظيف ونقل المعرفة وإذا نجحت هذه الشراكة، فأعتقد أنها قد تتحول إلى نموذج يُحتذى به في باقي ولايات نيجيريا، بل وربما في عموم منطقة غرب إفريقيا."
وهذه الشراكة المرتقبة بين المغرب وولاية كانو تُرسّخ التوجه الاستراتيجي للمملكة نحو إفريقيا الإنتاجية والتكاملية، وتُعيد ترتيب الأدوار داخل القارة على أساس التعاون جنوب–جنوب، الذي يُنتج مشاريع ملموسة وذات أثر تنموي مباشر، فبينما تستعد الأطراف لتوقيع مذكرات التفاهم رسميًا، يتأكد مرة أخرى أن المغرب لم يعد مجرّد فاعل اقتصادي في إفريقيا، بل أصبح بنية استراتيجية لدينامية الاستثمار، والتحول الطاقي، والتمكين الزراعي، داخل القارة الصاعدة.
هذا، ولا تأتي هذه الشراكة الاستثمارية الكبرى بين ولاية كانو والمؤسسات المغربية في سياق معزول، بل تمثل تتويجًا لمسار من التقارب المغربي–النيجيري الذي تعزز بشكل لافت خلال العقد الأخير، سواء على مستوى التعاون الثنائي بين الحكومتين أو عبر الشراكات متعددة الأبعاد التي انطلقت في مجالات حيوية كالفلاحة، الطاقة، التعليم العالي، والصناعة التحويلية.
وقد شكّل مشروع أنبوب الغاز المغربي–النيجيري، الذي يُعد من أكبر المشاريع الطاقية في إفريقيا، نقطة تحول في العلاقات بين الرباط وأبوجا، لما يحمله من رمزية التكامل الطاقي جنوب–جنوب، ووعود بتحقيق الأمن الطاقي للعديد من الدول الساحلية والداخلية على امتداد الساحل الأطلسي.
ومع تواتر الشراكات التقنية والاستثمارية التي تجمع بين المؤسسات المغربية الكبرى ونظيراتها النيجيرية، يبرز تحوّل المغرب من مجرد شريك تجاري إلى منصة حقيقية للنقل التكنولوجي وبناء القدرات في القارة، وهو ما تدركه نيجيريا اليوم وتراهن عليه، ليس فقط لتحديث اقتصادها، بل لإعادة تموقعها في خارطة التعاون الإفريقي خارج الفلك التقليدي للنفوذ الغربي أو الآسيوي.
في ظل تصاعد التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي والطاقي، وتراجع فعالية بعض الشراكات التقليدية مع القوى الكبرى، تبدو نيجيريا منفتحة بشكل متزايد على شراكة بناءة مع المغرب، مدفوعة برغبة حقيقية في الاستفادة من النماذج المغربية الناجحة في تدبير الانتقال الطاقي، وتطوير منظومات الفلاحة المستدامة، وديناميات تحفيز المقاولات الصغرى والمتوسطة.
وبالنظر إلى أن المغرب ونيجيريا معًا يشكلان أحد أكبر الاقتصاديات في إفريقيا من حيث الإمكانيات البشرية والطبيعية، فإن تعميق علاقاتهما الثنائية لا يخدم فقط مصالح البلدين، بل يسهم في إعادة تشكيل التوازنات الاقتصادية داخل القارة الإفريقية، على أساس من التعاون التضامني، وتبادل المنافع، وتجاوز منطق التبعية، فيما إذا ما استمرت هذه الدينامية التصاعدية في السنوات القادمة، فإن المحور المغربي–النيجيري قد يتحول إلى قوة دفع جديدة لمشروع التكامل الإفريقي الحقيقي، القائم على الإنتاج المحلي وتثمين الموارد وتعزيز السيادة الاقتصادية للقارة.