تونس ومفترق الطرق
ربما من السابق لأوانه إصدار حكمٍ نهائي وموضوعي على ما حصل في تونس بعد إصدار الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021، قراراته بإقالة حكومة هشام المشيشي وحلّ البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، لكن ما هو ماثل للعيان أن ثمّة مرحلة جديدة قد بدأت ولا يمكن تقدير أبعادها أو التكهّن بنتائجها، الأمر الذي قد يثير إشكالات جديدة نظرية وعملية وقانونية وسياسية في المشهد التونسي بشكل خاص إزاء الموقف من الإسلام السياسي وإزاء الموقف من المشروع الإسلامي إقليمياً ودولياً، وهو ما قد يفتح باب المراجعة والنقد بشأن تقييم جديد لما سُميّ بـ " الربيع العربي" وموضوع الإنتقال الديمقراطي والتحوّلات التي أعقبته سياسياً ودستورياً.
وإذا كان انكسار حاجز الخوف بوصول اللحظة الثورية إلى ذروتها بعد إنتفاضة سيدي بو زيد إثر حرق بو عزيزي نفسه وصولاً إلى العاصمة تونس والتي توّجت بفرار الرئيس زين العابدين بن علي وانتهاء فترة حكمه التي دامت ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، فإن الشرعية الجديدة التي يُفترض تأسيسها محلّ الشرعية القديمة لم يتمّ استكمالها وواجهتها عقبات جديّة بعضها يتعلّق بمساعي الثورة المضادة لوضع العصي في عجلتها وبعضها الآخر يتعلّق بعدم قدرة وأهلية وكفاءة النخب التي تولّت مقاليد الأمور بعد التغيير على إدارة الحكم بطريقة شفّافة ومقبولة بحيث تحظى على رضا الناس، ناهيك عن هشاشة وضعف المشروعية القانونية والمقصود بذلك حكم القانون في ظلّ محاولات الهيمنة على السلطة والحصول على الإمتيازات والمغانم وتفشّي الفساد المالي والإداري على نحو مريع وغياب الحدّ الأدنى من الإتفاق والتوافق على مستقبل التطوّر والوحدة الوطنية.
وبغضّ النظر عن الموقف الدستوري من قرارات الرئيس سعيّد إلاّ أنه لجأ إليها بعد فترة خلافات طويلة تعمّقت بمرور الأيام قادت إلى أزمة حقيقية بين أركان السلطة التنفيذية (الرئيس) و(رئيس الوزراء) والأخير قريب من حزب النهضة الإسلامي، ولم يكن الفشل الذي مُنيت به الحكومة وحده أو الرغبة في احكتار السلطة، بل إن الأزمة الإقتصادية والإجتماعية وارتفاع معدّلات البطالة والفقر والركود الإقتصادي، إضافة إلى ارتفاع منسوب الهجرة غير الشرعية كان وراء إندلاع الأزمة. وفوق كل ذلك جاء انتشار وباء كوفيد- 19 (كورونا) ليزيد الطين بلّة بحيث أصبحت تونس من الدول العربية الأكثر انتشاراً للوباء، الأمر الذي كشف فشل المنظومة الطبية والإجراءات القاصرة المتبعة لتطويق المرض، الأمر الذي كان وراء إقالة وزير الصحة تمهيداً لانفجار الأزمة.
ولم تكن المؤسسة القضائية خارج دائرة الصراع، فقد كان الحديث يتصاعد داخل البرلمان وخارجه، وهو ما أدّى إلى أن تطفو الأزمة على السطح على نحو شديد وحاد، دون نسيان دور الأطراف الخارجية الإقليمية والدولية وعلاقتها بالقوى المتصارعة، إضافة إلى ثمّة قلقٍ عربي بشأن الإسلام السياسي ممثلاً بحزب النهضة، وهو وإن امتلك قدرات تنظيمية كبيرة إلاّ أنه لم يمتلك عقولاً وكفاءات وقيادات إدارية تستطيع أن تقود الدولة، على الرغم من حصوله على أغلبية برلمانية في جميع الدورات الإنتخابية، ناهيك عن مشروعه السياسي.
وقد كان البرلمان الذي ترأّسه الشيخ راشد الغنوشي في الدورة الحالية ، وعلى مدى أكثر من عام في صراع دائم داخله ومع مؤسسة الرئاسة أيضاً، الأمر الذي عطّل التنمية وجعل البلاد تدور في دوامة لا مخرج منها، يضاف إلى ذلك تشتّت القوى التي تطلق على نفسها "مدنية" وتوزّعها على محاور بعضها متنافر مع البعض الآخر، ناهيك عن غياب برنامج وطني جامع لها ولو بمعايير الحد الأدنى والذي يمثّل مرحلة الإنتقال وصولاً إلى التحوّل الديمقراطي.
وقد انعكس ذلك على خلافات دستورية حول صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب بسبب عدم وضوح أو التباس الأمر دستورياً أو أن تفسيرات وتأويلات ظلّت مصدر خلاف بين الفرقاء، فبين من يريد أن يعطيه صلاحيات أعلى وبين من يريد اختزالها إلى الجوانب البروتوكولية، كانت الأزمة الإقتصادية تستفحل وأوضاع الناس المعيشية تزداد تدهوراً، فلم تعد ثورة الياسمين التي بدت واعدة، بل نموذجاً، وإذا بها هي الأخرى عرضة للتجاذب والشدّ والحلّ من جانب قوى مختلفة كلٌ منها يريد أن يقود المركب بنفسه ولصالحه حتى وإن أدى إلى الإخفاق.
فهل سينجح سعيّد في تشكيل حكومة كفوءة وجديرة من تكنوقراط بحيث يحتوي الأزمة السياسية، كما يمهّد الطريق لاحتواء الأزمة الإقتصادية والإجتماعية وتخفيف حدّة الإحتقان المجتمعي، خصوصاً من جانب جيل الشباب؟ وهل ستكون الحركة السياسية بجميع صنوفها وألوانها جديرة باستيعاب هذا الدرس التاريخي، خصوصاً بعدم توظيف الدين لمصالح سياسية ضيقة؟ وهل ستدرك القوى الإقليمية والدولية أهمية الإستقرار في الأوضاع التونسية، خصوصاً وأن جارتها ليبيا ما تزال منذ عقد من الزمن في احترابٍ ونزاع مسلّح بحيث تمّ تعويم الدولة وقاد إلى تفشّي مظاهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب؟
إنها أسئلة برسم الحاضر فهل تعي النخب الفكرية والسياسية مخاطر الوقوف عند مفترق الطرق؟