جريمة ساحة الوثبة

 جريمة ساحة الوثبة
عبد الحسين شعبان
الأحد 5 يناير 2020 - 9:23

لم تنزلق حركة الاحتجاج السلمية الشعبية التي انطلقت في الفاتح من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى العنف كرد فعل ثأري أو انتقامي أو كيدي لما قامت به السلطات الحاكمة والجماعات المسلحة ضدها، فقد بدأت سلمية وحافظت على سلميتها، وذلك أحد مصادر شرعيتها وقوتها الأساسية، ناهيك عن كفالة الدستور لها كحق من حقوقها التي تضمنه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

وسيكون التذرّع بفساد الطبقة الحاكمة ولجوئها إلى القمع والعنف المنفلت من عقاله، باللجوء إلى العنف المضاد غير مبرر لها وتحت أي عنوان أو حجة ، لأن الحركة تدرك أن مثل تلك التصرفات السلبية ستخرجها عن سلميتها التي حافظت عليها، إذْ لا يمكن فصل الوسيلة عن الغاية، ومهما كانت الغاية شريفة وعادلة ، فلا بدّ للوسيلة أن تكون كذلك، ولا غاية مشروعة بوسيلة غير مشروعة، وحسب رائد المقاومة السلمية – اللّاعنفية المهاتما غاندي، فإن الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة، وهما يرتبطان عضوياً لدرجة لا يمكن فصلهما.

وإذا كنّا نعرف الوسيلة وهي راهنة ومحدّدة ومعلومة ، فإن الغاية بعيدة وغير ملموسة، بل متخيّلة أحياناً، الأمر الذي ينبغي أن تكون الوسيلة جزءًا لا يتجزأ من الغاية ذاتها، وكل تعارض بينهما يعني الخروج على مشروعية الغاية ، وبالنسبة للوضع العراقي سيكون اللجوء إلى العنف خروجاً على أهداف الحركة الاحتجاجية السلمية، باتباع وسائل غير مشروعة، فما بالك إذا كانت جريمة أو انتهاكاً سافراً لحق الحياة والقتل خارج القضاء، إضافة إلى أعمال تخريب وحرق .

ما حصل في ساحة الوثبة ببغداد بإلقاء القبض على أحد الذين، قيل أنه أطلق الرصاص على المتظاهرين، وقتله والتمثيل بجثته في مشهد لا إنساني يثير التقزّز والاشمئزاز، ومهما كانت المبررات والدوافع فإنها جريمة مدانة ومستنكرة وهي سابقة خطيرة لا ينبغي التقليل من شأنها، وهو ما أدركه المحتجون الذين ازدادوا يقظة إزاء أي محاولة لجرّهم إلى العنف بإعلانهم سلمية الحركة بالمطلق وتمسكهم بشعاراتها .

ولعلّ اللجوء إلى العنف سيلحق ضرراً بالغاً بحركة الاحتجاج ويفقدها أحد أهم أسلحتها المشروعة؛ وأعني بذلك الوسائل المدنية السلمية التي استخدمتها بنجاح في بلورة مطالبها العادلة، سواء بجانبها المطلبي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فيما يتعلّق بفرص العمل والخدمات وتحسين ظروف العيش، أو في جانبها السياسي المتعلق بإجراء إصلاحات دستورية وقانونية بعد أن وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود وبعد فشل الطبقة السياسية التي حكمت البلاد لنحو 16 عاماً والتي قامت على أساس نظام المحاصصة الطائفي- الإثني المستند إلى "الزبائنية السياسية" وتوزيع المغانم والامتيازات، تلك التي تكرّست منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 والذي وضع نواته بول بريمر في صيغة مجلس الحكم الانتقالي، وامتدّ إلى الدستور الذي أعدّ مسوداته نوح فيلدمان وبمساعدة لاحقة من بيتر غالبرايت وهو دستور يقوم على المكوّنات، التي لا تعني سوى نظام المحاصصة الطائفية- الإثنية.

لا يمكن بأي حال تبرير جريمة ساحة الوثبة بزعم أن السلطة الحاكمة ارتكبت جرائم لا حدود لها، بقتل أكثر من 500 مواطناً وجرح أكثرمن20 ألف عراقي، ناهيك عن استمرار استشراء الفساد المالي والإداري والتغوّل على الدولة عبر مرجعيات ما دونها وما قبلها، لكنها أصبحت ما فوقها، إضافة إلى تفشي ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب.

وحين يتم تناول ظاهرة العنف والقتل خارج القضاء، فلا يمكن تبريرها من أي أتت والجريمة تبقى جريمة ، ولعلّ استدراج الحركة الاحتجاجية إلى دائرة العنف سيكون المقتل الأول لها، وسيعطي المبرّر لأعداء التغيير للانقضاض عليها، بل والقيام بالمزيد من أعمال القتل وسفك الدماء والانتهاك بهدف تسويد صفحة الحركة الاحتجاجية وتشويه سمعتها وإلصاق التهم بها.

أدركُ حقيقة أن الحركة الاحتجاجية في جوهرها وفي عمق مطالبها سلمية ومشروعة، الأمر الذي سيكون إدانة هذه الجريمة ونبذ اللجوء إلى العنف إبرازاً لوعي الحركة بمسؤولياتها الوطنية من جهة ، حتى وإن كانت محدودة جداً وفردية جداً، إذْ لا ينبغي لبعض حالات الجزع والقنوط أن تدفع الحركة باتجاه لا يخدم توجهها السلمي- اللّاعنفي، كوسيلة لإحداث التغيير المنشود في موازين القوى ، حتى وإن كانت مناورات الطبقة السياسية والقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها تريد تدوير الزوايا والالتفاف على عملية التغيير الحقيقي التي يطالب بها المحتجون.

إن إدانة اللجوء إلى العنف هدفه الأول إعادة التثقيف بأهمية المقاومة المدنية السلمية اللّاعنفية، التي هي الطريق الصائب للدفاع عن الحقوق والمطالب، فضلاً عن أن استمرارها سيجبر الطبقة الحاكمة التفكير إن آجلاً أو عاجلاً أكثر من مرّة من استخدامه ضده المحتجين الذين سيحظون بتعاطف ودعم دولي، وسيزيد من تعميق وعي المجتمع بأهمية الاحتجاج السلمي وهو جزء من الشعور بالمسؤولية إزاء مستقبل العراق.

*باحث ومفكر عربي

هل سيغير قرار محكمة العدل الأوروبية من واقع ملف الصحراء؟

قضت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي بـ" بإبطال" اتفاقين تجاريين يتعلقان بالفلاحة والصيد البحري بين الرباط والاتحاد الأوروبي بشكل نهائي. المحكمة التي يوجد مقرها بلوكسمبورغ وتسهر على "تطبيق" قانون الاتحاد الأوروبي ...

استطلاع رأي

كمغربي أو مقيم في المغرب، هل تشعر أن ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم أثرت على:

Loading...