"دوزيم" الغارقة في "الرداءة" تتجه نحو "الإفلاس" وسط دعواتٍ للمحاسبة
لم يكن يوم الاثنين 25 نونبر 2019، يوما عاديا في تاريخ القناة الثانية "2M" والإعلام التلفزيوني المغربي عموما، فلأول مرة في تاريخها ستقوم إدارة القمر الصناعي "نايل سات" بإيقاف إشارة البث الفضائي للقناة المغربية في فترة الذروة الزوالية، بعدما عجزت إدارتها عن سداد المستحقات السنوية للمؤسسة المصرية، ما فضح غير القناة في أزمة مالية غير مسبوقة.
لكن ما حدث مع "نايل سات"، ورغم أنه حظي باهتمام إعلامي كبير بوصفه "فضيحة" أضرت بسمعة المغرب الإعلامية كون أن الأمر يتعلق بقناة عمومية، إلا أنه لم يكن الإشارة الأولى لاتجاه القناة إلى الإفلاس بسرعة قياسية، فقبلها بفترة وجيزة وبالضبط في 11 شتنبر الماضي، دق المجلس الأعلى للحسابات بقوة ناقوس الخطر بخصوص الوضعية المالية لـ"دوزيم"، القناة التي فقدت الكثير من بريقها، حتى صارت بالنسبة للكثير من المغاربة مرادفا لـ"رداءة" المنتوج الإعلامي.
وضعية مالية كارثة
وأورد تقرير المجلس الذي يرأسه إدريس جطو أن تحليل الوضعية المالية لشركة "سورياد دوزيم" يبين "ضعفها وهشاشتها"، مضيفا أن هاته الوضعية "تتفاقم مع التأخير الحاصل في الرفع من رأس المال والذي يفرضه قانون شركات المساهمة بالنظر للوضعية الصافية للشركة"، واصفا الوضع المالي للقناة بأنه "مُقلق".
فمنذ سنة 2008، والشركة تحقق نتائج صافية سلبية، إذ تكبدت في المتوسط خسارة سنوية قدرها 4,9 مليون درهم بين عامي 2008 و2017، وعزا المجلس الأعلى للحسابات هاته الخسارة إلى أهمية حجم النفقات مقارنة بالموارد، بما في ذلك دعم الدولة الذي بلغ خلال الفترة المذكورة ما مجموعه 506 مليون درهم، وبمتوسط 50,50 مليون درهم في السنة، لكن في المقابل، دفعت "دوزيم" للدولة كضريبة على الشاشة ما مجموعه 32 مليون درهم فقط في الفترة نفسها.
وكشف التقرير أن خزينة "سورياد دوزيم" تعاني من "نقص مزمن" منذ عام 2008 بسبب "أهمية خزينة الخصوم مقارنة مع خزينة الأصول"، ففي عام 2008 سجلت الخزينة الصافية رصيدا سلبيا بناقص 168 مليون درهم، وفي عام 2017 وصل هذا الرصيد إلى ناقص 304 مليون درهم، أي ما يمثل أكثر من 6 أشهر من المبيعات.
وأشارت الوثيقة إلى أنه في السنوات الأخيرة، وفي ظل الوضعية الصعبة للخزينة، تقوم الشركة بخصم مبيعاتها في شكل سندات قبل أجلها بشهرين ونصف، مما يزيد من تفاقم الوضعية المالية للشركة نتيجة ارتفاع التكاليف المالية المرتفعة والتي بلغت 7 ملايين درهم كل سنة، وبتاريخ 31 دجنبر 2017 كشفت محاسبة الشركة عددا من الديون غير المسددة التي يمثل مجموعها سنة كاملة من رقم المعاملات، والتي تشمل حوالي 86 درهم من مستحقات الدولة والمؤسسات الاجتماعية.
تدني الجودة
ورغم كونها قناة تعتمد بنسبة كبيرة على مداخيل الإشهار إلا أن الكثير من الأخطاء التي وقعت فيها "دوزيم" جعلت المعلنين يبتعدون عنها، وهو ما يراه أحمد الدافري، الصحافي وأستاذ الإعلام والتواصل، الذي أورد أن الأزمة المالية التي تعاني منها الشركة تتعلق بتراكم مجموعة من الديون المترتبة عن كونها لم تعد قادرة عن أداء مستحقات مجموعة من شركات الإنتاج الخارجي، وكذلك لأن نسبة المصاريف داخل المؤسسة تفوق بكثير نسبة المداخيل.
وتابع الدافري أن مداخيل "دوزيم" متأتية إما من دعم الحكومة بناء على عقد برنامج، أو عن طريق الإشهار بوساطة من الشركات الإعلانية، لكن "لا يمكن للمعلن أن يثق في منتوج إلا إذا كان جيدا ويتوفر على جميع ضمانات الانتشار الجماهيري وهو ما لم يعد متوفرا في القناة الثانية، وبالتالي فإن المعلنين لم يعودوا قادرين على السير في نفس المنحى الذي كانوا يسيرون عليه سابقا، إذ أصبح لديهم استقلالية لاتخاذ القرار وصاروا يلجؤون للمؤسسات الإعلامية التي يرون أنها قادرة على أن تروج لمنتوجهم".
ونبه الدافري إلى أن الإبداع في دوزيم "ضعيف" والقدرة على الإقناع "غائبة" في البرامج وفي الأعمال الدرامية، ما يفسر تهرب المعلنين من التعامل مع هذه القناة، وتابع أن الأمر يتطلب "سياسية إعلامية ناتجة عن دراسة الجودة"، مفسرا أن المقصود بالجودة "ليست تلك التي يبحث عنها الناس في الإنترنت وعبر موقع "يوتوب" ووسائل التواصل الاجتماعي لأن ما ينشر هناك لديه جمهوره الخاص، فالجودة المطلوبة من التلفزيون فتتعلق بالمساهمة في الارتقاء بالذوق والنهوض بالفكر وإعطاء الجديد ومناقشة القضايا الكبرى التي تتماشى وتطلعات المتلقي".
وخلص الدافري إلى أن "الجودة" هي المفتاح لخروج "دوزيم" من ضائقتها المالية "فكلما كانت الجودة حاضرة بهذا المعنى كلما استعاد المعلن ثقته في المؤسسة وكلما ضُخت الأموال في صندوق القناة، وحينها لن تكون مضطرة للجوء إلى إعانات الدولة أو توسل اشتراكات المنخرطين".
وكيل الإشهار.. "الصديق العدو"
لكن "خطيئة" دوزيم في مجال الإشهار لم تكن فقط هي "ضعف الجودة"، إذ إن تقرير المجلس الأعلى للحسابات يكشف أيضا عن سوء تدبير كبير لهذا الأمر رفقة الوكيل الإشهاري الحصري الذي تتعامل معه القناة ويتعلق الأمر بـ"ريجي 3" التي يديرها حسن خيار، والذي ليس سوى المدير العام لقناة "ميدي 1 تيفي" وإذاعة "ميدي 1"، المنافستين لها، ما يفسر أن المداخيل الإشهارية للقناة لا تتماشى ورتبتها الأولى في نسبة المشاهدة وطنيا وفق ما كشفت عنه مؤسسة "ماروك ميتري" هذه السنة.
وحسب تقرير مجلس الحسابات فإن "ريجي 3"، وهي وكالة الإشهار الحصرية لشركة "سورياد دوزيم"، والتي تمثل حصتها من مبيعات هاته الأخيرة حوالي 95 في المائة هي في الوقت نفسه الوكيل الحصري لوسائل إعلام أخرى منافسة وهي قناة وإذاعة "ميدي 1"، ولذلك أظهر تحليل عقود الالتزام المتعلقة بـ"دوزيم" أن "ريجي 3" تطلب من المعلنين الحصول على جزء من طلباتهم الإشهارية لدى "ميدي 1 تيفي" المنافسة.
وخلص التقرير إلى أن هاته الوضعية تؤكد أن وكيل الإشهار المذكور "يستغل أداء "دوزيم" من حيث نسبة المشاهدة، ويستخدمه لتسويق المساحات الإعلانية لقنوات منافسة"، موردا أن موقف وكالة الإشهار هذا، اتضح جليا سنة 2018، حيث إنها نصت صراحة في الشروط العامة للبيع الخاصة بالقناة الثانية في الجزء المخصص لخصم الالتزام المتعدد القنوات، على أنه "يجب على المعلنين الذين يريدون الاستفادة من الخصم المذكور استثمار 80 في المائة من الميزانية المخصصة للإشهار في قناة "دوزيم" و20 في المائة في قناة ميدي 1 تيفي".
غياب الشفافية
وتشير الأزمة المالية التي تغرق فيها "دوزيم" والتي تكشفها التقارير الرسمية، والتي انعكست أيضا على شبكة برامج القناة التي تقلصت فيها مساحة البرامج الحوارية والإخبارية وبرامج التحقيقات إلى جانب الانتاجات الدرامية الوطنية، مقابل سطوة المسلسلات التركية والبرامج الترفيهية، (تشير) إلى وجود اختلالات على مستوى التسيير والتدبير الإداري، وهو الأمر الذي يطرحه الخبير الإعلامي أحمد الدفري الذي تساءل "كيف يعقل أن تقوم "دوزيم" بإعطاء برامج لمجموعة من الشركات دون المرور عبر طلبات العروض؟" معتبرا ذلك "دليلا واضح على غياب الشفافية وعدم الانضباط لقواعد الحكامة الجيدة".
وأورد المتحدث نفسه أنه "من غير المعقول توزيع أغلفة مالية كبرى من أجل انتاج البرامج دون أن تكون هناك ضوابط مبنية على دفتر تحملات"، وأضاف أنه "لا يعقل القبول بكل ما يتم إنتاجه، فهناك إنتاجات تُمنح مبالغ طائلة جدا في حين أن كلفتها الفعلية أقل بكثير، وقد لا تتجاوز 20 في المائة من الميزانية المخصصة" مشددا على أن كلفة الإنتاج يجب أن تسير في اتجاهها السليم وأن يتم تصريف الميزانية في الجودة.
وشدد الدافري في حديثه لـ"الصحيفة" على أنه "يجب أن تكون هناك غيرة على المنتوج الوطني من خلال الاحتكام إلى الكفاءة، والضرب بيد من حديد على كل المتطفلين الذين يغزون العمل التلفزيوني ويقدمون أعمالا رديئة ويعتبرون التلفزيون بمثابة متجر، يأخذون منه بضاعة بأثمان قليلة لإعادة بيعها بثمن كبير".
طوق النجاة الحكومي
وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه التراكمات إلى "فضيحة" كتلك التي حدثت قبل شهر، حين قطعت إدارة "نايل سات" إشارة البث عن القناة المغربية الثانية في إحدى فترات الذروة بسبب عدم سدادها لمستحقاتها العالقة، إذ تم الأمر خلال بث نشرة الظهيرة التي تُعرض ابتداء من الساعة الثانية عشرة و45 دقيقة زوالا، واستمر لمدة ساعتين وتطلب تدخلا من الحكومة لحل المشكلة.
واضطرت هذه الواقعة، التي كشفت عن اقتراب "دوزيم" من حافة الإفلاس، الحكومةَ إلى الاعتراف رسميا بالأزمة، إذ أورد وزير الثقافة والشباب والرياضة، الوصي أيضا على قطاع الاتصال، حسن عبيابة، في ندوة صحية قبل أيام أن القناة "تعيش أزمة مالية كبيرة جدا لأن ميزانيتها تعتمد على الإشهار بنسبة 90 في المائة"، وفسر الوزير هذه الأزمة بكون "مداخيل الإشهار تناقصت بشكل عام وتوزعت على وسائل الإعلام المختلفة، وهذا الضعف ساهم في نقص الموارد المالية للقناة".
وتعليقا على قطع البث الفضائي للقناة، قال عبيابة إن الحكومة "تدارست الموضوع واتصلت بقطاع البث وكانت المعالجة سريعة جدا، إذ تم التواصل مع إدارة القمر الصناعي "نايل سات" وتم إنهاء المعاملات المالية"، موردا أنه سيتم عقد اجتماع مع المجلس الإداري للقناة "باعتبارها قناة وطنية تؤدي خدمات مهمة ما يتطلب حل جميع الأزمات المادية التي تعاني منها، وإن كانت المشكلة تدبيرية كذلك فسنناقشها أيضا".
ورغم أن التدخل الحكومي المستمر لإنقاذ القناة أصبح مثار عدة انتقادات، إلا أن عبيابة برر ذلك بكون المغرب "يحتاج لقنواته الوطنية لحفاظها على الهوية والأرشيف"، معتبرا أن دوزيم "ليست ذات صبغة إشهارية"، قبل أن يضيف "لقد تم الاتصال بجميع المسؤولين ونعمل على حل المشكل بسرعة، ونُطمئن العاملين في القناة الثانية والمشرفين عليها أننا سنقف معها إلى حين تجاوز أزمتها المالية".
متابعة قضائية
لكن هذا الوضع لم يعد يروق للعديد من الأطراف التي أضحت مقتنعة بأن ما يجري في "دوزيم" ليس سوى "إهدار للمار العام"، وهو الأمر الذي دفع "الجمعية المغربية لحماية المال العام" للجوء إلى القضاء واضعة شكاية لدى الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، استنادا على ما جاء في التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات.
وجاء في شكاية الجمعية، الموضوعة لدى النيابة العامة الأسبوع الماضي، أن ما ورد في تقرير المجلس معطياتٌ "ترقى إلى جرائم معاقب عليها بمقتضى القانون الجنائي، خاصة أمام الوضعية المالية المقلقة للقناة الثانية والتي شهدت عجزا ماليا خطيرا يقتضي تحريك المسطرة القضائية من أجل إجراء كافة الأبحاث والتحريات المفيدة بخصوص شبهة تبديد أموال عامة وخرق قانون الصفقات العمومية وغيرها".
ويبدو أن الجمعية التي تعنى بحماية المال العام مُصرة على تحديد المسؤوليات حتى لدى الأطراف الحكومية، إذ طالبت شكايتها الوكيل العام للملك بـ"إصدار تعليماته إلى الشرطة القضائية المختصة قصد الاستماع لتوضيحات وإفادات وزير الإتصال الناطق الرسمي السابق للحكومة، مصطفى الخلفي"، إلى جانب الاستماع لمسؤولي الشركة والقناة، والإطلاع على كافة الفواتير والوثائق والمستندات المحاسبية المتعلقة بالوضعية المالية للشركة وتحديد أسباب "العجز المالي الخطير" للشركة وبيان أوجه ومبررات وسندات صرف مالية "سورياد دوزيم".