إنقاذ الفرد والمجتمع من الفراغ الموحش
وظيفة الفلسفة في المجتمع هي تحويلُ قُدُرات الفرد المحدودة إلى أفكار إبداعية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان ، وبناءُ طُموحات المجتمع على أساس عقلاني، بعيدًا عن الصُّراخ، وضجيج الشِّعارات، والحماسة الجَوفاء. والصوتُ العالي لا يُكوِّن فَرْدًا مُتصالحًا معَ ذاته وبيئته ، ولا يبني مجتمعًا مُتماسكًا ، وإنَّما يُؤَسِّس كيانات متناحرة تعشق رنين الكلمات المُخادِعة ، ولا تعرف حقيقتها . وهذه الكيانات تَقوم على أرض الواقع بفِعْل الإسناد الخارجي ، ولَيس بفِعل المنطق الذاتي . والأمور غير المنطقية لا تتكرَّس في المجتمع كواقع ملموس إلا بفِعْل سياسة الأمر الواقع المعتمدة على الترهيب والتخويف والتَّلويح بالعصا، وهذا سبب انفصال اللسان عن القلب ، أي إنَّ الفرد يَقول شيئًا ، ويتبنَّاه، ويُدافع عنه ، وهو لا يُؤْمِن به في قَرارة نَفْسه . وسبب قِيامه بهذه العملية هو شُعوره بالرُّعب مِن المجتمع، وخَوفه مِن العُقوبة في حال تعبيره عن أفكاره بحُرِّية . وهذا يعني أن الفرد ضحَّى بالسلام الداخلي والتوازن الروحي والمنظومة الأخلاقية مِن أجل حماية حياته ، والحِفاظ على مُكتسباته المعنوية والمادية.وكُل كلمة لها ثمن، والفرد غَير مُستعد لدفع هذا الثمن، وكُل موقف له ضريبة، والمجتمع غَير مُستعد لتحمُّل هذه الضريبة . وفي كُل المجتمعات الأبوية المُنغلقة ، تكون حُرِّيةُ التعبير جريمةً لا تمرُّ دُون عِقاب .
عِندما يُظهِر الفَرْدُ خِلاف ما يُبطِن ، فهذا يعني أن هناك شَرْخًا عميقًا بين الفرد والمجتمع ، كما يعني أن المجتمع بكل مؤسساته يَضغط على الفرد لِسَلْب صوته الخاص، ومَنعه مِن التعبير عن أفكاره بحُرِّية ، وهذه الخُطوة الأُولَى لتدجين الفرد ، وإدخاله إلى الحظيرة ، وتحويل المجتمع إلى قطيع يُساق إلى حافة الهاوية . وسياسةُ حافة الهاوية التي تُكرِّسها السُّلطة الأبوية في المجتمع المُحَاصَر ، هي منهجية شديدة الخُطورة ، لأنها تُحوِّل الفَردَ مِن كيان إنساني جوهري قائم بذاته ، إلى شيء هامشي عَرَضي في مَوضِع العَرْض والطَّلَب ، وتُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى سِلَع في أيدي أصحاب السُّلطة القادرين على الدَّفْع ، وَمن امتلكَ القُدرة على الدَّفْع ، امتلكَ القُدرة على الكلام . والجديرُ بالذِّكر أن سياسة حافة الهاوية تُقَدِّم صُورةً خادعة عن المجتمع ، فيظهر مَجتمع القطيع للناظر إلَيه مِن بَعيد مُجتمعًا مُنظَّمًا متماسكًا ذا مَسار واحد ، وهدف مصيري مُشترك . وفي حقيقة الأمر، إنَّهُ مجتمع مُفكَّك مِن الداخل ، وأنساقه الاجتماعية تضمحل تدريجيًّا ، وهذا الانتحارُ الاجتماعي التدريجي ، يُعزِّز ثقافة التَّرَبُّص والانقضاض في المجتمع ، فالفردُ يتربَّص بأخيه في الوطن والمصير ، لاعتقاده أن المكان لا يتَّسع إلا لِفَرْد واحد ، وإذا لَم تَكُن آكِلًا فأنتَ مَأكُول ، والمجتمعُ يصير فراغًا مُوحِشًا ، وصَيَّادًا يَنتظر اللحظة المُناسبة للانقضاض على الفريسة ، والضحيةُ تتقمَّص جلَّادها ، وتَلعب دَوْرَه ، ويَشعر جميع الأفراد بأنَّهُم مَظلومون ، ولا أحد يَعرِف مَن الظالم، وتتحوَّل العلاقات الاجتماعية إلى منظومة نَفعية استغلالية ، حيث يأكل القويُّ الضعيفَ ، ويستغل الغنيُّ الفقيرَ ، ويَضطهد الكبيرُ الصغيرَ ، وتصير الأحلام الإنسانية أزهارًا جميلةً لَكِنَّها سَامَّة ، وتَعيش في بيئة هَدَّامة، وتَؤُول الظواهرُ الإنسانية إلى سِياقات مُوحِشة تَدفع المشاعرَ والأحاسيس إلى التَّوَحُّش، وتدفع الفلسفةَ السياسية إلى الغرق في شريعة الغاب ، ويُصبح القادر على اضطهاد الآخرين هو المُتحدِّث باسمهم ، الذي يتَّخذ القرارات نِيَابَةً عنهم ، ويُقَرِّر مصيرهم ، وهُم آخِر مَن يَعْلَم. وهذا الانهيارُ الشامل لا يَحدُث بين لَيلة وضُحاها ، لأنَّه تراكمات عبر الأزمنة ، وترحيل للملفات والأزمات عبر المراحل ، ودفن للنار تحت الرماد ، لذلك كثيرٌ مِن الناس لا يَشعُرون به ، أو قَد يَستهينون به ، لأنَّ تفكيرهم مَحصور في الهدوء الذي يَسبِق العاصفةَ ، دُون الاستعداد للعاصفة ، وهُم عاجزون عن استيعاب خُطورة وَضْع السُّم في العَسَل ، لأنَّ تفكيرهم مُسلَّط على تَذَوُّق العسل والاستمتاع بمذاقه ، ورُؤيتهم مُركَّزة على القَشَّة التي قَصَمَتْ ظَهْرَ البعير ، أو القَطْرة التي أفاضت الكأسَ ، وهذا يَمنعهم مِن التفكير بالتراكمات الزمنية ، ومُسلسل الأخطاء التاريخية . وعَجْزُهم عن تفسير ظواهر التاريخ ، جَعلهم يُكرِّرون نَفْسَ الأخطاء ، لذلك صارَ الفَرْد يُلدَغ مِن نَفْس الجُحْر مَرَّات كثيرة ، وهذا يدلُّ على انطماس بصيرة الفرد بسبب ضغط المجتمع الأبوي عَلَيه ، ومُحاصرته ، وَمَنعه من التفكير . لذلك لَيس غريبًا أن تُصبح إنسانيةُ الفرد آلةً ميكانيكية تتلقَّى الأوامرَ لتُنفِّذها دُون التفكير في ماهيتها وأبعادها ، وليس غريبًا أن يَقفز المجتمع الإنساني في الفراغ ، ويُؤَسِّس للعَدَم . إنَّ المُجتمع المُحَاصَر بالمشكلات والأزمات ، والمُحَاصِر للأفراد والجماعات ، والذي يَدفن النارَ تحت الرماد ، ولا يُفكِّر بإطفائها ، جَعَلَ الفرد مُقتنعًا بعبثية الإجراءات الوقائية ، وعدم جَدوى التخطيط للمُستقبل . وهكذا ، صار الناسُ يَنتظرون المرضَ ، ثُمَّ يَبحثون عن العِلاج ، ويَعتبرون الإجراءات الوقائية المانعة من حُدوث المرض مَضيعة للوقت والجُهد .