الأزمة المغربية الفرنسية: أبعاد الصراع وخلفياته
وسط عالم غاصّ بالتغيرات والتحولات وإعادة توزيع الأدوار، ووسط فوضى الأخبار والأحداث والوقائع والزوبعة الكبرى من الأحداث التي ترخي بظلالها على المغرب والمغاربة داخليا وخارجيا، نجد أنفسنا جميعا وسط محاولة للفهم، ومحاولة للتنبيه إلى ما يعيشه مغربنا في الداخل والخارج.
لم يعد يخفى على أحد ما يواجهه المغرب من تجاذب عنيف للقوى مع فرنسا، تجاذب لم يقف عند حد اختلاف في الرؤى وتضارب للمصالح بل تجاوزه إلى حد أزمة حقيقية جعلت فرنسا تبدل كل ما في وسعها لحشر المغرب في الزاوية لمحاولة ابتزازه وإرضاخه ودفعه لتبني ما يناسب مصالحها من توجهات ورؤى واختيارات.
ولعل ما يجعل المغرب مستهدفا هو الدور المحوري الذي يلعبه داخل افريقيا ومكانته التي أصبحت تتعاظم وتتقوى، وهو ما أصبح حقيقة ثابتة ومسلمة لا تروق للقوى التي لها أطماعها في افريقيا، والتي تريد أن تبقي على نمط متجاوز من العلاقة مع دول جنوب المتوسط، نمط قوامه الوصاية والتحكم بأساليب انتهت مع عصور الاستعمار بشكل أصبحت تدركه وتعيه تماما دول افريقيا وترفضه رفضا قاطعا، بل هو ما يجعل هذه الدول تنفتح على علاقتها بالمغرب لأنها تدرك أنها علاقات رابح-رابح وليست علاقات استغلال وامتصاص للموارد والخيرات.
إن فرنسا اليوم وبعد عقود من انتهاء الاستعمار، وسنوات من التواجد العسكري في الساحل، أصبحت تدرك بأن وجودها في افريقيا غير مرغوب فيه، لكنها لم تتقبل هذه الحقيقة لأنها أولا تقوض مصالحها الاقتصادية ولأنها أيضا تضرب في صميم وجوديتها كدولة قوية لها امتدادها العسكري والاستراتيجي، لكنها وعلى الرغم من ذلك لا تتقبل هذه الحقائق ولا تبدي أي رغبة في مراجعة نمط علاقتها بأفريقيا كما لا تحاول أن تجدد نفسها وتقدم نموذجا جديدا للتواجد في افريقيا كشريك وحليف، بل إنها تهاجم وتمارس الضغط والابتزاز وتحارب كل من لا يتماهى مع مصالحها، وعلى رأسهم المغرب، الذي لم يعد يقبل أن تبقى العلاقة مع فرنسا على النحو المذكور.
فبعد مطالب شعبية وسياسية وضغط كبير سبق خروج فرنسا العسكري من الساحل، توالت المواقف الفرنسية التي تظهر إلى أي حد كانت الخسارة كبيرة، فقبل أيام استضافت قناة فرانس 24 أبا عبيدة بن يوسف العنابي، خليفة الجزائري عبد المالك دروكدال في زعامة ما يسمى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، في نشاز إعلامي غير مسبوق، لتعطيه الفرصة كاملة ليعبر عن خطابه المتطرف ويحدد البلدان التي يقصدها "برنامجه الإرهابي" في محاولة لتهديد البلدان التي لم تعد تقبل أن تشتغل وفق هوى فرنسا، ومحاولة أن تقول إما أنا وإما الإرهاب، فعلى الرغم من أن ماكرون يجدد التذكير دائما أن فرنسا غير مسؤولة عن خطاب منابرها الإعلامية، إلا أننا لسنا سذجا لتنطلي علينا هذه الأكذوبة خاصة عندما ينخرط جوق الإعلام الفرنسي في عزف معزوفة واحدة ملّتْها أفريقيا وملها المغرب، وهو ما قد بدأت تظهر بوادره بحشد الحركات الإرهابية لجهودها ضد المغرب مع استشهاد الشرطي المغربي الذي راح ضحية عمل إرهابي جبان رعته داعش التي كانت تخطط لما هو أكبر لولا توقيف المتورطين ويقظة أجهزتنا الأمنية وحنكة أطرها.
هذه السلوكات الغريبة ليست جديدة، ولا مستغربة من الأذرع الفرنسية، فقد أدان القضاء الأمريكي بصفة رسمية شركة لافارج الفرنسية بمساعدتها لتنظيم داعش الإرهابي في سوريا وتورطها في تمويل التنظيم الذي مزّق بلدا كاملا، كما أدان رئيس الوزراء المالي بالنيابة عبد الله مايغا تدخل فرنسا الذي وصفه بالسافر في شؤون بلده متهما إياها بتمويل الإرهاب في بلده وإمداد الجماعات بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية لضرب استقرار مالي السياسي خدمة لأجنداتها.
إن الامتعاض من فرنسا ماكرون من طرف زعماء أفريقيا أظهرته بجلاء خرجات ماكرون الأخيرة مع رؤساء دول أفريقية، كما فضحه الإحراج الكبير الذي تعرض له في عدد من هذه الدول في مؤتمرات صحفية عديدة، توجها الرد شديد اللهجة الذي وجهه رئيس جمهورية الكونغو، متهما بلده بتبني معايير مزدوجة مطالبا إياه باحترام الدول الأفريقية واحترام مؤسساتها.
والمواقف المتعددة والممتعضة من سياسات فرنسا في نسختها الماكرونية تجاه أفريقيا في مقابل الانفتاح على العلاقة مع المغرب والاقتناع به أكثر فأكثر كشريك بدأ يعوض دور فرنسا في أفريقيا بشكل أفضل هو أهم ما يزيد من حدة هذا الصراع، الذي نجح في أن يؤسس لنمط جديد من العلاقات مع الدول الإفريقية في إطار التعاون جنوب جنوب الذي يتخده المغرب خطا استراتيجيا منذ تولي صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش البلاد، وهي أهم ما يحفز من تصاعد الأزمة بين المغرب وفرنسا من وقت لآخر لتتخذ مواقف أكثر حدة تجاه المغرب لمحاولة ثنيه عن اتجاه اختاره لنفسه منذ الاستقلال، اتجاه يرفض أن يجعل المغرب أداة في يد حكومات فرنسا تحركه كيفما تشاء، كما هو الشأن بالنسبة للجزائر التي اختار جنرالاتها أن يهبوا دفة الحكم هدية لفرنسا تحركها كيفما تشاء وتستغلها ضد المغرب، فالجزائر تصعد ضدنا كلما صعدت فرنسا، وتصمت كلما عادت علاقاتنا مع فرنسا إلى طبيعتها، كما تقبل أن تجعل بلدا كاملا بموارده وشعبه ومقدراته ملكاً لدولة أجنبية قد تزج به في حرب إن أرادت فقط لإرضاخ المغرب أو لابتزازه أو ثنيه عن مساره التنموي وعلاقاته الجيدة مع الدول الأفريقية الأخرى، ولعل التقارير الإعلامية الأخيرة التي تشير إلى تحركات الجيش الجزائري والغليان السياسي داخل غرفة القيادة في الجزائر هي أكبر دليل على المستوى الذي بلغت الجزائر من فقدان السيادة لصالح فرنسا والقوى التي لا تريد للمغرب أن يكون.
واليوم يجب أن يفهم الجميع أن خطوط الدفاع عن المغرب متينة جدا وغير قابلة للاختراق، لأننا دولة بنت تاريخا طويلا من العلاقات الدولية، وتاريخا طويلا من علاقة العرش بالمواطنين لا يتأثر بالمراهقة السياسية لرؤى ماكرون التي تشذ عن ما هو مألوف من علاقة المغرب مع الزعماء الفرنسيين السابقين، الذين ربطتهم دائما علاقات طيبة مع المغرب سواء في عهد الملك الحالي، أو في عهد الملك الراحل الحسن الثاني على كافة الأصعدة، وبشكل يضمن مصالح الطرفين ويحقق النفع للبلدين وللشعب المغربي والفرنسي الذي مل سياسات ماكرون رئيس الدولة الذي لا يخجل من تمرير قانون رغما عن الفرنسيين ثم مواجتههم بالقوات العمومية وتعنيفهم في انتهاك صارخ للديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية التي لا يخجل الإعلام الفرنسي والبرلمان الأوروبي ليعطوا فيها دروسا للمغرب بازدواجية صارخة ومحاولة لتصدير الاحتقان الذي يواجهه به الفرنسيون واستثمار كل الوسائل الممكن ضد المغرب استثمارا يائسا وغير موفق لا شك أنه سينتهي بالاستسلام أمام دولة لها سيادتها وتاريخها وحنكتها الدبلوماسية كالمملكة المغربية.
هذه السيادة التي يتمتع بها المغرب، ليست حكرا على تدبير ملف علاقتنا بفرنسا، بل حتى في علاقتنا بالدول الأخرى كيفما كانت، فقد اخترنا موقفا شجاعا في نزاع روسيا وأوكرانيا، يتسم بالحكمة والتوازن، كما اخترنا موقفا معتدلا تجاه القضية الفلسطينية، ينفتح على العلاقة مع دولة إسرائيل دون التراجع عن مواقفنا الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، ودون إنصات للأحلام الإيديولوجية التي تسوق لها بعض الجهات هنا وهناك والتي دائما ما تصطدم بحكمة وصرامة سياسية بما يتوافق مع الرؤى والتوجهات التي تتماشى مع المصالح العليا للمملكة، ولعل العلاقات المتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع المملكة المتحدة تثبت إلى حد بعيد مدى نضج الدبلوماسية المغربية، ومدى قوة حضورنا على المستوى الدولي، كما أن التراجع الأخير في علاقتنا بإسبانيا ثم عودة هذه العلاقات إلى شكلها الطبيعي يترجم مدى المصداقية التي يتمتع بها المغرب ومدى اقتناع الخصوم قبل الأصدقاء بجدوى الشراكة مع المغرب وهو ما تُرجم الآن باقتناع إسبانيا والبرتغال بالمغرب كطرف ثالث في ملف مشترك لتنظيم كأس العالم في شراكة تثبت إلى أي حد يستطيع المغرب أن يقدم نفسه كنموذج وكدولة صاعدة وكقوة لا يستهان بها.
إن مصالحنا العليا كدولة وكشعب لا يمكن أن تدافع عنها الهيئة الدبلوماسية والهيئات السياسية والقوات المسلحة لوحدها، بل تستلزم تجييشا حقيقيا لكل القوى الحية ولكل الفاعلين القادرين على التأثير والدفاع والترافع على مصالح البلاد وفي مقدمتها قضيتنا الوطنية العادلة، التي يبدو أن البعض يغلب عليها مصالح فرنسا ويفضل الاصطفاف إلى الجهة الأخرى غير آبه بأن يكون أداة لأطراف أخرى في وقت ينبغي أن نكون جميعا جنودا للمغرب والمغرب فقط، هؤلاء الذين يقبلون على أنفسهم في عز أزمتنا مع فرنسا أن يتعاملوا مع أطراف فرنسية رسمية بل ويمارسوا دعاية رديئة لأجندات لا تدخر جهدا في أن تخوض ضدنا حربا حقيقية في وقت تعيش فيه بلادنا صراعا وجوديا لم يعد يقبل فيه المغرب ازدواجية المعايير كما قال الملك محمد السادس في إحدى خطاباته : فإما أن يكون المواطن مغربيا أو غير مغربي.
إن المشاكل الداخلية التي يعانيها المغرب، من تضخم وغلاء ومشاكل اجتماعية واحتجاجات قطاعية لا ينبغي أن تنسينا الأخطار الخارجية التي تهددنا، والتي تكون في كثير من الأحيان واقفة وراء المشاكل الداخلية بل محركة لها، كما لا ينبغي أن تجعلنا ناقمين على وطننا تاركين الدفاع عنه، لأن لذلك ضريبة لن يؤديها إلا نحن ولن يجني أرباحها إلا الخصوم.