الأمن الاجتماعي بين العدل والحريات
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)
يذكر الكاتب (إمام عبد الفتاح) في كتابه (الطاغية) أن العادة جرت في بلاد الفرس أنه إذا مات العاهل، لا ينصب ملك جديد، بل يترك البلد بدون حكومة وقانون، في حالة فوضى عارمة، يأكل الناس بعضهم بعضا، ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب؟
حتى إذا بلغت الفوضى ذروتها؛ جاء الملك الجديد فقمع الفوضى بقوة السلاح والجند، وأقام الأمن واستقرت أحوال الرعية.
كل هذا من أجل اكتشاف أهمية الدولة وحكم القانون في حياة البشر، مما يمكنهم من متابعة الحياة، فيعيش الناس آمنون على أنفسهم، فبدون الدولة والأمن الاجتماعي يتحول المجتمع إلى غابة من الذئاب والضواري يفترس بعضهم بعضا.
فهذه هي فلسفة ولادة الدولة بكل أسف.
وحسب الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (القوة Power) أن مصير الإنسان كان بين فوضى الغابة وطغيان المجتمع، وكلا النتيجتين مدمرتين.
وكان الخيار الأفضل أن يمضي باتجاه المجتمع، فرارا من فوضى الغابة غير المحتملة، على أمل تهذيب المجتمع الإنساني مع الوقت..
والمجتمع كما يقول (ابن خلدون) في (مقدمته) يشكل ضرورة لازبة لبقاء الإنسان، مقابل التورط في الوقوع في قبضة أنظمة سياسية، بأذرع حديدية.
والعجل بمجرد ولادته يمشي بسيقان، والإنسان أضعف الكائنات بالولادة، واحتاج إلى رعاية اجتماعية طويلة..
وحسب وجهة نظر علماء الاجتماع مثل (بيتر فارب) في كتابه (بنو الإنسان Humankind)، أن الفرد منا لا يصبح إنسانا (ناطقا) بدون العيش في مجتمع إنساني.
ثبت ذلك من تجربة (صبي أفيرون) الوحشي الذي عاش في الغابة، وتم اصطياده عام 1799 م، وحاول الدكتور (إيتار كسبار) عبثا أن يعيده للحظيرة الإنسانية؛ فلم يفلح، وكان العقبة الكأداء الأساسية هي في تعلم اللغة؛ فالطفل الذي لا يتعلم اللغة في سنواته الأولى، تفوته هذه الملكة بدون رجعة.
ومن تعلم لغة واحدة ـ أي لغة ـ أمكنه أن يتعلم العشرات بدون مشقة، مثل نظام (الدوس DOS) في الكمبيوتر
هذا التجربة القاسية تم تكرارها على يد الفرعون (بسماتيك الثاني) وملك صقلية (فردريك) (على ما جاء في المجلة الألمانية P.M) وكلها انتهت إلى نفس النتائج، وهذا يوصلنا إلى مجموعة من الحقائق تقول:
(1) ـ الإنسان الذي يولد خارج المجتمع الإنساني ينقلب إلى حيوان.
(2) ـ والإنسان كائن اجتماعي.
(3) ـ ومن يحول الإنسان من كتلة لحم إلى إنسان هو المجتمع؛ فكان المجتمع بذلك؛ وبكلمة جامعة مانعة هو من يجعل الإنسان إنسانا، وكان المجتمع بذلك هو حوض التشكل الإنساني..
(4) ـ ونظرا لأن الإنسان فردي، في نفس الوقت الذي هو كائن اجتماعي، فقد ترتب على هذا محاولات لانهاية لها لإنتاج نظم حكم لتنظيم النشاط الإنساني، فالمجتمع في النهاية ليس كومة من الأفراد، بل شبكة من العلاقات الاجتماعية، ومعظم النظم السياسية إن لم يكن كلها، لم يفلح في حل المشكلة الاجتماعية، وإيجاد صيغ عادلة من الأنظمة السياسية.
وكما جرب الجنس البشري شتى أنواع العلاقات الجنسية، كذلك الحال مع النظم السياسية، وإذا كانت العلاقات الجنسية قد رست على شكلين عائلة نووية من ذكر وأنثى، أو (البوليجاميPolygamy) بتعدد الإناث لذكر واحد، استجابة لقانون الطبيعة في التكاثر، فإن حظ السياسة لم يكن كذلك.. ويمكن لطاغية متهور، أن يركب رقبة شعب كامل بأفضل من برذون مسرج..
وحسب (سيكنر) عالم النفس السلوكي في كتابه (ما خلف الحرية والكرامة) فإن علوم الطبيعة قفزت على نحو هائل، ويمكن لطالب ثانوية أن يعلم سقراط وأفلاطون وأرسطو ما لم يعلموا، ولكن نقاشات السياسة في البرلمانات، لم تتقدم شيئا مذكورا، وما زال السياسيون الكذابون المهرجون، يقودون أمما بعدد النمل والنحل إلى الضلالة ..
وهذا النوع والتعدد من أشكال نظم الحكم يقول أن المحاولة الإنسانية ماضية في طريقها للصياغة الصحيحة، وصيغة الديمقراطية الحديثة ليست الشكل النهائي، كما أنها ليست العادلة تماما، بل هي أحيانا خدعة كبرى، وليس من مكان تزور فيه إرادة الناس مثل انتخابات الأنظمة الثورية، التي فيها مجالس شعبية لا تزيد عن مجالس للتصفيق والطرب والتهريج..
(5) ـ وأن الدولة تقوم على القوة، وتحتكر العنف من طرف واحد....
وبعد قيام الدولة على القوة، تأتي المشروعية في صور شتى، ولكن الحقيقة المخفية من الداخل هي القوة..
يكفي النظر إلى شرطي المرور والمسدس مدلى من جانبه، فكلها صور من القوة العارية بتعبير الفيلسوف (راسل)، مذكرة أن المجتمع مضبوط بإطار حديدي من القوة..
فهذا هو الجانب المظلم المكرب من قيام الدول.
ولكن الجانب الإيجابي والمشرق، هو أن احتكار القوة يأتي مقابل توفير الأمن للأفراد..
(6) ـ ووظيفة الدولة الأولى هي توفير الأمن للناس..
(7) ـ وفي ظل الأمن تنشأ الحضارة؛ فالحضارة هي نشاط إنساني مشترك، وشبكة علاقات معقدة كما يقول ديورانت في كتابه (دروس من التاريخ) في مظلة من (الأمن الاجتماعي).
يقول ديورانت في تعريف الحضارة ص 167 بأنها
" نظام اجتماعي يقوم بنشر الإبداع الثقافي، وهي نظام سياسي مصون من خلال العرف والأخلاق والقانون، ونظام اقتصادي مصون من خلال استمرار الإنتاج والتبادل، وهي إبداع ثقافي من خلال الحرية وتسهيلات إنشاء الأفكار والآداب والأساليب والعادات والفنون، والتعبير عنها واختبارها وتثميرها، وهي نسيج متشابك معقد وغير ثابت من العلاقات الإنسانية، نسيج يتسم بالجهد في صنعه والسهولة في تدميره"
وهو ما عناه القرآن وكرره في مصطلحات ثابتة تحت فقرتين: فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من (جوع) وآمنهم من (خوف)..
هكذا كان حال الدول فيما سبق، وهكذا حالها حتى اليوم، يتم فيها احتكار العنف من طرف واحد، بيد شخص أو عصابة، أو عائلة أو عشيرة، أو طائفة وحزب؛ فتنشأ دول ديكتاتورية، أو ديكتاتورية الحزب، بيد مافيات مدربة على القتل، من عائلات مسلحة حتى الأسنان، أو دولة طائفية تركب فيها قلة أوليجاركية ظهر الأكثرية.. بأفضل من الصافنات الجياد، تقود الأمة إلى الكارثة.. وفيلم أوتيل رواندا شاهد مرعب على ذلك، ومعظم العالم العربي مهدد بمصير رواندا والصومال؟؟