الإسلام يأمر بإلحاق الابن بأبيه البيولوجي يا وزير العدل(2/2)
تكاد تُجمع المذاهب الفقهية على جواز الإلحاق والاستلحاق وهو أن يطلب الرجل إلحاق من خُلق من مائه خارج إطار الزواج.
قال المالكية: لا يُعتبر في الاستلحاق تحقق تزوّج المستلحِق (بالكسر) بالمستلحَق (بالفتح) أو تملّكه أمَّه إن كانت أمُّه أمَة. قال ابن عبد السلام: “لأنهم اعتبروا في هذا الباب (الاستلحاق) الإمكان وحده ما لم يقم دليل على كذب المُقِرّ. بل إن المالكية ذهبوا إلى القول بصحة استلحاق أحدٍ ميتا. أي يصح استلحاق أحدٍ كبيراً ولا يشترط تصديق المستلحَق على أصح الطرق في المذهب.
وقال الشافعي : إذا ادعى الحُر والعبد أو المسلم والذمّي مولودا - قد وُجد لقيطا ، فلا فرق بين واحد منهم ، كما لا يكون بينهم فرق فيما يملكون - فرآه القافة فإن ألحقوه بواحد منهما ، فهو ابنه أبدا ، وإن ألحقوه بأكثر لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ ، فينتسب إلى أيهم شاء ، ويكون ابنه ، وتنقطع عنه دعوى الآخر ، وهو حر في كل حالاته ، بأيهم ألحقته القافة . لأن أصل الناس الحرية حتى يعلم العبودية .
أما حديثِ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»، فقد ذهب غالبية الأئمة والفقهاء، ومنهم ابن تيمية إلى أنَّ حُكمَ الحديثِ قاصرٌ على المرأة إذا كانت فراشًا لرَجُلٍ آخَرَ(أي زوجة له)، فيبقى الولدُ مُلتحِقًا بصاحب الفراش إلَّا أَنْ يَنفِيَه باللِّعان فيُنسَب إلى أمِّه، ويكون للعاهر الحَجَرُ، أي: أنَّ الزانيَ ليس له إلَّا الخيْبةُ؛ أمَّا المرأةُ إذا لم تكن فراشًا فلا يتناولها الحديثُ؛ ويتعيَّن تسميةُ المرأةِ فراشًا ـ عند أهل اللغة والعُرف ـ بعد البناء بها؛ ولهذا ذَهَب ابنُ تيمية إلى أنَّ المرأة تُعَدُّ فراشًا بعد معرفة الدخول المحقَّق لا بمُجرَّد العقد عليها، خلافًا لأبي حنيفة .
وعليه، فالعاهرُ لا يلحقه الولدُ إذا كان للمرأة زوجٌ دَخَل بها، فإِنْ لم يكن لها زوجٌ فليست فراشًا ولا يتناولها حكمُ الحديث، فإذا وُلِد لها ولدُ زنْيَةٍ واستلحقه أبوه لَحِقه.
ـ وأمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: «لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ، مَنْ سَاعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ لَحِقَ بِعَصَبَتِهِ، وَمَنِ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ» فإنَّ سنده ضعيفٌ لا يقوى على الاحتجاج. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : "فِي إِسْنَاده رَجُل مَجْهُول" .
وقال ابن القيم : " وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ ، فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ".
وضعّفه الشيخ أحمد شاكر والألباني أيضاً.
ويحاجج مؤيدو الاستلحاق بأنه لا يوجد دليل شرعي صحيح صريح يمنع من إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي.
ــ قال الشيخ ابن عثيمين : " الولد للزاني ، وذلك لأن الحكم الكوني الآن لا يعارضه حكم شرعي فكيف نلغي هذا الحكم الكوني ، مع أننا نعلم أن هذا الولد خُلق من ماء هذا الرجل ؟ فإذا استلحقه وقال هو ولده فهو له.
وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من العلماء، يُلحقون الولد ويقولون: إن هذا الولد ثبت كونه للزاني قدراً ، ولم يعارضه حكم شرعي ، فلا نهمل الحكم القدري بدون معارض ، أما لو عارضه الحكم الشرعي فمعلوم أن الحكم الشرعي مقدم على الحكم القدري ".
إن مسألة إلحاق الابن بأبيه البيولوجي أفتى بها كثير من الأئمة وفقهاء المسلمين، قديمهم وحديثهم، بالاستناد إلى اجتهاد عمر بن الخطاب ومقاصد الشريعة الإسلامية. فقد أفتى به أبو حنيفة وابنِ تيميَّة وإسحاقُ بنُ راهويه وسليمانُ بنُ يسارٍ وابنُ سيرين والحسنُ البصريُّ وإبراهيمُ النَّخَعيُّ وغيرُهم.
بالإضافة إلى هذه الأدلة الشرعية التي تجيز الحاق الأطفال خارج إطار الزواج بآبائهم البيولوجيين، مطلوب من وزارة العدل تطبيق القواعد الشرعية والأقيسة العقلية لبلورة مشروع قانون يحمي حقوق هؤلاء الأطفال أسوة بالأطفال في إطار الزواج ويراعي مصلحتهم الفضلى، وذلك بضمان حقهم في الرعاية الأسرية وفق ما تنص عليه المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، والتي ينص دستور 2011 على جعل "الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة". فالعدد الكبير والمتزايد من الأطفال خارج إطار الزواج، والذي بلغ 153 مولودا يوميا، وفقا لدراسة نشرتها جمعية "إنصاف" بالمغرب سنة 2011، بالتعاون مع الأمم المتحدة، ويتوقع رئيس الجمعية المغربية لليتيم أن يصل العدد إلى 155ألف طفل أقل من 15 سنة بحلول 2030 ؛ هذا العدد المهول يفرض على الحكومة التعجيل بمواءمة التشريع المغربي مع المادة 7 من اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على حق الطفل في معرفة والديه كالتالي: "يسجل الطفل بعد ولادته فورا ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان، الحق في معرفة والديه وتلقى رعايتهما". وكذلك المادة 8 من نفس الاتفاقية التي صادق عليها المغرب "تتعهد الدول الأطراف باحترام حق الطفل في الحفاظ على هويته بما في ذلك جنسيته، واسمه، وصلاته العائلية، على النحو الذي يقره القانون، وذلك دون تدخل غير شرعي".
إذن، الواجب الديني والأخلاقي والقانوني يُلزم الحكومة بضمان حقوق هؤلاء الأطفال وحمايتهم من التشرد والانحراف بوضع تشريع يلحق الطفل، وجوبا، بأبيه البيولوجي ليتحمل كامل مسؤوليته في تربيته وتوفير الرعاية الكافية له تنفيذا لمقتضيات الدستور الذي ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإعمالا لقاعدة "الغُرْم بالغُنْم"، فكما غنم المغتصب اللذة الرخيصة، غرم مسؤولية التربية والإنفاق. وقد ذكر ابن القيم أن الولد تَكَوّن من ماء الزانيين؛ فلا يُعقل أن ننسبه إلى أحدهما دون الآخر، وما المانع من لحوقه بأبيه إذا لم يدعيه غيره. ولأن الأم “اشتركت مع الأب في ماء الولد وزادت عليه الحمل والرضاع".
ومن ثم، فالشخص الذي، كما قال السيد وزير العدل، ذهب "للفسحة ليلة واحدة، ويترك لي طفلا تتسول به أمه في الشارع" عليه، ليس فقط،" يخلص عليها 21 سنة”، وإنما يتحمل كامل مسؤوليته الأبوية تجاه ابنه الذي هو من صلبه وقطعة منه، وذلك بإلحاقه به وإعطائه نسبه وما يستتبعه من حقوق وأحكام. وما يُعاب على وزير العدل أنه اعتبر الأمهات العازبات "بائعات الهوى" و"عاهرات" يوفرن المتعة و"القصارة" للذكور. لا يا وزير العدل، الأمهات العازبات هن ضحايا الاغتصاب والتغرير؛ وقد أكدت عائشة الشنا، رحمها الله، أن 99 في المائة منهن ضحايا هذا التغرير والاغتصاب. ومن ثم يكون واجبا على وزير العدل العمل على صياغة مشروع قانون يضمن لهن ولأبنائهن كل الحقوق ، وفي مقدمتها إثبات نسب أطفالهن. هؤلاء الأطفال هم بحاجة إلى إثبات النسب أكثر مما هم بحاجة إلى الإنفاق عليهم رغم أهميته. فالأمهات وأطفالهن بحاجة إلى اعتراف المجتمع وحماية القانون لحقوقهن وحقوق أطفالهن . فحتى من الناحية الدينية فإن إنكار الأب لابنه هو إثم كبير عند الله حذر منه الرسول (ص) في الحديث الشريف "وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين" أخرجه أبو دواد في سننه وابن حيان في صحيحه. ولن يكون إلحاق الابن بأبيه البيولوجي بدعا من القول أو الفعل بالنسبة للمغرب ولوزارة العدل، فقد تم تطبيقه في العراق وأصدرت محكمة التمييز الاتحادية حكما يثبت النسب اعتمادا على استخدام البصمة الوراثية (DNA)؛ إذ جاء قرار الهيئة العامة في المحكمة كالتالي “إذا كانت العوامل الوراثية للمدعي متطابقة مع المطالب بالحاق نسبه اليه وبتقرير رسمي من الطبابة العدلية فعلى المحكمة الحكم بصحة النسب” (القرار 124/هيئة عامة/2008 في 10/2/2009. بل إن الهيئة المذكورة لم تكتفِ بذلك، وإنما حثت محاكم الموضوع على ضرورة الاستعانة بوسائل التقدم العلمي ومنها البصمة الوراثية في مسائل إثبات النسب، فجاء في قرار آخر لها كالتالي: ”على المحكمة لإكمال تحقيقاتها الاستفادة من وسائل التقدم العلمي بضمنها الفحص الطبي واجراء تطابق الانسجة وفحص الحمض النووي (DNA)”( 3 القرار 329/هيئة عامة/2011 في 1/5/2011 )في مسألة اثبات النسب أو نفيه. ولعل المادة 156 من مدونة الأسرة خطت خطوة مهمة نحو اعتماد البصمة الوراثية في إثبات النسب، لكن قصرتها على فترة الخطوبة كالتالي "إذا تمت الخطوبة، وحصل الإيجاب والقبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج وظهر حمل بالمخطوبة، ينسب للخاطب للشبهة إذا توفرت الشروط التالية:
أ - إذا اشتهرت الخطبة بين أسرتيهما، ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء؛
ب - إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة؛
ت - إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما.
تتم معاينة هذه الشروط بمقرر قضائي غير قابل للطعن.
إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب". والمطلوب الآن، توسيع العمل بالبصمة الوراثية ليشمل كل الولادات خارج إطار الزواج.
إن المصلحة الفضلى للطفل عموما، وللمولود خارج إطار الزواج على وجه الخصوص، تقتضي استحضار رجحان مصلحة إثبات النسب على مصلحة نفيه، أو جلب مصلحة الإثبات ودرء مفسدة النفي.
كما تقتضي الأخذ بقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعلقة بثبوت النسب وعدمه، حيث تفضي هذه الموازنة إلى اختيار إثبات النسب على نفيه، لغلبة مصالحه على مفاسده. فلا يمكن الاستمرار في تغذية الشوارع يوميا بعشرات الأطفال المتخلى عنهم، وتجاهل المآسي النفسية والاجتماعية المترتبة عن انفلات الآباء البيولوجيين من تحمل مسؤوليات أفعالهم والإلقاء بها على عاتق الأمهات والمجتمع. ولا يمكن للمشرع المغربي أن يظل سجين اجتهادات فقهية متشددة ومخالفة لروح الإسلام ومقاصده وتعاليمه، وكذا سنة الرسول الكريم وخلفائه من بعده الذين فهموا وطبقوا قوله تعالى (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ)؛ فتصرفوا كأولياء الأمور وفق القاعدة المشهورة “تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة”. وهذا ما كان يفعله عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما كان يُلِيط أولاد الجاهلية.