الرباط وتونس "تنسحبان بهدوء" من أي مبادرة لـ"تطبيع" العلاقات بينهما.. ومصادر دبلوماسية تونسية لـ"الصحيفة": كل شيء "جامد" بين البلدين
رغم أن الموضوع لم يُعلن عنه رسميًا من قبل أي من العاصمتين، إلا أن العلاقات المغربية التونسية دخلت بصمت، فصلًا جديدًا من الجمود الدبلوماسي، تجلّت آخر مؤشراته في عدم تعيين تونس حتى الآن سفيرًا جديدًا لدى المملكة، بعد أن عيّنت الرباط نظيره السابق، حسن طارق، في منصب داخل البلاد، دون أن يُسجَّل أي رد من قصر قرطاج بتحريك التمثيلية الدبلوماسية من جديد من جانبها، وذلك أيضا تزامنا مع توقف اللقاءات السياسية رفيعة المستوى، وتجميد المبادرات الثنائية، وكأن كل طرف اختار الانسحاب الهادئ من ساحة الحوار.
المراقبون، يعتبرون أن هذا المعطى ليس مجرد فراغ بروتوكولي، بل يعكس فتورًا دبلوماسيًا متواصلاً بين الرباط وتونس، منذ استقبال الرئيس قيس سعيّد في غشت 2022 لزعيم "البوليساريو" ضمن فعاليات منتدى تيكاد الياباني الإفريقي، وتسبّبه في تفاقم أزمة غير معلنة عنوانها الانزياح عن العقيدة الدبلوماسية التونسية التي رسمها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة منذ عقود، وبالتالي جعل العلاقات الثنائية تدخل في نفق الصمت البارد والتوتر غير المسبوق.
في الرباط، لم تُعيّن تونس حتى الآن خلفًا لسفيرها السابق محمد بن عياد، الذي أنهى مهامه في صمت، ودون أن تُستبدل البعثة التونسية بتمثيلية دبلوماسية على نفس المستوى، وهو ما يفسّره مراقبون على أنه رسالة غير مباشرة باستمرار "التحفّظ السياسي" إزاء المغرب، والتي يقودها قيس سعيّد بوصفه الرئيس "المنقلب على الشرعية" وفق تقديرات العديد من معارضيه في البلد وخارجه.
وفي تونس، غادر السفير المغربي حسن طارق رسميا منصبه في شهر مارس 2025 بعد تعيينه من قبل الملك محمد السادس في منصب "وسيط المملكة"، وهو ما يجعل التمثيلية المغربية بدورها في حالة فراغ رسمي، حيث لم يتم إلى حدود الساعة تعيين سفير جديد.
وهذا الوضع المتقابل يعمّق من حالة البرود السياسي غير المسبوق التي تسيطر على العلاقات الثنائية، فرغم غياب أي إعلان رسمي عن القطيعة أو تخفيض مستوى العلاقات بما فيها الاقتصادية التي يبقيها المغرب في منأى عن هذه المرحلة لصالح تونس التي تمر بأزمة اقتصادية خانقة، وبينما تبقى السفارتان قائمة من حيث الشكل، فإن غياب السفراء يطرح أسئلة حول مدى رغبة كل طرف في استئناف قنوات التواصل السياسي الطبيعي.
وفي هذا الاطار، عادت "الصحيفة" لجس نبض العلاقات عبر مصادرها المسؤولة في وزارة الشؤون الخارجية التونسية، التي أكدت أن "الوضع الحالي للعلاقات مع المملكة المغربية مستقر تماما لا يشهد أي تطور نوعي جديد، وهي مرحلة تتسم بقدر من التحفظ المتبادل والتريث غير المعلن".
وأوضحت المصادر المسؤولة التي فضلت عدم الكشف عن هويته، أن "غياب السفير التونسي في الرباط والمغربي في تونس إلى الآن هو جزء من هذا السياق، ويعكس فتورًا دبلوماسيًا أو وضعا غير مريح لا يرغب أي من الطرفين في التصعيد بشأنه، لكن لا خطوات فعلية تُتخذ نحو الانفراج، ذلك أن كل شيء جامد حتى الآن بعدما استهلت قبل أشهر مفاوضات لم تخرج بخلاصات مهمة أو إيجابية..".
وأضافت المصادر ذاتها أن "تونس حريصة على علاقات متوازنة مع دول الجوار، بما فيها المغرب الذي تربطه بتونس علاقات تاريخية وطيدة وراسخة، وترى أن الحوار هو السبيل الأمثل لتجاوز الخلافات الظرفية"، مشيرة إلى أن "أي عودة لزخم العلاقات تتطلب توفير شروط موضوعية، أولها احترام الخيارات السيادية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، مع الحفاظ على الروابط المغاربية التاريخية".
وهذا الجمود الدبلوماسي يأتي في وقت يطبع فيه الحراك الإقليمي دينامية لافتة، خاصة على مستوى العلاقات المغربية الخليجية والأوروبية، في مقابل تقارب تونسي جزائري متسارع، يجعل تونس أقرب إلى محور الجزائر – جنوب الصحراء، في حين يُترك ملف العلاقات مع الرباط في زاوية الانتظار.
ويُجمع متابعون تونسيون ومغاربة، تحدّثت إليهم "الصحيفة" في الموضوع على أن استمرار غياب السفراء يعكس "جمودًا مقصودًا" وليس مجرد تأخير إداري، خاصة في ظل توقف الزيارات الرسمية واللجان المشتركة، وغياب أي مؤشرات على رغبة الطرفين في إعادة بعث الحوار، كما أن هذا الوضع يؤشر إلى أن الخلاف لم يعد يُختزل في واقعة استقبال زعيم "البوليساريو"، بل تعدّى ذلك إلى اختلاف في الرؤى والمقاربات على مستوى توازنات الجوار الإقليمي وتموقع كل بلد ضمن خارطة التحالفات الجديدة.
ومُنذ حدوث الانعراج الدبلوماسي الخطير في عهد قيس سعيّد أي قبيل ثلاث سنوات تقريبا، ظلت العلاقات المغربية التونسية على أرجوحة "احتمالية حدوث انفراج"، سيّما وأن العلاقات الاقتصادية و التبادل التجاري بين البلدين ظل في منآى عن هذا الخلاف على الرغم من استقراره في خانة "المستوى غير المأمول"، وهو ما سبق واعتبرته مصادر حكومية مغربية في حديثها لـ "الصحيفة"، طبيعي جدا على اعتبار أن "المغرب دولة مؤسسات تتعامل وفق عقيدة الفصل بين ما هو سياسي واقتصادي خصوصا مع الدول التي ترتبطها وإياها علاقات متجذرة".
وكان لقاء قد جمع رئيس الحكومة عزيز أخنوش، بوزير خارجية تونس المُقال، نبيل عمار، على هامش الاحتفال الدولي بالذكرى 80 لعملية الإنزال البحري بمنطقة بروفانس في فرنسا، واعتبر مؤشرا قويا عل احتمالية عودة العلاقات بين البلدين سيّما وأنه الأول من نوعه بين مسؤولين رفيعي المستوى من البلدين منذ اندلاع أزمة "تيكاد" في 2022.
وقد اهتم كثيرا الإعلام التونسي حينها، بصورة أخنوش وعمار وهما يتصافحان في فرنسا، خلال اللقاء الذي هم "مناقشة سبل تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين"، ووصفته صحيفة "Tuniscope" بـ"الهام"، لافتة إلى أن المسؤولين "تبادلا الابتسامات والآراء حول سبل تعزيز التعاون الثنائي" وهو ما يعكس رغبة مشتركة في تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين الشقيقين، في سبيل إنهاء الأزمة التي أثرت سلباً على العلاقات الثنائية.
وذكرت وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج، أن الوزير نبيل عمار (قبل إقالته)، التقى برئيس الحكومة المغربية خلال الاحتفال الذي أُقيم في مدينة سان رفاييل تحت إشراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كما نشرت صورًا توثق مشاركة نبيل عمار في الاحتفالات، بما في ذلك صورة له مع عزيز أخنوش، الذي حضر كممثل عن الملك محمد السادس.
وكانت "الصحيفة"، قد تواصلت مع مصادر في الخارجية التونسية حينها واستفسرت حول احتمالية وجود قرار بإعادة السفير التونسي في الرباط إلى منصبه، سيّما وأن وزير الخارجية التونسي وقتها، نبيل عمار، قبل إقالته كان قد كشف أن بلاده والمملكة سيُعيدان السفيرين إلى منصبيهما مع مرور الوقت، فيما قالت المصادر الدبلوماسية المسؤولة ذاتها، أنه "إلى حدود الساعة، لا يوجد أي قرار بهذا الخصوص أو مستجدات حول عودة السفيرين، لكن العلاقات مستمرة ولم تنقطع أبدا".
وفي وقت فتحت تصريحات رئيس الدبلوماسية التونسية السابق باب التخمينات لـ " انفراج محتمل" للأزمة الدبلوماسية بين البلدين، عادت خُطوة إقدام الرئيس التونسي قيس سعيّد على اجراء تعديل وزاري واسع النطاق شمل 19 وزيرا بينهم وزراء الدفاع والخارجية والاقتصاد قبل أقل من شهر ونصف على موعد الإنتخابات الرئاسية في البلاد، لتجهض تلك الأحلام الوردية حول مسار الصلح برحيل رئيس الدبلوماسية السابق نبيل عمار الذي أبدى رغبته في حلحلة الأزمة.
والوزير الذي عيّنه سعيّد رئيسا للدبلوماسية خلفا لعمار، لم يكُن سوى محمد علي النفطي، الذي شغل منصب مدير عام الشؤون القنصلية بوزارة الخارجية، كما شغل عدة مناصب في وزارة الخارجية التونسية، أبرزها سكرتير الخارجية للدول العربية والآسيوية، مستشار الشؤون الخارجية، وسفير في سيول، كما عمل في السفارة التونسية في الرياض بالمملكة العربية السعودية، وأثينا باليونان، ومدريد بإسبانيا، على التوالي، كسكرتير أول وقائم بالأعمال.
وإلى حدود كتابة هاته الأسطر، لم ينجح محمد بن عايد، سفير تونس الأسبق لدى موريتانيا خلال الفترة الممتدة ما بين 2013-2016، الذي يراهن عليه سعيد كثيرا في عهدته الثانية على رأس الجمهورية التونسية، على النهوض بالوضع الدبلوماسي وتحسين علاقات تونس مع عدد من الدول، بعدما شهدت اضطرابات متواصلة بسبب المواقف الدبلوماسية غير المسبوقة التي اتخذها في وقت سابق (لم ينجح) في تحقيق أي تقدم إزاء المغرب وهو ما يؤكد الطرح الذي يفيد بأنها "إرادة دولة" في الابقاء على العلاقات في وضعية الجمود حاليا.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :