الشعبوية وحكم الغوغاء

المفهوم والنشأة:
الشعبوية أو ما يسمى بالـ “populism” هي تيار سياسي يتخذ من الطبقات الشعبية قاعدة لخطابه السياسي والايديولوجي ويتخذ من معاداة المؤسسات الرسمية للدولة شعارا له باعتبارها تعمل على تمثيل النخب فقط ولا تمثل "الشعب" كما يعتقدون. ويعود نشأة هذا المصطلح تاريخيا إلى أواسط القرن التاسع عشر في روسيا القيصرية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية ويمكن تقسيم الشعبوية إلى ثلاثة أنواع اعتمادا على النسق التاريخي الذي ظهرت فيه كل نوع منها. أولها الشعبوية الاشتراكية التي هدفت لتحرير الفلاحين الروس من سيطرة النبلاء إذ مهدت لظهور الثورة البلشفية فيما بعد وكذلك الشعبوية الأمريكية المتمثلة في حزب الشعب الأمريكي الذي كان يهدف آنذاك لمحاربة سيطرة رأس المال والدفاع عن حقوق الفلاحين في مواجهة المصارف وشركات السكك الحديدية.
وثانيها الشعبوية الشمولية التي تزامن ظهورها مع الحرب العالمية الثانية من خلال وصول النازيين والفاشيين للسلطة في كل من ألمانيا وإيطاليا ويمكن تفسير ظهورها بما هو ردة فعل على خسارة تلك البلدان للحرب العالمية الأولى. وثالثها الشعبوية الحديثة التي نراها اليوم والتي تسعى لمناهضة العولمة وعالمية حقوق الانسان مع اعتمادها على خطاب قائم على كراهية الأجانب والمهاجرين. وعلى الرغم من الشعبوية تاريخيا ارتبطت بالتيارات اليسارية والاشتراكية إلا أنها أصبحت شيئا فشيئا تغزو اليمين واليسار الليبرالي الذي صار يشكل أكبر كتلة سياسية بالغرب، وربما توجد في صفوفهما بصورة تفوق أحيانا وجودها في اليسار خاصة في أوروبا.
خصائصها وسماتها:
يرى العديد من الباحثين أن الحركات الشعبوية على الرغم من تنوعها إلا أنها تقوم على العديد من المشتركات التي من بينها معاداة العولمة والهجرة واللجوء ورفع شعارات ذات نزعة قومية والدفاع عن الهوية الوطنية من المد الجارف للمهاجرين واستهجان مفهوم حقوق الانسان باعتباره مهددا للقيم والمصالح الوطنية. إضافة إلى تسييس مرافق الدولة، إذ يُطرد الموظفون المناوئون للسلطة القائمة بطرائق شتى، ويحلّ موظفون موالون محلَّهم. وأبرز مثال على ذلك هو مسار 25 جويلية الذي قادها الرئيس التونسي قيس سعيد الذي اتهم المنظومة السابقة التي أنتجها دستور 2014 بالفساد وبأنها تعمل من أجل حماية مصالح لوبيات معينة ولا تهتم بتمثيل "مصالح الشعب".
وعلى هذا الأساس، فإنّ تسييس الوظيفة العمومية وفرْضَ الطابع الاستقطابي على المؤسسات أمران مترابطان لا هدف لهما سوى وضع جميع السلطات بين أيدي السلطة التنفيذية حتى تتحكم في السلطة التشريعية والتخلص من الجهاز البيروقراطي للدولة. فإن الشــعبوّية تحاول محاكاة الديمقراطيّة المباشرة التي ميزت المجتمعات البسيطة مع أنها جزء من مجتمعات سياسيّة معقدة للغاية، توصــف بالمجتمعات ما بعد الصناعية، متعاملة مع الشعب وكأنه جسم متجانس متغافلين عن التنوع الطبقي والاجتماعي والسياسي الذي يشمله الشعب. وفي ســعيها للاتصال المباشر بالشعب، فإنها تعتمد على "القائد والزعيم الكارزماتي"، والذي من الممكن أن يكون مجرد سياسي أو مضلل أو ديماغوجي “démagogue” كما يقول أستاذ الدراسات الفلسفية الزواوي بغوه. إلى جانب
اتسامها بالعنف الرمزي كوسيلة احتجاج ضد النظام النخبوي الذي تتدعي محاربته ولعل خير مثال على ذلك هو اقتحامات الكونجرس الأمريكي التي حشدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما خسر الانتخابات الأمريكية في سنة 2021. واعتمادها على حكم الغوغاء إذ أنها تتخذ من النظام الديمقراطي وسيلة للوصول إلى الحكم وبعد ذلك تقوم بكل ما في وسعها من أجل نقض هذا النظام الديمقراطي".
وليس من المستغرب أن يرى كل من افلاطون وأرسطو بأن الديمقراطية أسوأ أنواع الحكم، فهي عند افلاطون حكم السوقة والغوغاء، ورديفة الفوضى، لأن العامة يتبعون أهواءهم وشهواتهم. وفي الديمقراطية تكون الغلبة لمن يستثير مشاعر الجماهير أكثر، كما أن الحاكم يفتقد الخبرة إلا في فن الخطابة وإرضاء أهواء العامة وهي ذات الآليات التي يقوم عليها الخطاب الشعبوي. علاوة على استغلالهم مشاعر الناس وأفكارهم لتحقيق أهداف سياسية، مقدمين أنفسهم باعتبارهم الصوت الوطني الحقيقي والمدافعين عن "الطبقات المنسية".
وتتميز رؤيتهم السياسية برفض التنوع المجتمعي، والإيمان بوجود صراع بين الشعب والنخب، والاتجاه نحو الفوضوية التي تستند إلى دور مركزي لـ"الشعب" في العملية السياسية ويستحضرني هنا الشعار الذي رفعه الرئيس التونسي قيس سعيد "الشعب يريد"، وهو مفهوم يختلف من حركة شعبوية إلى أخرى. كما يعتمدون على توظيف مشاعر الغضب لدى العامة، لا سيما في أوقات الأزمات الاقتصادية والكوارث والاضطرابات السياسية، لتحقيق مكاسب سياسية.
الشعبوية: صعودها وأسبابها
يعزو الاقتصاديون صعود هذا التيار إلى التحولات الاقتصادية التي شهدها العالم منذ تسعينيات القرن العشرين، بما في ذلك الإفراط في العولمة، وتحرير التدفقات المالية الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، مما أدى إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل والثروة وانعدام الأمن الاقتصادي. إذ يقول الكاتب يوسف الديني: يبدو العالم وكأنه يتجه نحو الانكفاء على ذاته، وكأن العولمة التي أوجدت موجات تفاؤل عبر العقود الماضية لم يعد لها وجود حقيقي في عالمنا الآن، في مقابل صعود موجات الشعبوية.
كما لعبت الأزمات الاقتصادية، وتباطؤ النمو العالمي، وتزايد موجات الهجرة دورًا رئيسيًا في تعزيز الخطاب الشعبوي. على سبيل المثال، عبّر نوربرت هوفر، الذي أدار حملة الانتخابات الرئاسية في النمسا عام 2016، عن هذا التوجه بقوله لمنافسه: "المجتمع الراقي يقف خلفك، ولكن الناس العاديين معي". كما أكد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هذه الرؤية في مقالة بصحيفة وول ستريت جورنال عام 2016، حيث قال: "الترياق الوحيد لعقود من الحكم المدمر من قبل حفنة صغيرة من النخب هو فرض الإرادة الشعبية في كل قضية رئيسة تؤثر على هذا البلد.. إن الناس على حق والنخبة الحاكمة على خطأ".
وفرضه تعريفات جمركية على كل من الصين وكندا والنفط الفنزويلي بذريعة حماية السوق الأمريكي ومواطن الشغل للمواطنيين الأمريكيين ولم يكن نجاح التيارات الشعبوية مقتصرًا على الولايات المتحدة وقد تجلى هذا الاتجاه بوضوح في أحداث مثل البريكست الذي كان مدعوما من أحزاب اليمين الشعبوية التي كانت تنظر تعتبر الاتحاد الأوروبي تهديدا للاقتصاد الوطني البريطاني وبأن سياسات الهجرة التي يعتمدها الاتحاد تعمل على خلق منافسة بين المواطنيين والمهاجرين وهو ذات الشعار الذي تعتمده زعيم أقصى اليمين ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ، وصعود ترامب، وصعود مارين لوبان في فرنسا.
الشعبوية في العالم العربي:
لم يكن العالم العربي بمنأى عن موجة الشعبوية، لكنها اتخذت طابعًا مختلفًا يتداخل فيه الديني بالسياسي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي أطلق ما يُعرف بالشعبوية الدينية من المعتقلات، ليكون أول ضحاياها لاحقًا. وعلى الرغم من أن منطق الشارع والحشود لم يكن يعكس دائمًا طبيعة المكونات المؤثرة في البلدان العربية، إلا أنه أصبح جزءًا من المرحلة السياسية الجديدة، خاصة خلال فترة الثورات العربية.
فلطالما كانت قوى الثورة المضادة تعتمد على خطاب شعبوي مستغلة حالة القلق التي تعيشها الشعوب العربية بعد سقوط الأنظمة المستبدة ففي الحالة التونسية مثلا نجد صعود خطاب اليمين المتطرف من خلال خطاب شعبوي تجسده السياسية عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر التي عملت ليلا نهارا على الطعن في الثورة وتشنيعها مستغلة الأوضاع الاقتصادية وتدني القدرة الشرائية للمواطنين بعد الثورة واعتمادها على العنف الرمزي والذي يتعداه أحيانا للعنف المادي داخل قبة البرلمان.
وكذلك الرئيس التونسي قيس سعيد الذي بنى كامل خطابه السياسي على معاداة النخبة الحاكمة من أحزاب ونقابات واتحادات عمالية رافعا شعار الشعب يريد ومكافحة الفساد الذي نتج عنه اعتقال مئات رجال الأعمال والسياسيين واجراء العديد من الإصلاحات على الجهاز القضائي، التي يراها معارضوه محاولة منه لتطويع جهاز القضاء وتسيسه. إلى جانب معارضته للديمقراطية التمثيلية في شكلها الليبيرالي ودعوته "لحكم الشعب" عن طريق الانتخابات القاعدية.
عود على بدء يرى الباحث بيير روزنالفون في كتابه قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد أن الشعبوية ليست مجرد ابتكار دكتاتوري، بل هي جزء من تاريخ الديمقراطية الحديثة، حيث تقوم على القطيعة مع المفاهيم التقليدية للشعب، وتقديمه ككتلة واحدة في مواجهة الحكام المستبدين، مع تعزيز دور الزعيم القوي الذي يجسّد إرادة الأمة.
كما تعتمد الشعبوية على رفض الديمقراطية التمثيلية لصالح الديمقراطية المباشرة، التي تُترجم عمليًا من خلال الاستفتاءات وسياسات الحماية الاقتصادية التي تستهدف الحد من تأثير العولمة والمهاجرين. وعلى الرغم من أن بعض التحليلات ترى في الشعبوية ظاهرة متناقضة لا تستند إلى نظرية سياسية واضحة، إلا أن الباحث إرنستو لاكلو حاول تقديم أسس أنطولوجية لهذه الظاهرة، معتبرًا أنها تمثل استراتيجية سياسية تهدف إلى خلق هوية جماهيرية موحدة ضد النخب الحاكمة.
في المجمل، تبقى الشعبوية ظاهرة سياسية معقدة تتجلى بطرق مختلفة وفق السياقات الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد، لكنها تشترك في جوهرها في تقديم نفسها كصوت "الشعب الحقيقي" في مواجهة النخب، مستفيدة من الأزمات والاضطرابات لتعزيز حضورها وتأثيرها.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :