القرارات الغير محسوبة وما قد يترتب عنها من آثار
حينما نتحدث عن القرار العمومي فنحن نتحدث عن قرار ذو مجالات تدخل جد واسعة. فهذا القرار يتدخل في ميادين لا تحصى ولا تعد، فيها ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي، ما هو جبائي وما هو خيري أو رعائي، وما هو متعلق بالأطفال وما هو متعلق بالشباب أو المرأة، ناهيك عما هو أمني، إلى آخره.
تدخلاته هذه تحدث بالضرورة تغيرات في أوضاع الأفراد والجماعات والمؤسسات، الشيء الذي ينتج عنه ردود فعل فردية، جماعية أو مؤسساتية قد تكون إيجابية كما قد تكون سلبية. فالقرار العمومي لا يحظى دوما برضا وقبول الجميع، إذ ضروري ما تكون هناك فئة أو فئات ترفضه وتعارضه. وهذان الرفض والمعارضة قد يتمخض عنهما نزاعا أو نزاعات هي، قد تتخذ شكل النزاع الدستوري أو النزاع الإداري، كما قد يتولد عنهما ظهور حركات احتجاجية قد ينتج عنها تحولات سياسية أو إدارية كبرى.
فيما يخص النزاع الدستوري، فالقرار العمومي قد يتم الطعن فيه أمام المحكمة الدستورية بسبب مخالفة منطوقه أو مضمونه للمقتضيات الدستورية وتعديه على المكتسبات الحقوقية التي يمنحها ويضمنها الدستور للمواطنات والمواطنين.
وفي هذا الصدد، ينص الدستور المغربي في مادته 133 على ما يلي : "تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور.
يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل"… هذا القانون التنظيمي إلى يومنا هذا لم ير النور بعد.
أما فيما يخص النزاع الإداري أو المنازعات الإدارية، فالمتغيرات التي يحدثها القرار العمومي قد تلحق ضررا أو أضرارا هي بمواطن ما أو جماعة من المواطنين، الشيء الذي قد يترتب عنه حدوث نزاع. هذه النزاعات التي قد تنشأ حول الآثار الناجمة عن هذا القرار أو المحتملة الوقوع يؤطرها القانون الإداري وتختص بعملية البت فيها المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية أو محكمة النقض عندما يتعلق الأمر بالمقررات الصادرة عن رئيس الحكومة.
فقد منح المشرع المغربي للمحاكم الإدارية سلطة البت ابتدائيا في دعاوي الإلغاء أو التعويض التي ترفع ضد شخص من أشخاص القانون العام بسبب نشاطه الإداري باستثناء رئيس الحكومة بطبيعة الحال.
فالمادة 8 من القانون رقم 41.90 المحدث بموجبه محاكم إدارية تنص على أنه من بين اختصاصات هذه المحاكم البت ابتدائيا في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة وفي النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية ودعاوي التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام، ماعدا الأضرار التي تسببها في الطريق العام مركبات أيا كان نوعها يملكها شخص من أشخاص القانون العام، وكذا بالنظر في النزاعات الناشئة عن نزع الملكية لأجل المنفعة العامة.
واستثنت المادة 9 من هذا القانون البت في طلبات الإلغاء بسبب تجاوز السلطة المتعلقة بالمقررات الصادرة عن رئيس الحكومة من اختصاص المحاكم الإدارية مؤكدة على أنه اختصاص حصري - أي ابتدائي ونهائي - لمحكمة النقض.
أما استئناف هذه الأحكام فهو من اختصاص محاكم الاستئناف الإدارية التي يؤطرها القانون رقم 80.03 المحدثة بموجبه محاكم استئناف إدارية والذي جاء في مادته 5 : "تختص محاكم الاستئناف الإدارية بالنظر في استئناف أحكام المحاكم الإدارية وأوامر رؤسائها ما عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة".
المنازعات هذه، في حالة إذا ما تم البت فيها بحكم يطالب الإدارة المغربية بالتعويض عن الضرر فهي ترهق مالية الدولة وتزيد من حجم نفقاتها الميزانياتية. كما قد تتسبب لهذه المالية في حالة من العجز إذا ما تفشت العشوائية في التسيير وكثرت القرارات الغير المحسوبة جيدا التي لا تغطي أرباحها ما ينجم عنها من خسائر.
أما بالنسبة للحركات الاحتجاجية، فقد يكون لبعض القرارات العمومية أثر القنبلة الذرية أو النووية التي تولد تسونامي من الاحتجاجات الشعبية من شأنها إسقاط الأنظمة الحاكمة أو على الأقل إجبارها على إحداث تعديلات أو تغييرات في سياساتها وتارة حتى في تنظيمها الإداري وهيكلتها الإدارية.
فالعديد من الأنظمة الملكية سقطت بسبب قراراتها العمومية الجائرة خصوصا تلك المتعلقة بالنظام الضريبي. سقوطها هذا فسح المجال لظهور أنظمة حكم جديدة قوامها الديمقراطية طعمت بمساراتها وتجاربها حقل الفكر السياسي بمفاهيم حديثة كالنظام الرئاسي، البرلماني أو الشبه رئاسي، تداول السلطة، الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، الاشتراكية، العلمانية، إلى آخره.
وحتى في خضم التجربة الديمقراطية، ساهمت الحركات الاحتجاجية وخصوصا العمالية منها في إغناء هذه التجربة بإجبار الديمقراطيات الحاكمة بعدم الاهتمام فقط بما هو أمني وقضائي وعسكري وجبائي وبالاستثمار فقط في مجالات النقل والتواصل السلكي واللاسلكي والتعليم وفرضت عليها العناية بمجالات الحماية والرعاية الاجتماعية.
كذلك فرضت عليها إعادة النظر في تنظيمها الإداري وهيكلتها الإدارية، إذ تم الانتقال من المركزية إلى اللاتمركز ثم بعد هذا إلى اللامركزية. كل هذا بغية تقريب الإدارة من المواطنين وكذا إعادة تنظيم تموقعها الجغرافي وتشكيل تركيبتها البشرية بشكل يسمح لها بالتغلغل والتعمق في شرايين وجذور المجتمع وبالتالي فهم خصوصيات الساكنات المحلية واستيعاب حاجياتها بشكل أكثر دقة.
كما تم تبني منطق التدبير الميزانياتي القائم على النتائج وكذا ما أصبح يعرف بالتدبير العمومي الحديث وما ينطوي عليه من معايير كالفعالية والنجاعة والجودة وغير هذا من الفلسفات والمقاربات التي أحدثت ثورة في مجال الإصلاحات الإدارية والتدبير الإداري للمؤسسات العمومية بشكل عام. هذا كله بغية تجويد عملية صنع القرار وتفادي مخاطر القرارات المعتمدة بطرق عشوائية وغير علمية.
فالقرارات الغير مدروسة جيدا قد تتمخض عنها حوادث لا تحمد عقباها… ولهذا صار من اللازم اليوم قبل اتخاذ أي قرار، القيام بدراسة توقعية لآثار هذا القرار وما قد ينتج عنه من ردود فعل قد تقود في حالة سوء تقدير في الحسابات والتوقعات أو غياب كلي للنظرة المستقبلية إلى نشوء حالة من عدم الاستقرار أو هيجان من الاحتجاجات قد ينتهي بنتائج تتخطى إلغاء القرار وتصل إلى حد إسقاط النظام.
*كاتب إسلامي وباحث في الأداء السياسي والمؤسساتي