المنصور الذهبي.. أعظم مُلوك السعديين الذي قاوم المؤامرات واستسلم للطاعون
قامت دولة الأشراف السعديين في المغرب الأقصى بين 910 إلى 1069 هجري (1510- 1658م)، وخلالها شهدت المنطقة تطورا وازدهارا في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وحلت مظاهر التطور والرقي في الاجتماعية، كما شهد المغرب الأقصى أيضا ثورة عمرانية وعلمية في هذه الحقبة الذهبية.
طبعا كل فترة تاريخية مميزة يكون وراءها شخصيات وعظماء تركوا بصمتهم، وكتبوا أسماءهم وانجازتهم بأحرف ذهبية، الحديث في هذه الحلقة سيكون عن أعظم خلفاء دولة الأشراف السعديين في المغرب، وهو أحمد المنصور الذهبي، الذي حمل المغرب إلى القمة في عهده.
رؤية العلم منذ نشأته !
أحمد المنصور الذهبي بن محمد الشيخ المهدي بن محمد القائم بأمر الله الزيداني الحسني السعدي، ولد في مدينة فاس 1549م، ومنذ نشأته وضع رؤية العلم والثقافة والأدب والفقه نهجا لحياته، وبعد أن تولى أخوه، الحكم في المغرب، تنقل المنصور إلى الجزائر ثم إلى تركيا، ودرس كل صغيرة وكبيرة، واكتسب خبرة ورؤية في شؤون أوروبا ودول البحر المتوسط، ومع مرور الوقت أظهر موهبته ودهائه في تسيير أمور المغرب الخارجية، وانتهى به الأمر لتأليف كتاب يشرح فيه علوم السياسية للمغاربة، لحثهم على مشاركته في معرفة شؤون بلادهم.
تواصل نضوج المنصور، وحصل على ثقة أخيه عبد الملك المعتصم، الذي رشحه لولاية عهده، ثم أصبح خليفة على فاس، فقاد الجيوش وحقق الانتصارات، ولعب دورا كبيرا في الحفاظ على متانة وكيان المغرب الأقصى في تلك الفترة.
مبايعة وخيانة
في 986 هـ، بويع المنصور بالخلافة على المغرب، بعد قيادته للجيش في الهزيمة التاريخية التي ألحقها بالجيش الصليبي البرتغالي، وقتل منهم 12 ألف جندي، وأسر أكثر من 1400 آخرين، ليظفر بثقة الجميع نظرا لقيمته وهيبته، وقيادته الرشيدة في أرض المعركة، اضافة إلى ما وصل إليه من علم وأدب.
بداية خلافة المنصور لم تكن سهلة وزاهية، بعدما تعرض لعقبات جعلته يلوذ بالفرار خوفا على حياته، بعدما تآمر عليه قادة أتراك اجتمعوا مع كبار الجيش المغربي، واتفقوا على مبايعة بن عبد الملك المعرش السعدي، مستغلين شعبيته، ولكن المغاربة اجتمعوا على كلمة الحق، وتمسكوا بموقفهم في مبايعة أحمد المنصور، الذي عاد مرة أخرى إلى المغرب ليقوم بـ"قطف رؤوس" كل "الخونة" في الجيش والتخلص من المشكوك في اخلاصهم.
دهاء المنصور ينقذ المغرب
في هذه المرحلة من حياة المنصور، كان قد استقر به المقام خليفة على المغرب الأقصى، واستقبل التهاني والهدايا من الممالك المجاورة والصديقة، ولكن تفاعله مع الهدية العثمانية كان فاترا، وتأخر عن جوابه على رسالة السلطان العثماني مالك القسنطينية مراد بن السلطان سليم التركماني، الذي كان يطلب التبعية المغربية للدولة العثمانية، ما جعل السلطان العثماني يغتاظ وقرر التخطيط لاجتياح المغرب والسيطرة عليه. إذ ذاك أرسل في طلب وزير البحر علي علوج، الذي كان مستعدا بقوات ضخمة للاستلاء على المغرب والرد على تجاهل المنصور.
في هذه الأثناء، كان المنصور قد وضع خطتين لتجنب هذا الاجتياح المتوقع، الأولى عندما توجه إلى فاس وشحن قواته، ووضعه خطط ودق طبول الحرب، ومن جهة أخرى بعث رسولين إلى السلطان العثماني، ومعهما هدية ثمينة مقدما اعتذاره عما سلف منه، حيث قبل السلطان هديته وأصدر أوامرا إلى علوج بالعودة إلى تركيا وإلغاء الحملة المخططة على المغرب.
بهذا التصرف استطاع المنصور أن يجنب بلاده ويلات الحرب، وحافظ على متانة العلاقات لمصلحة رعيته ولضمان سير المغرب على نهج التطور والرقي لسنوات طويلة.
الثوار والمؤامرات !
لم تكن أكبر مخاوف الخليفة السعدي هو السلطان العثماني، بل كانت الثورات الداخلية والمؤامرات الخفية التي تعرض لها داخل بلاده، والتي حاول السيطرة عليها في كل مرة.
وكما يقال، فإن المصائب لا تأتي فرادى، وهذا ما حصل بعدما تعرض المنصور لمرض خطير وشديد، جعله يفكر في التخلي عن الحكم، وتعيين خليفة له، حيث وقع اختياره على ولي عهده ونجله محمد الشيخ.
هذا الاختيار أغضب ابن أخيه داوود بن عبد المؤمن، الذي قاد ثورته ضد عمه، التي أجهضها المنصور في نهاية المطاف، وهلك داوود في الصحراء سنة 988 هـ.
لم يهدأ بال المنصور، واستمرت المؤامرات والثورات، التي قضى عليها جميعا، على غرار ثورة الحاج قرقوش ببلاد غمارة، إلا أن أخطر ثورة التي هزت المغرب الأقصى، هي ثورة ابن أخيه الناصر بن الغالب، والأسوأ على الإطلاق ثورة نجله وإبن صلبه وولي عهده المأمون محمد الشيخ.
ثورة الناصر كان ورائها ملك إسبانيا فيليب الثاني، الذي أشعل نار الفتنة، وأرسل الناصر إلى ميليلة لجمع حشده ومؤيديه للإنقلاب على المنصور وتفرقة بلاد المغرب، وبالفعل استطاع الناصر أن يهزم جيشا كبيرا أٍرسله عمه المنصور، والذي لم ير سوى في ولي عهده القدرة على إيقاف هذه الثورة والقضاء على الناصر. وبالفعل لحقه إلى بلدة تازة بالجاية، وقطع رأسه وحمله إلى مراكش عام 1005 هـ.
ولي عهد المنصور عاد ليخلق ثورته الخاصة ضد والده، وهي الأسوأ على الإطلاق في حياة الذهبي السعدي، وتشير الدلائل التاريخية أن الأتراك من كانوا ورائها، حيث عاث ولي العهد محمد الشيخ فسادا في فاس، عندما كان خليفة لأبيه هناك، وكثرت الشكاوي وزاد عبثه، ما جعل المنصور يتدخل ويأمره بالتوقف عن تصرفاته، غير أنه واصل عناده.
المنصور استطاع بفضل دهائه مرة أخرى أن يجنب المغرب ما لا يحمد عقباه، واستطاع اجهاض ثورة إبنه دون إراقة الدماء، بعدما بعث إليه كبار وأعيان المنطقة لنصحه وعقد هدنة ومعه، وفي نفس الوقت سار رفقة 12 ألف جندي سرا، للوصول إلى فاس دون سابق انذار، وقتل الثورة قبل أن تبدأ، وبالتالي غلق الطريق أمام الأتراك الذي كانوا يخططون لتقسيم المغرب من خلال ثورة محمد الشيخ، التي انتهت سنة 1011 هـ.
العصر الذهبي
وسجل التاريخ بروز أهم النظم ومظاهر الحضارة المختلفة في شتى مرافق الدولة في عهده، وبين طبقات المجتمع المغربي، وأعظم انجاز هو قصر "البديع" الذي استغرق بناؤه منذ تولِّي المنصور الخلافةَ حتى وفاته، وقد أخذ هذا القصرُ مِن اسمه الكثيرَ من مظاهر الإبداع.
أنشا المنصور المدارس ومعاهد العلم، وحث على طلب الأدب والعلوم والقضاء على الأمية، كما شيّد المستشفيات والقناطر، والطرق والمدن والقرى، وقام ببناء الحصون والقلاع، وازدهرت في عهده الإمبراطورية المغربية رغم تربص الأعداء الذين أغلق عليهم كل الثغرات بفضل دهائه وعلمه.
وركز المنصور على زراعة السكر وصناعته، ووسع مزارعه، ور مصانع تصفية السكر، وجهزها بأحدث الآلات بحيث أصبح السكر المغربي مرغوبا فيه من مختلف البلاد الإفريقية والأوربية، ووظف الأرباح في تشييد منشآت عمرانية دينية وعلمية وعسكرية في مختلف أنحاء البلاد.
توسعة الإمبراطورية المغربية
أهم حدث يرتبط بتاريخ المنصور الذهبي وبدولة الأشراف السعديين، هو ضم بلاد السودان الغربي إلى المغرب الأقصى، فقد امتد سلطان المنصور إلى تمبكتو وكاغو وكاتم بأرض السودان، ولولا كيد العثمانيين، ومؤامراتهم لانضمَت أيضا مملكة التيكرور وبرنو منذ ذلك العهد، ولكانت بأفريقيا دولةٌ إسلامية معتزة بشعوبها وسلطانها في العصر الذي تحوَلَت فيه الحياة في أروبا إلى الصناعة والغزو والفتوحات.
ومع حلول عام 1000 هـ (1591 م)، أصبح المنصور إمبراطورا يحكم أراضيَ واسعة بغربي إفريقيا، تضم من بين مناطقها بلاد السودان الغنية بذهبها وتوابلها ورقيقها، والتي كانت من أهم الأسواق التجارية في العالم وفي القارة السمراء خصوصا.
وخلال رحلة التوسع، لم يغفل المنصور أمر رعيته، وسهر على رفع المستوى المعيشي، وتطوير دولته سياسيا وحضاريا، وجعل مختلف الطبقات في المجتمع المغربية متقاربة ومثقفة.
التوجه نحو المشرق ولكن ..
بعد توسيع رقعته وامبراطوريته في إفريقيا، وضع المنصور الذهبي هدف التوجه إلى المشرق العربي نصب أعينه، لأنه يفتخر دائما بأصله العربي ونسبه الشريف، وكان يرى أن العرب أولى بالخلافة من الأتراك على المشرق الإسلامي.
وبينما كان المنصور يرسل بدعاته للتبشير بخلافته في المشرق الإسلامي، وتوثيق علاقته مع الشخصيات الكبيرة هناك، منعته الأحداث الداخلية والمؤامرات التي قادها الملك الإسباني فيليب الثاني من استكمال مخططه، ليتجه نحو الغرب، ويعقد تحالفا عسكريا مع بريطانيا لغزو إسبانيا.
وبينما كان الإتفاق المغربي البريطاني يضع لمساته الأخيرة، تدخلت الملكة إيليزابيث وتراجعت عن الاتفاق، لأنها ترفض أن يغزوا ملك مسلم أرضا مسيحية، ووجهت نظر المنصور نحو مستعمرات اسبانية بعيدة المدى.
الطاعون يرسم نهاية أعظم خلفاء السعديين
لم يضيع المنصور وقته بالبحث عن مشاريع بعيدة المدى، خاصة بعد انتشار داء الطاعون في المغرب، الذي رسم نهاية الذهبي سنة 1012 هـ، حيث توفي متأثرا بهذا الداد، بعدما بلغت الامبراطورية المغربية أوج تطورها ورقيها في عهد الأشراف السعديين، ووصلت إلى قمة عظمتها واتساعها، وقطعت أشواطا كبيرة في الحضارة والعمران والعلم، ليكتب التاريخ اسم المنصور الذهبي، الذي كان حقبته ذهبا خالصا في تاريخ المغرب العريق.
ونقل جثمان المنصور الذهبي بعد ذلک الإثنين إلى مراكش حيث دفن بها في ضريح السعديين.