"الولاء الديني للرباط لا لمكة".. مسلمو سبتة يدفعون نحو إلغاء شعيرة الأضحية اقتداءً بتوجيهات الملك محمد السادس
رغم انتمائهما السياسي إلى السيادة الإسبانية، تظل سبتة ومليلية المحتلتين مشدودتين بخيط رفيع لكنه متين إلى المرجعية الدينية المغربية، ففي عيد الفطر الأخير، اختار المسلمون في المدينتين أن يصوموا ويفطروا على إيقاع الرباط، انسجاماً مع إعلان وزارة الأوقاف المغربية العيد الإثنين، على خلاف التقويم الرسمي المعتمد في باقي أنحاء إسبانيا، ومرة أخرى يتكرر المشهد في سياق أكثر حساسية، بعد أن توالت الدعوات من هيئات وشخصيات محلية تدعو إلى الالتزام بتوصية الملك محمد السادس بعدم ذبح الأضاحي خلال عيد الأضحى، تضامناً مع ظروف المغاربة الاقتصادية وعلى اعتبار أن الرباط أقرب من مكة.
وفي نهاية فبراير الماضي، وجّه الملك محمد السادس دعوة علنية إلى مواطنيه أهاب إليهم عدم ذبح الأضاحي هذا العام، ورغم تقديمها في شكل "توصية"، إلا أن السياق المغربي لا يسمح بفصل الرمزي عن السياسي، ولا الديني عن السلطوي، ما يجعل من كلام العاهل المغربي أقرب إلى الأمر غير المعلن، خصوصاً في ضوء صفته كـ"أمير المؤمنين" التي تمنحه سلطتين متداخلتين، هما السلطة الروحية وسلطة السياسية.
والسبب بدا واضحاً، ألا وهو الجفاف الحاد الذي تشهده المملكة منذ ستة عقود وارتفاع أسعار الماشية ما جعل من شعيرة الأضحية عبئاً ثقيلاً على فئات واسعة من المغاربة سواء في المداشر والقرى أو الحواضر، لهذا عمد الملك إلى رفع هذا حرج عنهم، حينما تردد صدى هذه التوصية في سبتة ومليلية، حيث لا يعاني السكان نفس الظروف الاقتصادية إذ أن ثمن الأضحية يبلغ حوالي 250 أورو، ما يزال في المتناول بالنسبة للأسر الإسبانية، وبالتالي بدأ النقاش يأخذ طابعاً هوياتياً يتجاوز البعد الديني المحض.
حينما تُملى الطقوس من خارج السيادة
"هل يجب على مدينة إسبانية مثل سبتة أن تلتزم بقرار صادر عن بلد مجاور؟" يتساءل عبدالكامل محمد، رئيس جمعية سكان حي برينسيبي ألونسو، وهو حي ذو غالبية مسلمة في سبتة، موردا في مقال رأي نشره في صحيفة" إل فارو دي سبتة"، هل يجب أن نتبع التوجيهات الدينية الصادرة عن الرباط، أم نتبع المرجعية الإسلامية العالمية المرتبطة بمكة، والمجالس الفقهية الكبرى؟".
في مدينة تُعرّف دستوريًا كجزء من إسبانيا، لكن سكانها المسلمين يحتكمون فعليًا إلى تقويم ومواقف المغرب بل ووزارة الأوقاف المغربية، ذلك أن المملكة تتكفل بجميع مصاريف مساجد مدينة سبتة وعددها 17، بالإضافة إلى نفقات 34 مسجدا من أصل 42 في مدينة مليلية، وبالتالي لا يبدو هذا التساؤل ترفًا فلسفيًا، بل هو تعبير عن مأزق عميق في إدارة التنوع الديني والسيادي داخل الدولة الإسبانية.
وفي الواقع، يعيش المسلمون في سبتة ومليلية نوعاً من الانفصام الديني، فهم قانونياً مواطنون إسبان، لكن مرجعيتهم الرمزية والدينية تعود إلى المؤسسة الدينية المغربية، وهو ما يتكرر كل عام مع مواقيت الصيام والعيدين، حيث تحتفل سبتة ومليلية في الغالب وفق إعلان وزارة الأوقاف المغربية، لا حسب ما تقرره اللجنة الإسلامية في إسبانيا.
دعم للمغرب منظّم عبر جمعيات محلية
لم يكن استنساخ الموقف المغربي في المدينتين محض صدفة، بل تقف خلفه جمعيات ومجموعات عدة يصفها الاعلام الإسباني بـ "القريبة من الرباط"، تبنّت الخطاب الملكي ودعت إلى الامتثال له، أبرزها جمعية "المستهلكين الحلال" في سبتة، برئاسة عبد المالك محمد عمار، وهو رجل أعمال محلي "مقرّب" من الدوائر المغربية وفق توصيف "إل كونفيدونثيال" الاسبانية.
تقول الجمعية إن توصية الملك "موجّهة إلى من يعرّفون أنفسهم كمسلمين"، داعية مسلمي سبتة إلى "العمل وفقاً لذلك"، وتُضيف أن اتباع تعليمات السعودية لا يبدو منطقياً، ما دام هناك بلد مسلم أقرب من الناحية الجغرافية والثقافية، موردة "الأمر لا يتعلق فقط بتقويمات فلكية، بل بالتضامن مع المسلمين الأقرب إلينا، في المغرب"، تقول الجمعية التي تصدّرت هذا الخطاب في الإعلام المحلي.
الموقف نفسه عبّرت عنه "الجماعة الإسلامية لمليلية"، وهي جمعية محلية صغيرة يرأسها محمد أحمد، إذ أكدت أن "غالبية مسلمي المدينة يشاركون رؤية أمير المؤمنين محمد السادس ويعتبرون قراره عقلانيًا".
صمت رسمي إسباني.. وانكفاء للجنة الإسلامية
في مواجهة هذا الانجراف نحو مرجعية المغرب وتقويمه، تلتزم اللجنة الإسلامية في إسبانيا صمتًا ملحوظًا، فرئيس فرع اللجنة في سبتة المحتلة، حميدو محمد، قال إن "الحديث في هذا الموضوع معقد"، وفضّل التريث قبل الإدلاء بأي موقف، بحجة أن الوقت ما يزال مبكرًا على موعد العيد حسب ما نقلته الصحيفة الاسبانية، أما ممثل اللجنة في مليلية، فاختار ألا يرد على أي استفسار.
الصمت لا يبدو بريئًا، بقدر ما هو انعكاس لفقدان السيطرة على المشهد الديني في المدينتين المحتلتين، حيث باتت وزارة الأوقاف المغربية تلعب دور المرجعية المطلقة، متجاوزة بذلك حتى السلطات الرسمية الإسبانية، دون أن تواجه اعتراضاً مباشراً من أي مستوى حكومي.
والنفوذ الديني المغربي في سبتة ومليلية ليس مجرد تأثير رمزي، بل يستند إلى بنية تنظيمية وتمويلية ملموسة، إذ تتكفّل وزارة الأوقاف المغربية برواتب 95 إماماً و34 مسجداً في سبتة المحتلة، و58 إماماً و17 مسجداً في مليلية المحتلة، وهذا الاستثمار في "السلطة الرمزية" كما يسميها بيير بورديو، يُترجم في تأثير ديني وسياسي لا تخطئه العين.
ورغم الجدل الدائر، لم تُغيّر السلطات المحلية في سبتة ومليلية خططها المعتادة، ففي سبتة أعلنت البلدية أنها ستضع رهن إشارة المواطنين خمسة مجازر متنقلة، إضافة إلى المجزر البلدي، في حال قرر السكان المضي قدماً في ذبح الأضاحي.
ولا يخرج النقاش المثار حول دعوات الامتثال لتوصية الملك محمد السادس بعدم ذبح الأضاحي في سبتة ومليلية عن سياق أوسع، يتجدد كل عام مع المناسبات الدينية الكبرى، ويعكس حضوراً واضحاً للمرجعية المغربية في مدينتين تُصنفان إداريًا ضمن التراب الإسباني، بينما تظل علاقتهما بالرباط، دينياً وثقافياً، قائمة وقوية.
وفي عيد الفطر الأخير، اختار مسلمو سبتة ومليلية مجددًا الاصطفاف إلى جانب الموقف المغربي، حين قرروا، بشكل مشترك ومعلن الاحتفال بالعيد يوم الاثنين، على خلاف ما أعلنت عنه المفوضية الإسلامية في إسبانيا (CIE) التي حددت يوم الأحد موعداً لانتهاء رمضان، استنادًا إلى ما وصفته بـ"رؤية الهلال المعتمدة في عدد من الدول الإسلامية".
وفي المقابل، اختار مسلمو المدينتين اعتماد بلاغ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، وأتموا صيام يوم الأحد باعتباره اليوم التاسع والعشرين من رمضان، ثم احتفلوا بعيد الفطر يوم الاثنين، بما يُكرّس انفصالهم الرمزي عن الإطار الرسمي الإسباني، ويؤكد تمسكهم المتواصل بالمرجعية القادمة من الرباط.
في هذا السياق، نقلت وكالة الأنباء الإسبانية EFE أن مسلمي المدينتين قرروا اعتماد تاريخ العيد بناءً على "رؤية الهلال من قبل السلطات الدينية المغربية"، مشيرة إلى أن "المسلمين هناك يقتدون بأحكام الإسلام الصادرة عن البلد المجاور لهم"، في إشارة إلى المغرب، وهو توصيف يحمل في طياته اعترافاً ضمنياً باستمرار تأثير الرباط في تدبير الشأن الديني داخل المدينتين.
ويعكس هذا الواقع مفارقة واضحة في بنية التمثيل الديني داخل إسبانيا، إذ بينما تعتمد أغلب الهيئات الإسلامية في البلاد الحسابات الفلكية والتقويم السعودي تفادياً لتضارب المرجعيات داخل الجاليات، يصرّ مسلمو سبتة ومليلية على تتبع ما يصدر عن المؤسسات الدينية المغربية، ما يجعلهم خارج الانضباط الديني العام داخل إسبانيا، رغم أنهم يحملون جنسيتها.
ووفق معطيات رسمية إسبانية، يعيش في مدينة سبتة نحو 35 ألف مسلم من أصل 84 ألف نسمة، أغلبهم مغاربة أو من أصول مغربية، فيما يبلغ عدد المسلمين في مليلية أكثر من 31 ألفاً من أصل 78 ألف نسمة، ما يجعلهم مكوناً رئيسياً في البنية السكانية والاجتماعية للمدينتين.
بهذا الشكل، تظل سبتة ومليلية مجالاً معلقاً بين سيادتين، الأولى سياسية، تدّعيها مدريد وتفرضها واقعياً، والثانية دينية ورمزية، تنسجها الرباط بهدوء عبر توجيه المواعيد، وتدبير المساجد وتمويل الأئمة، وفرض إيقاع شعائري يؤكد أن الجغرافيا وحدها لا تصنع السيادة، وأن الولاء الروحي قد يكون أكثر رسوخاً من الحدود.