انتخابات مصر… دون مفاجآت ولا ضجيج
كانت الحرب في غزة بمثابة الشجرة الضخمة التي غطت بظلها على مجمل الأحداث الأخرى في الشرق الأوسط، وتحديدا انتخابات الرئاسة في مصر. تقارير الإعلاميين ومقالات الكتاب وعدسات الكاميرا اتجهت صوب مواكبة يوميات غزة الغزيرة بالأحداث، واكتفت بمرور الكرام على المشهد الانتخابي في أمّ الدنيا. وعلى العموم فإن الاستحقاقات الرئاسية في منطقتنا العربية لا تستحق عناء الترقب وشد الأعصاب إذ أنها لا تنتهي أبدا بمفاجأة، باستثناء ما حدث في تونس مع قيس سعيد.
أمام قائمة من المرشحين المغمورين ووسط وضع إقليمي غير مسبوق بتداعياته وتحدياته الكبيرة على أمن مصر القومي، بدا طريق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سالكا نحو الولاية الثالثة دون ضجيج، بعد أن رجحت كفة المصريين لضرورات الاستقرار السياسي، وبعد أن أبلى الموقف الرسمي بلاء حسنا حيال مخططات ضم غزة وتهجير الغزيين وتصفية القضية الفلسطينية. ومع ذلك يبقى سقف المطالب عاليا أمام تعثر الاقتصاد وتخبط الجنيه، وهو ما سيجعل ولاية السيسي الثالثة مثقلة بالتحديات الاقتصادية والسياسية في آن واحد، تماما كما كان الحال في ولايته الأولى عندما كان الميدان يعج بألغام الإخوان وتركة حسني مبارك.
في نظر المنتقدين يكفي الحكم على خطة التعويم التي قفزت بالدولار من 7 جنيهات إلى 30 جنيها، وأثرها على ارتفاع تكاليف المعيشة والدين العام لتكون خير دليل على فشل تجربة الولايتين السابقتين. أما في نظر الداعمين فالسيسي استلم البلاد مثقلة بتراكمات مرحلة دامت ثلاثة عقود ركز فيها النظام على مفهوم الدولة الاجتماعية في شقه الذي يعنى بدعم الغذاء فقط، مهملا الجوانب الأخرى من تنمية محلية واستصلاح زراعي وبنى تحتية. وفي نظر الداعمين أيضا غيَّر السيسي من الصورة النمطية التي نسبت لمصر بعشوائياتها الفقيرة وطرقها المكتظة وسكك حديدها المهترئة والممتدة في ربوع البلاد إلى صورة بواقع مغاير وبنهضة عمرانية لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد، وتتجسد هذه الصورة في عاصمتها الإدارية الجديدة ومدنها الساحلية السياحية التي استحدثت في زمن قياسي.
وفقا لإحصائيات لوحة المعلومات السكانية العالمية التابعة للأمم المتحدة يعادل عدد سكان مصر تقريبا عدد سكان دول المغرب العربي مجتمعة، وبحسب أرقام صندوق النقد الدولي المحدثة عن الناتج الإجمالي المحلي جاءت مصر في المرتبة الثانية أفريقيا، وبحسب الإحصائيات المقدمة من بنك “راند ميرشانت” تتصدر مصر المرتبة الأولى كأفضل وجهة استثمارية في قارة أفريقيا.
هي مقارنة بسيطة ولكنها كفيلة بأن تعطي تصورا لحجم الإنفاق والأعباء الملقاة على ميزانية الدولة المصرية، وفي نفس الوقت فهي تقدم أقوى حجة على أن البلاد تشهد ديناميكية اقتصادية أعطتها شرف التواجد ضمن كبار مجموعة بريكس، رغم كل ما شهده محيطها من توترات جيوسياسية وما شهده الاقتصاد العالمي من هزات ارتدادية من وباء كورونا إلى حرب فلاديمير بوتين في أوكرانيا.
الأمور لا تبدو مثالية وإنكار النقائص وإخفاء مواطن الخلل لا يمكن أن يكون إلا أسلوبا من أساليب التطبيل الإعلامي الذي يهدم ثقة المواطن بالدولة ويضرب العلاقة بين الحاكم والمحكوم في العمق، وهو الخطأ الذي تقع فيه أغلب الأنظمة السياسية في العالم العربي فهي تختزل تعريف السلطة الرابعة على أنها أداة من أدوات قلب نظام الحكم، وهو ما يستوجب تسطيح أو تقليص أو حتى تعطيل دورها لتكون مجرد أداة مطيعة ترى موطن الخلل لكنها لا تتجرأ حتى للتلميح إليه. وهنا لا بد أن تعالج أحد أهم أخطاء الماضي وذلك من خلال إعطاء المزيد من الحريات في الإعلام، وأن يكون المجال مفتوحا للتنفيس عن هموم المصريين، وبدل أن يوظف في التسبيح بحمد المسؤولين وفي إنكار الحقائق قبل أن تستغلها الماكينات الإعلامية الخارجية وتوظفها في غسل العقول وتغدية الاحتقان الشعبي الذي لا يراد منه إلا السوء.
ربما تكون الولاية الثالثة تأكيدا شعبيا على تفويض الشعب المصري للسيسي كرجل للمهمات الصعبة في منطقة تغلي على فوهة بركان حممه تقذف من جميع دول الجوار، وربما تكون أيضا فرصة ذهبية لاستدراك نقائص التجربة السابقة واستكمال مشوار البناء والإصلاح الاقتصادي، في بلد يستحق أن يكون حاضره ومستقبله عظيما بعظمة تاريخه وحضارته العريقة.