بين حرية التعبير وخطاب الكراهية.. محاكمة المؤثرة الفرنسية-الجزائرية صوفيا بنلمّان تعكس تصاعد التوتر بين باريس والجزائر
تشهد العلاقات الفرنسية-الجزائرية توترات متزايدة، لم تعد تقتصر على المجالين السياسي والدبلوماسي، بل امتدت إلى ساحات جديدة، من بينها منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتصاعد الخطاب المعادي من الطرفين، لتأتي بذلك قضية المؤثرة الفرنسية-الجزائرية صوفيا بنلمّان، التي تواجه محاكمة بتهمة التحريض على العنف والتهديد بالقتل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في واحدة من أكثر القضايا المثيرة للجدل التي تعكس هذا الاحتقان المتبادل.
وبنلمّان، التي يتابعها أكثر من 350 ألف شخص على منصات مثل "تيك توك" و"فيسبوك"، وقعت تحت مجهر القضاء الفرنسي بعد نشرها مقاطع فيديو اعتُبرت تحريضية وخارجة عن إطار النقد المشروع، ففي أحد الفيديوهات، ظهرت وهي تكيل الشتائم لامرأة فرنسية، قائلة: "نيــ .. ك أمك أنتِ وفرنسا.. آمل أن يتم قتلك، آمل أن يقتلوك"، كلمات كهذه، وإن ادعت المتهمة أنها مجرد "طريقة في الكلام"، أُدرجت ضمن خطاب الكراهية الذي لا يتسامح معه القانون الفرنسي.
ويوم الثلاثاء الماضي، طالب الادعاء العام في ليون بإصدار حكم بالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ بحق بنلمّان، التي بدت في المحكمة في موقف دفاعي حاد، مؤكدة أنها لم تكن تعني تنفيذ أي فعل عدائي، وأن ما قالته كان مجرد "تعبير عفوي"، لكنها لم تفلح في تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إليها، خاصة بعدما أشار ممثل النيابة العامة إلى أن "القانون الفرنسي يتيح حرية التعبير، لكن ضمن حدود، والتصريحات الخطيرة التي تنم عن الكراهية لا مكان لها في بلد ديمقراطي".
من جانبه حاول محاميها، فريدريك لاليار، التخفيف من وقع الاتهامات، مشددًا على أن موكلته "لا تملك النفوذ الفكري والأيديولوجي الذي يحاول البعض إلصاقه بها"، واصفًا تصريحاتها بأنها "مجرد كلمات ألقيت بعشوائية في إطار نقاشات انفعالية"، لكن هذه الحجة لم تُقنع الجميع، فقد شهدت الجلسة توترًا ملحوظًا بين المتهمة من جهة، ورئيسة المحكمة ومحامي الأطراف المدنية من جهة أخرى، حيث بدت بنلمّان متحفزة في ردودها، ما زاد من حدة المناقشات داخل قاعة المحكمة.
وتأتي هذه القضية في ظل توترات سياسية بين الجزائر وفرنسا، إذ لم تعد الخلافات بين البلدين محصورة في الدبلوماسية والسياسة، بل امتدت إلى المجال الرقمي، حيث أصبح الصراع محتدمًا على منصات التواصل الاجتماعي. وقد أثارت قضايا مشابهة جدلًا واسعًا، خاصة مع تصاعد الخطاب المعادي بين المؤثرين على الجانبين.
ولا تُعتبر هذه القضية معزولة، فقد شهدت الأشهر الأخيرة محاكمات مماثلة لمؤثرين جزائريين في فرنسا بسبب محتويات رقمية اعتُبرت معادية للدولة الفرنسية أو محرضة على العنف، ففي نهاية فبراير، أصدرت محكمة في بريست حكمًا بالسجن 18 شهرًا نافذًا مع منع دخول الأراضي الفرنسية لمدة عشر سنوات ضد "زازو يوسف"، المؤثر الجزائري الذي دعا عبر "تيك توك" إلى تنفيذ هجمات إرهابية في فرنسا والتحريض على أعمال عنف في الجزائر، أما مؤثر آخر يُدعى "دوالمن"، فقد حُكم عليه في مارس بالسجن خمسة أشهر مع وقف التنفيذ في مونبلييه، بعدما نشر مقطع فيديو يحرض فيه على الاعتداء على معارض للنظام الجزائري، حيث تم الحكم عليه بخمسة أشهر موقوفة التنفيذ، وتم اعتقاله، أمس، الخميس، من بيت ابنته في مونبلييه ونقله إلي باريس من آجل ترحيله إلى الجزائر.
والأكيد هو أن هذه القضية لن تكون الأخيرة في هذا السياق، حيث باتت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة جديدة لمعركة لم تعد تقتصر على السياسيين والدبلوماسيين، بل امتدت لتشمل المؤثرين، وأصبحت كلماتهم محط تدقيق قانوني أكثر من أي وقت مضى.
وتأتي هذه المحاكمة في وقت تسعى فيه السلطات الفرنسية إلى تشديد الرقابة على المحتويات الرقمية التي قد تُعتبر تحريضية أو تتضمن دعوات للعنف، لا سيما في ظل تصاعد التوترات السياسية والاجتماعية بين فرنسا والجاليات المغاربية، وعلى رأسها الجزائرية.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تواجه فيها بنلمّان إجراءات قانونية بسبب تصرفاتها المثيرة للجدل ففي عام 2001، أُدينت بالسجن سبعة أشهر مع وقف التنفيذ ومنعت من دخول الملاعب لمدة ثلاث سنوات، بعدما اقتحمت ملعب "ستاد دو فرانس" خلال مباراة ودية بين فرنسا والجزائر، وهي ترفع العلم الجزائري، في مشهد أثار حينها جدلًا واسعًا حول الهويات المزدوجة والانتماءات الوطنية، فيما اليوم، وبعد أكثر من عقدين، تعود بنلمّان إلى الواجهة، لكن هذه المرة من باب مختلف، إذ لم تعد المسألة مجرد حادثة فردية، بل باتت جزءًا من سياق أكثر تعقيدًا يتعلق بتصاعد خطاب الكراهية والتوترات السياسية بين البلدين.
وتأتي هذه المحاكمات وسط مناخ متوتر بين الجزائر وباريس، حيث لم تنجح الجهود الدبلوماسية الأخيرة في تهدئة الخلافات العميقة التي تعود جذورها إلى ملفات تاريخية وسياسية شائكة،في مقدمتها قضايا الهجرة، حيث تتهم فرنسا الجزائر بعدم التعاون في استعادة المهاجرين المرحلين، في حين ترى الجزائر أن باريس تتعامل بانتقائية مع أفراد الجالية الجزائرية وتستخدم ملف الهجرة كورقة ضغط سياسي.
وإذا كانت العلاقات بين البلدين قد شهدت فترات من المد والجزر، فإن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أضاف بُعدًا جديدًا للصراع، حيث باتت هذه المنصات ساحةً للتراشق والجدل بين الناشطين من كلا البلدين.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن محاكمة بنلمّان وغيرها من المؤثرين ليست فقط مسألة قانونية بحتة، بل تحمل في طياتها أبعادًا سياسية ودبلوماسية، ففرنسا، التي تسعى إلى ضبط الخطاب المعادي داخل حدودها، تواجه تحديًا متزايدًا مع ظهور محتوى رقمي يصعب التحكم فيه، بينما تعتبر الجزائر أن جزءًا من هذا الاستهداف موجّه ضد مواطنيها في المهجر.
وبينما تترقب الأوساط الحقوقية والإعلامية مآلات هذا الملف، يبقى الطرح المؤكد هو أن هذه القضية، بملابساتها وتعقيداتها، ليست سوى فصل جديد في العلاقة المتوترة بين البلدين، والتي يبدو أنها لن تهدأ في المستقبل القريب.