بُرَحاء جرح دفين و أنين مكتوم
سئمتُ ظُلم و طُغيان غرباء نزلوا في ربوع أوطاننا عروبة تئن من غدر زمان سادَ فيه قانون الغاب، ينهبُ القوي فيه حق الضعيف، زمان كُسّرت فيه جناحَي الباز، و صُوّرت فيه تماثيل من ذهبٍ لكلاب لطالما تراقصَت على جثث الأسود، زمان جفّت فيه الدموع و حزِنت له النفوس إثر مآسي اللحظة.
كأنك تُصارع لأجل هوان ظُلم حياة جائرة، لأجل تناسي تحقيرٍ و تنكيلٍ سُريالِيَين مِن طرف أولئك مَن ركِبَ قلوبهم الرّان و أحاطت الغِشاوة أبصارهم. لا هم يبالون أنين من ظلموا و لا للمظلوم حيلة ليفلَت بها من بطشهم. أناس هم حين تُجالسهم ستعلم يقينا بخزيٍ و عارٍ يلبسهم، و يشدّك الحزن حسرةً لآتي حال أمّة تئن لجمود عقولهم و بؤس رُؤاهم.
لك في الدنيا تَرَجٍّ تسعى فيه إلى كسب قرابة الأيام لتُصاحبها، و لتجعلها تبوح لك بخبايا زمن يأجوج ومأجوج اختلط فيه الصالح بالطالح. ساد العبثُ في كلّ شيء و بات الواقع كلّه حَيفا و زيفا، و أصبح الحديث كذِبا و الكرَمُ رِيّاء و الشهامة نِفاقا.
من كان منّا يظن أن طلب كسرة خبز لأجل عيش كريم هو جريمة يركن صاحبها في السجون؟ من كان يظن أن كلمة الحق و الرسالة النبيلة هي إهانة للحاكم قد تسلب من صاحبها نسائم الحرية لأعوام عددها العشرون و ما دون؟ من كان منّا يظن أنه سيأتي عليه يوما تُصبح فيه كلمة "عربي" شتيمة عند دول الغرب؟ من كان منّا يظن أنه سيأتي علينا عيدُ أضحى تُقطّع فيه رقاب بني بشر في العراق تقرّبا من أمريكا عوض نحر الأضحية تقربا من الله؟ ما كنّا نتصور و لو بضرب من الخيال أنه سيأتي علينا زمان نرى فيه رجالات جارة عربية تعدم فلسطينيا ابن فلسطين و عربيا ابن العروبة بل و مسلما ابن المسلمين برصاص غدر أمتارا قليلة، لا لشيء إلاّ لأنه تخطّى حدودا وهمية رسمها الاستعمار الغربي الغاشم، لنرى جثمانه على مرأى من أعيننا تتلاعب به الأمواج كما تتلاعب ريّاح الخريف بأوراق الشجر الذابلة؟ مَن مِن عربي يرضى لنفسه أن يحتمي نازح سوري مسلم بالغرب هاربا من بطش المسلمين؟
ركِبَنا الذلّ و أحاطتنا المهانة، وخرج حاقد من على كرسي الرئاسة بأمريكا لينعت المسلمين علناً بأقبح النعوت، و حكام المسلمين من الغرب إلى الشرق باتوا صمّ بُكم لا حول ولا قوة لهم، لأجل الرّدّ يتخبّطون في مواقفهم بين ثنايا الحروف وتجاويف الكلمات!
عروبة تحتضر و أعرابها غير مبالين، منهم أعراب ركبوا الأهواء و تغنوا بالأطلال و اشتروا المهانة بالشرف، أموالهم أضحت مصائباً لهم، خمول و كسل، و ترف، حتى كاد العيب نفسه يخجل من أن يوصف عيباً لهم، و كذا يخجل العار من أن يُنسب عارا لهم. أكاد أبرئ نفسي من عرب بلا عروبة و من متأسلمين بلا إسلام بل من واهمين بالحرية و أرواحهم تكاد تزهق من شدّة الضيق و العبودية!
نعم أصبح مُنانا رهينة للواقع المرير، مَثَل ذلك كمثل قيس ظلّت حُرّيته رهينة لليلاه، حيث بات يذكرها طِوال بعادها عنه، في حين أصبحنا نحن نتناسى واقعنا طوال اقترابه منّا.
إلى أين؟ رُبّ رحيل من عالم ما عاد فيه شيء يغرينا، فلنقصد مرقد المعتصم، هناك سنُنصِت لتململه تحت ترى قبره يمينا و شمالا من شدّة الحسرة و الأسى على ما وصل إليه حال الأمّة.
*أكاديمي خبير مقيم بألمانيا