زمن اللايقين
ما تعيشه البشرية منذ مستهل سنة 2020 مع جائحة كورونا غير مسبوق، أعاد النظر في كثير من اليقنيات، إذ دخلنا فيما يسميه الباحث في العلوم السياسية الأمريكي ياشا مونك بزمن «اللايقين».
عجَز العلم إلى الآن في صد الجائحة، ولم تستقر السياسات العمومية على مقاربة واحدة، وعرفت تذبذبا في التطبيق، وتأرجحا بين خيار يُغلّب الصحة، وآخر لا يريد التفريط في الاقتصاد، وكشفت الأزمة عن عيوب النيوليبرالية، وأبانت عن أولوية القطاعات الاجتماعية، وضرورة اضطلاع الدولة بها، وغيّرت على مستوى العلاقات الدولية التراتبية القائمة، والبراديغم الساري، منذ سقوط حائط برلين، بأن وضعت حدا للأحادية القطبية، وأعادت الحرب الباردة في شكل قد يكون أشد حدة من سابقة الحرب الباردة، ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
الأزمة التي نعيشها ليست من صنع الجائحة طبعا، وما فعلته الجائحة هو أن عرّتها وأججت من تناقضاتها. كانت معالم الأزمة جليّة، إذ تبدّت منذ سنة 2003 أي مع الحرب على العراق، واستفراد الولايات المتحدة بالقرار، ضاربة الأمم المتحدة بعرض الحائط. وكان من نتائج التدخل الفاشل للولايات المتحدة في العراق، ترنح الأحادية القطبية، وإصابة الديمقراطية في مقتل، التي زعمت الولايات المتحدة رفعها «وفرضها» ما جعلها تعيش ما يسميه البعض بالكساد الديمقراطي، بما فيها في معاقل الديمقراطية، وتبدى هذا الكساد في اهتزاز الأحزاب وتحرك الشارع (قبل أن تُلجمه كورونا) وتفشي الشعبوية، فضلا عن استشراء العنف. أما على المستوى الاقتصادي فقد كان العالم يجر ذيول الأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2008، التي تؤشر إلى نفوق النموذج النيوليبرالي.
كشفت جائحة كورونا تلك العيوب وأججتها، ويمكن أن نجمل معالمها الكبرى، وهي نهاية الأحادية القطبية، وأزمة النيوليبرالية، وكساد الديمقراطية.
نُخلّف وراءنا عالما ولا ندري إلي أين نسير.. ندخل عالما بلا معالم. السابقة العالمية الأقرب لما نعيشه هو الأزمة الاقتصادية لسنة 1929. دخلت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى في سياسة انعزالية، واستنّ ترامب نوعا من الانعزالية، بربط العلاقات مع الدول بمقابل، وليس بتصور أو أحلاف، مع استفحال خطاب الكسب والربح المادي.
اقترن ما بعد 1929، باتجاهين عالميين، الأول هو في تبني سياسات عمومية ذات طابع اجتماعي، وهو المعروف في الولايات المتحدة بالخطة الجديدة، وهو ما يُلوّح به الرئيس المنتخب جو بايدن، لكن هل تُراه يُوَّفق في سياق اقتصاد عالمي معولم، وهل ستكون له الأدوات السياسية التي كانت لروزفلت، من أغلبية مريحة في الكونغرس؟ أما الاتجاه الثاني الذي تمخض عن أزمة 1929، فهو الفاشية، فهل العالم على مشارف شكل جديد من الفاشية. الوجه الجديد للفاشية هو الشعبوية، ولو أنه ينبغي أن نميز بين نوعين من الشعبوية، شعبوية اليمين التي تَنْصب الآخر عدوا، وشعبوية اليسار التي تجعل الرأسمال أو المال، الحائط الذي ينبغي هدمه، والذي يهمنا هو الشعبوية اليمينية. قيل إن ترامب انهزم لكن الترامبية لم تندحر، فهي تشكل قوة عددية لا يستهان في الولايات المتحدة، لكن قوتها أو خطورتها ليست في العدد، ولكن في أساليب العمل. أعطت إشارات إلى ما يمكن أن تلجأ إليه، منها هزؤها بالمؤسسات وبنتائج الانتخابات، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، وتلويحها بالقوة، ووضع العصا في عجلة دواليب الإدارة. لن ينسحب ترامب بسهولة، ولن تندحر الترامبية في الولايات المتحدة، وقد تصبح مصدر إلهام خارجها.
ولربما هو ما حذر منه كثير من أصحاب الرأي الأمريكيين من حرب أهلية، أو شكل جديد من حرب الانفصال. أمريكا موزعة ومقسمة، ولن يكفي ترياق الاقتصاد لرأب صدعها. لقد وعد الرئيس المنتخب تحقيق وحدة أمريكا، لكن هل تراه سيوفق، في ظل وجود اجتماعي مشروخ، وأزمة اقتصادية عالمية، واهتزاز المؤسسات.
كل تطور يحصل في الولايات المتحدة، سوف تكون له انعكاسات على العالم، وكل استقواء للاتجاهات الحمائية، سيدعم الاتجاهات الشعبوية في أوروبا خاصة.. وكما يقول الكاتب الإيطالي بريمو ليفي، لكل عصر فاشيته، ولن يكون العالم بمنأى عن شكل جديد من الفاشية.
طبيعة الاتجاهات الشعبوية اليمينة، أنها تنصب الآخر عدوا، والعدو الحميم بالنسبة للغرب هو الإسلام والمسلمون.. العدو أو صناعة العدو أمر ضروري في مجتمعات، تعرف تحولات عميقة، مهددة في سؤددها، وتعيش أزمة وجودية، وما أرى أن الإسلاموفوبيا أو صناعة الإسلاموفوبيا ستتوارى. قد تكون الأنباء تحمل أخبارا سارة، مع إخفاق ترامب الذي جعل السياسة الخارجية حلبة قمار، ومع أخبار اكتشاف لقاح ضد فيروس كورونا، ولكن نظرة متأنية تستلزم الحذر. فالاتجاهات الشعبوية لم تندحر، وما لم يتم احتواء الأزمة الاقتصادية، فمن شأنها أن تتقوى وتطبع المشهد السياسي في العالم بشكل جديد من الفاشية، مع ما حملته في السابق من احتدام التوتر بداخل المجتمعات الغربية وفي إشعال فتيل الحروب.
*عن صحيفة القدس العربي