عندما تنتصر "صلة الرحم"على كورونا
شكلت عودة مغاربة العالم إلى الوطن حدثا هامًا سواء على مستوى الأرقام التي حافظت على وتيرة الارتفاع كل سنة حيث تجاوز عددهم الملايين، أو على مستوى ترسيخ الحدث حتى أصبح "عُرفا راسخا" لدى مغاربة العالم، وهو الحدث الذي شد إليه انتباه الفاعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي وأيضا الأمني الأوروبي الشيء الذي دفع بضرورة التنسيق بين كل الفاعلين سواء من دول أوروبا أو المغرب وتسخير موارد مالية وبشرية ولوجيستيكية من أجل إنجاح تلك العملية الفريدة في العالم.
كما شكلت تلك العودة مساحة مهمة للعديد من الدراسات ومناسبة لتقييم السياسات العمومية بخصوص ملف الهجرة سواء من خلال دراسات تحليلية لمؤسسات الهجرة المختلفة أو مقالات لكتاب الرأي والباحثين في قضايا الهجرة في الجامعات المغربية أو ندوات في إطار فعاليات اليوم الوطني للمهاجر في العاشر من غشت من كل سنة.
لقد عشنا نفس السيناريو تقريبا ولعشرات السنوات، قوافل من السيارات تعبر الطرق الأوروبية في اتجاه المغرب عبر موانئ إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، رحلات جوية من مختلف بلدان العالم في اتجاه المطارات المغربية، وفرحة عارمة وسط العائلات في المدن والقرى المغربية بقدوم أبنائهم من "الخارج".
صحيح أن عودة مغاربة العالم لم تكن دائمًا مفروشة بالورود، وصحيح أنهم مازالوا يعانون من بعض المشاكل في الإدارات المغربية خاصة في قطاعات القضاء والضرائب والعقار والاستثمار…وهي قضايا ملحة فوق طاولة الفاعل السياسي المغربي من أجل معالجتها ليس بشكل مناسباتي، ولكن هي قضايا يجب الاشتغال عليها بشكل يومي.
لكن كل تلك العوائق والصعوبات لم تمنع أبدا مغاربة العالم من العودة لحضن الوطن؛ ولم تزعزع ذلك "العرف الراسخ" في وجدانهم الذي امتد للجيل الخامس في بعض الدول الأوروبية، بل حتى جائحة كورونا لم تنجح في كبح مغاربة العالم عن زيارة مغربهم.
فليس من السهل القول، إنه في كل مرة كانت تنتصر رابطة "صلة الرحم" على كل الصعوبات والمشاكل، بتلبية مغاربة العالم لنداء وجداني، لأن العلاقة " الميتافيزيقة" بين مغاربة العالم ووطنهم المغرب هي مشتل خصب للدراسات الإنسانية وخاصة في العلوم الاجتماعية؛ إذ هناك حاجة قوية للبحث عن أجوبة علمية في مجال السوسيولوجيا عن دلالات وماهية عودة مغاربة العالم، والآثار النفسية لتلك العودة، وعن نتائج توطيد وترسيخ "عُرف" العودة لدى أجيال مغاربة العالم، وعن صورة المغرب لدى أبنائه بالخارج… كما يجب أن يشمل مجال البحث أيضا تطور مفهومي "الأسرة النووية" حسب مفهوم مجتمعات الإقامة ومفهوم "العائلة الكبيرة" حسب مفهوم المجتمع المغربي، إلى جانب مفاهيم "لَبْلاد " و "الدرب"، وسلوك إعادة مراسيم الزواج وختان الأطفال بالمغرب…وغير ذلك كثير.
إن الأحداث المُرافقة لعملية "عبور 2021 الاستثنائية" تدفعنا بحق للوقوف احتراما لمغاربة العالم. إذ رغم ارتفاع التذاكر وحصر الموانئ في فرنسا وإيطاليا فقط دون الموانئ الاسبانية بعد فضيحة "غالي غيث"، فقد كان هناك تدافع وحجز التذاكر رغم الغلاء ورغم الإجراءات الاحترازية ضد كوفيد 19 لأن عرف العودة للوطن هو مقدس وخارج كل الحسابات المادية.
لقد كان بإمكان مغاربة العالم الاختيار بين العروض السياحية لدول الاستقبال أو بدول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني تفادي مشاكل العبور في ظل الحرب على كوفيد 19، كما كان أمامهم العديد من الإغراءات السياحية باثمنة مقبولة وتوفر بنية تحتية قوية في مجال النقل بدول الإقامة، لكنهم فضلوا العودة للمغرب رغم كل تلك العراقيل وتداعيات الحرب على كورونا.
وفي الوقت الذي تعالت فيه أصوات مغاربة العالم مُنددة بلهيب أسعار التذاكر، صدر بلاغ للديوان الملكي يوم 13 يونيو، للسلطات المعنية بتسهيل عودة أفراد الجالية واعتماد أثمنة معقولة للجميع، وتوفير العدد الكافي من الرحلات. البلاغ الملكي لم يقف عند هذا الحد، بل امتد الى كل الفاعلين في مجال السياحة من أجل استقبال أبناء الجالية في أحسن الظروف و بأثمنة ملائمة، وهو البلاغ الذي استقبلته الجالية بفرحة عارمة، لأنه انتصر لروابط صلة الرحم بالأهل والوطن وانتصر لاستمرار الارتباط بالوطن الأم.
لم يعد المجال يتسع للمزيد من الوقت لبلورة تصور قوي وحديث "للوكالة المغربية للعمل الثقافي بالخارج" خاصة بعد صدوره كتوصية في تقرير النموذج التنموي الجديد الصادر في شهر أبريل من سنة 2021 وهو المطلب الذي طالبنا به في أكثر من مناسبة. نفس التقرير سلط الضوء على الأدوار القوية التي تلعبها الجالية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وما يلزم من تفعيل الأدوار الدستورية المكفولة لمغاربة العالم، وهي كلها خطوات مهمة في إطار ترسيخ مكانة الجالية المغربية في التنمية الوطنية.
لذلك ونحن نحتفل هذه السنة بالعيد الوطني للمهاجر (10غشت 2021) في ظل ظروف استثنائية ناتجة عن الحرب على كوفيد 19، فإننا نعتز بمغاربة العالم الذين نسجوا ملحمة وطنية قوية عنوانها الولاء والوفاء لصلة الرحم بالأهل والوطن، وبكل ما تقدموا به من تضحيات مادية وتضامن واستثمارات ورأسمال لامادي واحتياطي كبير للكفاءات النادرة في مجالات علمية معقدة، وتجندهم اللامشوط من أجل الدفاع عن المقدسات الوطنية والترابية، وحرصهم على تمثيل المغرب وإعطاء أحسن صورة له في العالم.
لكن قبل ذلك نعتز بالعناية الخاصة لجلالة الملك بمشاكل وقضايا الجالية، ووقوفه المستمر إلى جانبهم لحماية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم داخل الوطن وخارج الوطن.
*الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج