عن العنف والدين
ربما كانت الحركات الإسلامية المعتدلة في الدول العربية الأكثر تضررا من بين القوى السياسية الرئيسية كلما طل الإرهاب مدعي الصفة الدينية بوجهه القبيح على الإنسانية.
فما تلبث أن تتعالى أصوات السياسيين والكتاب منتقدة للإسلاميين إجمالا ومحملة إياهم مسؤولية التطرف إن على أساس الادعاء بأنهم هم الوعاء التنظيمي الأول لجماعات العنف الديني أو التشديد على أن خلطهم المبدئي بين السياسي والديني هو ما فتح الباب للتحولات الراديكالية التي أنتجت في نهاية القرن العشرين شياطين الجماعات الإسلامية وشبكة القاعدة وداعش وتوابعها.
وعادة ما تتواكب النظرة الاتهامية للإسلاميين مع نداءات متجهة للمؤسسات والرموز الدينية تطالبها بتحريم وتجريم الأعمال الإرهابية وتكفير من يقوم بها كآلية أساسية لمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه.
وواقع الأمر أن في ثنايا هذه القراءة من الحق والباطل، من التدقيق التاريخي والتعميم المخل ما يحتم التعامل الحذر والدقيق معها.
فتاريخيا مرت الحركات الإسلامية الكبرى في الدول العربية، خاصة جماعات الإخوان المسلمين والجماعات الملتحقة بها، بمراحل متعاقبة خلال القرن العشرين تميز بعضها بانخراط واضح في دائرة العنف والعنف المضاد في سياق صراعات مع النظم الحاكمة كما تميز بصياغات راديكالية حول الدولة والمجتمع شكلت فيما بعد زادا أيديولوجيا لمتطرفي تسعينيات القرن العشرين والألفية الجديدة.
من الثابت أيضاً أن التنظيمات العنيفة ولدت من رحم الحركات المعتدلة كردة فعل على ما صور ضعفا وهوانا للأخيرة إن في مواجهتها مع النظم الحاكمة أو في الدفاع عن الحقوق العربية والإسلامية المهدرة في فلسطين وأفغانستان والعراق (بعد الغزو الأمريكي) والبوسنة والشيشان وغيرها.
غير أن التسليم بهاتين الحقيقتين لا يمكن سوى أن يستتبعه طرح التساؤل حول مدى شرعية تحويل علاقات تأثير وارتباط تاريخية مركبة إلى إطار تفسيري سببي يصل بخط مستقيم بين نقطة البدء أي بين عموم ظاهرة الإسلام السياسي، وبين لحظة التأزم الراهنة متمثلة في الإرهاب المتأسلم، يصل بينهما بخط مستقيم لا تتخلله تعرجات أو انقطاعات. ومن الواضح أن الإجابات الموضوعية في هذا السياق ستثير بالقطع عددا من علامات الاستفهام يقتضي تناولها إعمال النظر في مجمل تحولات السياسة في الدول العربية.
واكتفي اليوم بإشارتين محددتين. أما الإشارة الأولى فتتجه إلى التأكيد، دونما تبرير، على حضور علاقة سببية واضحة بين العنف المرتدي رداء الدين وبين غياب الديمقراطية وثقافتها المدنية وإمكانات المشاركة الشعبية الفاعلة، وهو ما تتحمل الحكومات السلطوية ونخبها من المحيط إلى الخليج مسؤوليته في المقام الأول، وتنقل الإشارة الثانية مآل النظر التحليلي إلى مساحات المظالم الاجتماعية وغياب العدالة الاقتصادية عن مجتمعاتنا وما يترتب على ذلك من اختلالات نفسية وسلوكية فردية تطال الكثير من المواطنين المهمشين وتتصاعد لدى البعض إلى قابلية للتطرف والعنف والتورط في جرائم الإرهاب.
غير إنني لا أرغب بحال من الأحوال في الادعاء بأن العاملين السالفين يفسران بمفرديهما ظاهرة الإرهاب في الدول العربية. فكلاهما، أي غياب الديمقراطية والعدالة، تواجد ومازال في عدد كبير من المجتمعات المعاصرة ولم يرتب إجمالا لا ممارسة للعنف ولا تورط في عمليات إبادة للمدنيين كتلك التي روعتنا في العراق وتروعنا في سوريا وفي مناطق أخرى.
وهنا يعود الفكر الديني المتطرف بمحدودية رؤاه القيمية ومنطقه الاستبعادي ليصبح إطارا تفسيريا مكملا. فالنظرة غير المتسامحة للأخر، الناعتة له بالكفر والمستبيحة لحرمة النفس البشرية بل والمصورة لقتل المدنيين على أنه إعمال لشرع الله في المنعوتين بالكفر وفي أعوانهم من سفراء وعسكر عرب ومسلمين، هي مربط الفرس في فهم سبب تكرار مثل هذه الأعمال البشعة.
بالقطع تتحمل المؤسسات والرموز الدينية، رسمية وغير رسمية، وحركات الإسلام السياسي الجزء الأكبر من المسؤولية في محاربة الغلو والتشدد الفكري في الدول العربية وكذلك فيما خص إنتاج رؤية بديلة تجرم العنف والإرهاب بصورة مبدئية حاسمة ترفض الخلط بين المقاومة المشروعة للظلم الواقع على الفلسطينيين والعراقيين والسوريين وغيرهم وبين استباحة دماء الأطفال والمدنيين في عالمنا وفي عوالم الآخرين.
إصدار البيانات والفتاوى المحرمة للعنف والإرهاب هو أمر جد إيجابي. غير أن الأهم هو ضمان التواتر والاستعداد لمجابهة الفكر المتطرف بصورة شاملة وعلنية في كل ميادين فعله.
لا جدال في أن مناخات سياسية ومجتمعية تتجه بها الرياح نحو المرافئ الآمنة للتحول الديمقراطي والعدالة الاجتماعية وعودة الحقوق المشروعة هي الأفضل للاضطلاع بمهمة تحرير الدين من خاطفيه واستعادة مكونات التسامح والتعددية في الثقافة السائدة.
إلا أن استمرار غياب الديمقراطية والعدالة، إن بمضامينهما الجزئية أو الكلية، لا يعفينا من مسئولية مواجهة جماعات العنف والإرهاب مثلما تظل مواجهة الاستبداد مسؤوليتنا الجماعية أيضا.
*المصدر: القدس العربي