غصّة بنكيران
لا يُفوت رئيس الحكومة الأسبق، والأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" الحالي، عبد الإله بنكيران، فرصة إلاّ ويرمي بكل التعب النفسي الذي مازال يحمله في دواخله منذ "البلوكاج الحكومي" الذي تلا نتائج انتخابات السابع من أكتوبر سنة 2016، على "الدولة العميقة" وزملائه السابقين في الحزب.
مازال الرجل يجر معه "حطام" تلك المرحلة التي بوأت حزبه 125 مقعدا برلمانيا، ومنحته نشوة فوزٍ أعمت بصيرته على استيعاب "مَكر" السياسة والسياسيين الذين يشاركونه مَقاعد البرلمان ممن لا يرغبون في رجل "فقيه" يضع عمامة على رأسه يوم الجمعة، ويمارس السياسة بمنطق "زعيمِ قبيلةٍ"، أن يكون رئيسا للحكومة المغربية للمرة الثانية على التوالي خلال عقد من الزمن.
وبعد ثماني سنوات على ذاك "الحدث الجلل" على رأي بنكيران، مازال الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" يجرُّ غصّة ثقيلة في حلقه، ونفسيته، جعلته يدخل في الكثير من التناقضات السياسية والقناعات التي سبق أن أدلى بها، كمبررات لخيارات اتخذها الحزب، سواء في تدبيره لملفات الحكومة الثقيلة خلال عقد من الزمن، أو لتحالفاته الحزبية في ولايته الأولى والثانية.
يُدرك بنكيران أن السياسة هي "هندسة صعبة للأخطار"، تكلفتها باهظة، لكنه رجلٌ عاطفيٌ، يرمي بثقل شخصيته على قرارات حزبه، ويقذف بآرائه مثل محُارب "كاميكازي" يريد الانتقام لنفسه من "خيانةٍ سياسيةٍ" مازالت تؤلمه منذ سنة 2016، وهو ما جعله يرتكب الخطأ تلو الآخر حتى بات مصير الـ PJD عشوائيا، يأكل أبناءه بقسوة، ويفرّق دمهم بين القبائل (الأحزاب).
ينتقد بنكيران ارتفاع أسعار المحروقات، مع أنه من حرر القطاع حينما كان رئيسا للحكومة بمبرر كان يردده بفخر: "إذا عاش النسر عاشت فراخه"، أو كما كان يقول: "لا يمكن للدولة أن تفلس، لكن يمكن الضغط على جيوب المواطنين".
بهذا المنطق، حرّر قطاع المحروقات بدون تسييجه بضوابط قانونية تحمي المغاربة من جشع لوبي الشركات التي تشتغل في القطاع، والتي قتلت القدرة الشرائية للمواطنين بأسعار غير مبررة وأرباح فاحشة، كانت بمثابة هدية باذخة أهداها الرجل بخياراته غَير الحكيمة، وتَعَامُلٍ سَاذجٍ مع ملف كان يَحتاج "لمكرٍ" سياسي واقتصادي لم يكن لدى بنكيران وجماعته.
وإن كان التنافس والتدافع السياسي يبرر تصريحات بنكيران المتوالية في حق الحكومة، فإن الرجل يتجاوزها لينتقد خيارات الدولة، وهو حق ديمقراطي أصيل، لكن ضمن هذا الحق نجد أن الرجل يدلي بتصريح وآخر يناقضه، خصوصا فيما يتعلق بالاتفاق الثلاثي بين الرباط، وواشنطن وتل أبيب لعودة العلاقات مع إسرائيل ضمن "صفقة" الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.
وإن كان هذا الملف بمثابة "الوليمة القاتلة" التي قُدمت للحزب، وتناولها مُكرهاً، بعد توقيع رئيس الحكومة والأمين العام لحزب "العدالة والتنمية"، حينها، سعد الدين العثماني على تلك الاتفاقية رفقة جاريد كوشنير صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شابات، فإن بنكيران، نفسه خرج، في اليوم الموالي، عبر صفحته الرسمية لـ"يُطبّع" مع هذه الاتفاقية بمبرر "خيارات الدولة"، مشيرا إلى أن لسعد الدين العثماني رئيسٌ هو الملك محمد السادس الذي يُحدد السياسة الخارجية للبلاد، ويقرر توجهاتها، قبل أن يعود في سياق خلافاته مع رفيقه في الحزب لينتقد هذا التوقيع، ويجعله بمثابة الخنجر الذي يغرسه بخصر الرجل في كل تصريح وخرجة إعلامية، بل جعل بنكيران موضوع "التطبيع" مثل معركة "شرف" لا تقل عن مواجهة العرب للفرس في معركة "ذي قار" في عصر الجاهلية.
مشكلة عبد الإله بنكيران أنه يقود حزبا سياسيا بمنطق الفقيه الذي ينثر "فتاويه" على "الأتباع"، ولا يتعامل مع حزب "العدالة والتنمية" على أنه حزب سياسي له مؤسسات وبداخله خلافات ولأعضائه خيارات قد تتناقض مع حساباته الغارقة في "بلوكاج 2016"، الذي لم يستطع التخلص من رماده. كما أن مشكلة أعضاء الحزب أنهم تركوا الـ PJD رهينة بيد أمينهم العام الذي يعيش بغصّة سياسية شخصية حرمته من "بلح الشام" و"عنب اليمن" الذي وفرته له سلطة المنصب، والقرب من "الدولة العميقة" من سنة 2011 إلى 2016.
يدرك المتتبع للشأن السياسي المغربي خلال العقد الأخير، كما يدرك بنكيران، أن الدولة مررت بوجوده في رئاسة الحكومة العديد من القرارات "الصعبة" المُكلفة سياسيا، مثل تحرير سوق المحروقات، وتقليص دعم صندوق المقاصة، وقانون الإضراب... لكن هذه الخيارات كانت، أيضا، سياسية لديها قبول عند أعضاء الحزب، وعليهم تحمل كلفتها الشعبية ومواصلة الاشتغال بمبادئ وقيم وخيارات الـ PJD، لأن مستقبل الحزب أكبر من العمر السياسي لأمينه العام، الذي يبدو أن عمره السياسي.. انتهى!