محمد السيد سعيد… الرحيل والحزن الذهبي
عقد محمد السيد سعيد صداقة مع الحقيقة المطلقة، بعد أن سعى لترويضها وتقبّلها، حين تيقّن وهو المملوء بالشك الفلسفي، أن الموت هو الحقيقة المطلقة التي لا يمكن نقضها «فكل نفس ذائقة الموت» وهو الأمر الذي لا مردّ له منذ بدء الخليقة حتى إشعار آخر.
كانت مقاومة محمد السيد سعيد للموت، مقاومة الفكر، وقرع الحجة بالحجة، حاول المرض أن يراوغه، وحاول هو أن يزوغ عنه، بالتأجيل أو بالتأخير، أخيراً قررا هو والموت أن يتصاحبا، حيث لا غالب ولا مغلوب، فهو لم يكن ليتقبل الهزيمة، حتى إن كانت حتمية. لهذا ارتضى الرحيل بهدوء، بعد أن عاش في قلب العاصفة منذ صعود الحركة الطلابية إلى منصة الأحداث في السبعينيات، حيث كان أحد قادتها الأُوَل.
لعل شفيع محمد السيد سعيد، أنه حاول تجديد حياته المفعمة بالحيوية والصبر، لاسيما خلال فترة صراعه مع المرض، ومن ثم تعايشه معه، إلى أن اتجه إلى ركن يتأمل ما يجري، وهو الذي دوّى صوته في حارات القاهرة ومنتدياتها وجامعاتها وفضائياتها وصحافتها ومجتمعاتها، ولعله كان من الأصوات الأكثر جرأة وإشكالية في حضرة المسؤولين من الحكام، وفي إطار المجتمع المدني، في المعارضة وفي نقدها أحياناً، تقاطعاً أو استقطاباً، مع النخب، وفي وضع مسافة بينه وبينها، لكنه في كل مرّة كان اهتمامه يتزايد بالرأي العام، وفي كل محاولاته تلك، كان يحاول الاجتهاد وإن أخطأ.
يوم وقف أنجلز أمام قبر رفيقه الأثير ماركس هتف وكأنه غير مصدّق بالرحيل: أي فكر قد انطفأ، وأي قلب قد توقف عن الخفقان؟ وواصل أنجلز رسالة ماركس، وحاول تطويرها، باعتبار الماركسية نقدية وضعية، غير تمامية أو كاملة، ولم يكن ماركس وأنجلز من بعده، سوى مرحلة من مراحلها، متوقفاً عند المنهج، الأساس في الماركسية، وهو الذي يمكن افتتاحه اليوم كقراءات متعددة لماركس، حاول بعض المفكرين العرب، وربما من بينهم محمد السيد سعيد، قراءاته، كقارئ وكاتب وناقد وقبل كل ذلك كمتن معرفي لا غنى عنه، ومنهج قابل للتطور والاستيعاب والتغيير، وليس حقائق سرمدية ثابتة، مغلقة عليها باب المعرفة والعلم.
ويمكنني اعتبار محمد السيد سعيد أحد المجددين في الفكر الاشتراكي والماركسي، في إطار اليسار العربي، فهو لم يتقبّل تحويل التعاليم الماركسية إلى معلّبات أو أدعية أو تعاويذ، تصلح لكل زمان ومكان، وهو ما فعله العديد من قادة المدرسة الاشتراكية الكلاسيكية، حين تمسكوا بالتعاليم وأهملوا المنهج، فحوّلوا الماركسية إلى عكس منهجها، وهو ما نطلق عليه الماركسلوجيا، وهو الوجه الآخر للإسلاملوجيا والقوملوجيا.
عقدان من الصداقة
تمتد علاقتي المباشرة بمحمد السيد سعيد إلى نحو عقدين من الزمان، التقينا فيها في ظروف ومدن متنوعة ومختلفة، وجرت بيني وبينه حوارات متواصلة في شؤون الماركسية واليسار، والديمقراطية والمجتمع المدني، والعراق والحصار والاستبداد، ودور مصر والمثقفين والثقافة، والمنفى وفلسطين والأكراد وحق تقرير المصير، ولعلي لا أستطيع أن أجد من اتفقت معه طيلة العقدين الماضيين أكثر منه، حتى إن اختلفنا فقد كانت نقاشاتنا تمتد وتتجدد ونتبادل المواقف أحيانا ونصوّب لأنفسنا وبعضنا لبعض.
كنت أجد فيه الأكثر صدقية وإخلاصاً، ولعل أهم امتيازاته كانت تتعلق بجمجمته وقلبه، كان عقله مفتوحاً وفكره متقداً ومتجدداً، وإن حصلت ثمة تغييرات أو انقلابات أو تناقضات، فلا بدّ أن نخضعها لسياقها التاريخي وللظروف المحيطة والضاغطة، وإلى رغبته في الاجتهاد والتميّز حتى إن أخطأ. وكان يحمل قلباً نابضاً بحب الخير والتسامح، والنظر إلى إيجابيات الآخر والتركيز عليها، لاسيما بتوفّر حسن السريرة والصدقية. وأتذكر مرة أن قرر جمع من الأصدقاء، وربما في فورة غضب أو ردّة فعل «معاقبة» صديق وصاحب فكر وموقف، لخطأ كان قد وقع فيه، وإن كان محمد السيد سعيد وأنا إلى جانبه نقرّ بهذا الخطأ، لكننا اختلفنا في أسلوب المعالجة، لاسيما محاولة عزل الزميل أو إخراجه من دائرة العمل والتعاون والمجتمع المدني، أو إرغامه على التنازل المذل، الأمر الذي لم نكن نقرّه، بل رفضناه وحاولنا مع الأغلبية الساحقة لإقناعها بالاكتفاء بالنقد والتسامح، ومع الزميل سماع مبرراته والإقرار بالخطأ، دون قبولنا تقديم تنازل مجحف أو مهين.
كتب عن صديق يشاطره الموقع الفكري، في تقديم كتاب له بعنوان «الإنسان هو الأصل»: «يسعدني أن أقدم هذا الكتاب للأخ والصديق الدكتور، فالمؤلف هو واحد من أقدم وأخلص وأنشط المناضلين والدعاة العرب لحقوق الإنسان، وتنتشر مساهماته في رقعة واسعة للغاية من الأنشطة النضالية النظرية والعملية، فهو مؤلف غزير الإنتاج، وهو كذلك مناضل زاخر بالحيوية في الممارسة الميدانية. وهو من ذلك النوع من المناضلين المفكرين والميدانيين، الذين تولد لديك عاطفة الحب والتقدير لهم منذ أن تلقاهم، وهو من ذلك النوع النادر من هؤلاء الذين يظل حبك وتقديرك لهم ينمو باطراد كلّما طالت زمالتك لهم وتعرّفك عليهم».
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر كما يُقال، فقد سألت الجواهري شاعر العرب الأكبر في إحدى مطارحاتي معه، ونحن نتحدث عن قصيدته الشهيرة بحق القائد العربي جمال عبد الناصر، التي ألقاها في احتفالية خاصة في القاهرة عام 1971 ونشرتها جريدة «الأهرام» في عددها الخاص بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر، التي يقول فيها:
أكبــرتُ يومَـك أن يكونَ رثـاءَ
الخالدون عهِدتُهم أحياءَ
يـا أيُهــا النسرُ المحلِّقُ يتقــي
فيما يميلُ عواصفاً هوجاء
ينقــضُّ عجلاناً فيفلِت صيــدُهُ
ويصيدُه إذ يُحسن الإبطاءَ
أُثنــي عليك وما الثـناء عبـادة
كم أفسد المتعبّدونَ ثناءَ
دِيَــةُ الرجال إساءتـان: مقلِـل
وأســــاء، جنبَ مكثِّر وأسـاءَ
لا يعصـم المجــدُ الرجال وإنما
كان العظيــم المجد والأخطـاء
تحصــى عليه العاثرات وحسبُـه
مــا فاتَ من وثَباته الإحصــاءَ
وعندما انتهى الجواهري بنبرته الحيوية الضّاجة وأصابعه الممددة، استعادة هذه الأبيات من قصيدته في ذكرى عبد الناصر، وأخذ نفساً عميقاً من سيكارته، قلت له لو لم تكتب هذه القصيدة بحق عبد الناصر، فلمن تتمنى أن تكتبها، فأجابني على الفور: إن عبد الناصر يستحقها، ولو أردت أن أتمنى أن أهديها إلى أحد، فلربما كنت أتمنى أن يكتبها شاعر بحقي، لكن أين هو؟
شبيه الشيء منجذب إليه
يقول محمد السيد سعيد: إن الحركة الحقوقية هي أشد الحركات الاجتماعية والمدنية طلباً للاستقامة الأخلاقية والمبدئية، لكنّ المناضلين الحقوقيين، هم مثلهم مثل أي طراز آخر من المناضلين، معرّضون لضغوط الحياة بوجه عام ومعرّضون أكثر لتأثير الجماعات المرجعية، التي انتموا أو ينتمون إليها، والتي تضغط لتجبرهم على تكييف مواقفهم تبعاً للمصالح والأهواء. هنا نجد مصدراً مفجّراً كل ساعة تقريباً – للتناقض. أشير هنا بالتحديد إلى التناقض بين الشخص التاريخي الذي يتكون في مجتمع ما وعبر انتماءات بعينها من ناحية، والشخص الأخلاقي الذي لا يسعه حتى التسليم أمام أهوائه ومصالحه هو: أي الشخص الذي لا يحيد عما تتطلبه مهمته الإنسانية من توحّد مع الماهية الإنسانية المجردة.
لاحظوا هنا أن محمد السيد سعيد كأنه يتحدث عن نفسه مُعلياً من دور العامل الأخلاقي، ولعله لوجدانيته وصميميته هو ذاته ذلك الشخص الأخلاقي. ويمضي للقول: إن الحركة الحقوقية تتطلب بناء هذه النوعية الأخيرة من الأشخاص، لكنني أظن أن تلك النوعية بالتحديد لا تنتج ويستحيل اكتمال بنائها دون فعل يومي شاق مع النفس، وأحياناً مع أقرب الرفاق والأصدقاء وربما الأهل، فلا توجد عصمة لأحد من الوقوع في الهوى والزلل، فالمحافظة على الاستقامة الأخلاقية والمنطقية، ليس أمراً هيّناً وليس له ضمان نهائي، لأننا جميعا بشر من لحم ودم… ويواصل محمد السيد سعيد قوله: لكن الله وهب عدداً محدوداً جداً من الناس تلك الموهبة الفريدة لحل هذا التناقض ببساطة متناهية، إنهم يتصرفون بمبدئية وبحس أخلاقي على نحو شبه غريزي، وأنا أظن أن… ينتمي إلى هذا الطراز النادر من الناس.
كنت أتمنى أن أكتب مثل هذه الكلمات بحق محمد السيد سعيد، ولو سئلت مثل الجواهري، في ما إذا كان محمد السيد سعيد قد كتبها عني، فإني كنت أتمنى أن تكتب بحق محمد السيد سعيد ويكون لي شرف كتابتها.
في فكرته عن المثقف الكوني التقى محمد السيد سعيد مع المفكر العراقي التراثي هادي العلوي، ولعلهما كانا الأكثر زُهدية وتواضعاً وإنسانية، فكلاهما كما أشرت إلى ذلك في بحث قدمته في لندن إلى «جمعية الثقافة العربية» في جامعة سواس « كلية الدراسات الشرقية» بعيدا عن الإغراق في «الخساسات» الثلاث كما يطلق عليها هادي العلوي ويقصد بذلك السلطة والمال والجنس، وكانا كلاهما يطلب من المثقف الترفع إزاء الأغيار الداخليين والخارجيين، لأن أكثر ما يُفسد المثقف هو اقترابه من الحاكم، حيث سيضطر إما إلى حرق البخور له أو تزيين خطابه، وقد ابتلعت دائرة السلطة عشرات المثقفين والمبدعين بوسائل ناعمة.
وكان محمد السيد سعيد وهادي العلوي شديدي التماهي مع الناس في حياتهما، وهما أقرب إلى المثقف العضوي حسب أنطونيو غرامشي في مواجهة ثلاث سلطات: السلطة السياسية والسلطة الثيوقراطية الدينية وسلطة العادات والتقاليد الاجتماعية البالية، ويمكنني أن أضيف أن انتصارهما الأول كان على سلطة النفس الأمارة بالسوء أحياناً، إذ لا يمكن للمثقف إنجاز عمل إنساني كبير، دون الانتصار على نفسه وترويضها، بما يخدم متطلبات ثقافته ومعرفته، فالمعرفة قوة أو سلطة حسب الفيلسوف فرانسيس بيكون وهي سلطة عليا، وعلى المثقف أن لا يتنازل عنها أو يطوّع وسيلته الإبداعية لخدمة الغير سياسياً كان أو دينياً، بقدر خدمة وظيفته الإنسانية.
من القاهرة إلى الرباط إلى لندن إلى بيروت وعمان وصنعاء وأثينا وسيؤول وكوبنهاغن ومالمو وبروكسل وباريس ومدريد والإسكندرية وعشرات المدن، كانت حواراتنا متصلة، وكنا نحلم بأن نواصل حواراتنا يوماً في بغداد وعلى شاطئ نهر دجلة. قلت له يمكن أن نمدد أرجلنا على إحدى ضفتي النهر ونأكل رطباً عراقياً برحياً ذهبياً، وسمكاً مسكوفاً وننام بكل هدوء، لا تحرسنا سوى سماء زرقاء ونجوم مضيئة وباقة أحلام وردية، لكن أحلامنا تلك تكسّرت يوم تم احتلال بغداد، ولم تذهب الديكتاتورية إلى الجحيم حسب، بل ذهبت الدولة العراقية بكل مرافقها.
لم يشعر محمد السيد سعيد للحظة بأي وهم إزاء الديمقراطية الموعودة، رغم أنه كان من أشد أنصار التحوّل الديمقراطي، لكنه لم يكن معوّلاً على الحصار أو التدخل والغزو، لأنه كان يدرك أن الديمقراطية التي تأتي على ظهر دبابة أو جناح طائرة أو رأس صاروخ، لا يمكن معها أن تستقيم الأمور ويتحقق التغيير المنشود، رغم عدائه للاستبداد وعبادة الفرد، ولذلك ظلّ متحفظاً ومحاذراً، وهو ما شاطرته إياه منذ اليوم الأول وما عبّرت عنه يوم حفل تكريمي في القاهرة، الذي صادف يوم العدوان على العراق 20 آذار/ مارس 2003.
سألني مرة هل يصبح العيش في المنفى ضرورياً لمعرفة الهوية، وكان ذلك عشية سفره إلى واشنطن لتولي مسؤولية مكتب الأهرام، قلت له إلاّ إذا اعتقدنا أن المنفى هو فكرة خلاصية، مثل ما ذهب موسى والمسيح ومحمد ولينين والخميني وآخرون.
المنفى يعطينا قدرة على التأمل والمراجعة والنقد، يمكننا أن نلعق جراحنا أحياناً، لكن النفي حسب أدوار سعيد «لا يمكن أبداً أن يكون في حالة رضى عن النفس واطمئنان واستقرار» وهو ما عبّر عنه روائي كبير هو جوزيف كونراد عندما استحضر الكتابة والهوية في وحدة موحدة متنوعة ومختلفة «الكتابة عندي فعل استذكار وهي إلى ذلك فعل نسيان».
لم يقوَ السيد سعيد على المنفى، حتى وإن كان طوعياً، فسارع بعد إنهاء الدراسة إلى العودة، وبعد سنة مضنية وشاقة في واشنطن كما وصفها لي عاد سريعا إلى قاهرة المعز، لأنه يدرك أن ثمة هوّة قسرية بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، لا يمكن أن تنجسر، أي بين النفس ووطنها الحقيقي كما يقول إدوارد سعيد.
المنفى يعطيك الإحساس بالفقد، باليُتم، بالقلق، لن يساويه أي إحساس بالسعادة للإنجاز، ولعل ذلك شعور عام من صموئيل بيكت إلى آينشتاين إلى إدوارد سعيد إلى الجواهري ومظفر النواب وعبد الرحمن منيف وأديب ديمتري ومحمود درويش وهادي العلوي وآخرين، لعل العزاء الوحيد لمنفاهم هو إبداعهم، ولا يوازي هذا بأي حال من الأحوال عذاباتهم التي لا حدّ لها. المنفي يشعر بالتشظي ولذلك يدافع أحياناً بشراسة عن نستولوجيا الهوية ومشاعر الجماعة، وقد يختار اتجاهاً خاطئاً بفعل الانطواء والعزلة والتشبث بما لديه وأحياناً بسبب كراهية الآخر.
جريدة القدس العربي 21 يناير / كانون الثاني 2022