مناهج التدريس والتحول الرقمي.. معضلة العبور نحو المستقبل!
أخوض دراسة الصحافة في الجامعة لأول مرة، بعد أن تخرجت من كلية اللغة العربية قبل سنين والتحقت بصحافة الأنترنت لاحقا وعملت بها لسنوات، اليوم أنا طالب أدرس السنة الثانية من ماستر الإعلام الجديد والتسويق الإلكتروني بكلية اللغات والآداب والفنون بجامعة ابن طفيل بمدينة القنيطرة، والذي تم استحداثه في 2022 لأول مرة.
رغبتي في التسجيل بهذا الماستر، جاءت نظرا لاسمه الذي شدني في البدء ويتماشى مع المستقبل الصحافي، وأيضا مع رؤيتي الخاصة إلى الصحافة في عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، وكذلك رغبة في التحصيل الأكاديمي.
وعلاقة بموضوع "مناهج التدريس والتحول الرقمي"، بحكم تجربتي المهنية في الصحافة الرقمية، أو الإلكترونية كما كانت تسمى في العقد الأول من الألفية الثالثة وبحكم أنني كنت شاهدا على عصر التحول الرقمي بالمغرب، فإن هذا الموضوع لم يُطرق كثيرا وظل الكثير من المهنيين وصناع القرار يتوجسون منه.
سوف أتحدث باقتضاب عن الموضوع من واقع تجربتي ممارسا للمهنة ومتتبعا لمعاهد الصحافة، علاوة على تجربة سابقة، في تدريس الصحافة الإلكترونية في معهد خاص، حيث وقفت عن قرب على معضلة التدريس بالمعاهد الخاصة، وأيضا لعلاقاتي بزملاء تخرجوا من معاهد خاصة ومعهد الرباط العمومي، المسمى المعهد العالي للإعلام والاتصال وكذلك من تخرجوا من الجامعات التي بها مسلك الإجازة المهنية الخاص بالصحافة المكتوبة.
في المغرب لا توجد كليات للصحافة والإعلام مثل بعض الدول العربية، بل جامعات وكليات للآداب، تقوم باستحداث مسالك خاصة بالصحافة والإعلام سواء في الإجازة المهنية، حيث يتم تدريس سنة واحدة، أو بمسلك الماستر حيث يتم تدريس سنتين اثنتين، وتختتم الدراسة في مسلك الإجازة ببحث تخرج، فيما تختتم في مسلك الماستر برسالة يعدها الطالب عن موضوع مرتبط بالمسلك والمساقات التي درسها.
ويعتبر المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط ((ISIC الذي تأسس في عام 1969، المؤسسة العمومية الوحيدة في المغرب التي تكون خريجين في مجال الصحافة ويوجد معاهد كثيرة ظهرت في السنوات الأخيرة سوف نأتي على ذكر بعض مناهجها في هذا المقال.
مسالك الإجازة المهنية في الصحافة عموما بالمغرب تم استحداثها في السنوات العشر الأخيرة، وتتوزع على مجموعة من الجامعات المغربية في مدن مختلفة كالقنيطرة والمحمدية والدار البيضاء وأكادير وبني ملال... وفي مجملها تخص التحرير الصحفي التقليدي.
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بالمغرب قررت في 2023 التخلي، عن هذه المسالك، تحت مسمى ’’ الإجازة المهنية’’ وتعويضها بما أسمته ’’ مسارات التميز’’؛ إذ أوصت الوزارة في مراسلة إلى رؤساء الجامعات، قبل أشهر بعدم تسجيل الطلبة بمسالك الإجازة المهنية المعتمدة سابقا، في جميع مؤسسات التعليم العالي ذات الاستقطاب المفتوح، برسم السنة الجامعية 2023-2024، من أجل إنجاح إرساء مسارات التميز التي تم اعتمادها وسيتم فتحها خلال السنة الجامعية الحالية.
أما المعاهد الخاصة فقد ازداد عددها بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الأخيرة، مدفوعة برغبة الكثير من الطلبة في خوض مجال الصحافة والإعلام وذلك البريق الذي عززته مواقع التواصل وصفحات القنوات الكبرى، التي أصبحت تولي أهمية بالغة للنشر الرقمي خاصة بعد جائحة كورونا حيث يزحف الفيديو على النص المقروء رقميا ويتراجع عدد القراء يوما بعد يوم.
اختلفت مسميات هذه المعاهد، لكنها اشتركت في أسماء بعينها كالاتصال والإعلام والصحافة ومهن التلفزيون أو مهن السمعي البصري.
غالبية المعاهد الخاصة ما تزال تدرس الصحافة بشكل تقليدي، فيما أضافت معاهد تقنيات المونتاج والتصوير إلى مساقاتها وكذلك مادة ’’الصحافة الإلكترونية’’ لكن على مستوى التحرير الرقمي، ومساقات التحول الرقمي المرتبطة بصناعة المحتوى وتدقيق المعلومات والذكاء الاصطناعي والبيانات، بقيت المناهج دون المؤمل.
من خلال تواصلي مع العديد من الطلبة الذين يواصلون دروسهم في معاهد القطاع الخاص، خاصة أولئك الذين يستعدون للتخرج، وبسؤالهم عن مساقات الصحافة الرقمية تحديدا، كانوا جميعا يجيبون، أن المحتوى لم يكن في مستوى تطلعاتهم.
يتضح أن هناك فجوة بين الدروس النظرية والمهارات المكتسبة على مستوى التعامل مع الأنترنت كفضاء خصب لتناقل المعلومات والأخبار وانتشار الصور والفيديوهات على مدار الساعة.
في الجامعة يبدو الشق النظري غنيا مقارنة بمعاهد الصحافة، لكن الجانب النظري وحده لا يكفي اليوم، حيث تواجه مهنة الصحافة تحديات كبيرة على مستوى الأخلاقيات والانتشار وخوارزميات مواقع التواصل.
على مستوى الشق التطبيقي من المحتوى الأكاديمي خلال السنوات القليلة الماضية، يمكن أن نلمس نقصا كبيرا، استنادا إلى آراء الطلبة وأيضا بالنظر إلى المحتوى الذي تنتجه المواقع الإخبارية المحلية حتى اليوم.
المحتوى المنتشر في مواقع الأخبار، اليوم يبدو نظريا بشكل كبير، إذ يتم التركيز على الهرم المقلوب واساسيات كتابة الخبر، في عملية النشر والكتابة بشكل مسترسل، حيث يبدو الموقع صحيفة ورقية على حامل إلكتروني، لكن عمليا وبعد جائحة كورونا، وظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، تبين أن الصحافة عموما، تمر بمرحلة صعبة وتدخل منعطفا خَطرا ومفصليا في تاريخها.
أما الصحافة الرقمية، فتحتاج إلى جيل جديد من الصحافيين المسلحين بأدوات البث الرقمي والتحقق من المعلومات المنتشرة على مواقع التواصل، ومواجهة التضليل الإعلامي وخطر الذكاء الاصطناعي الداهم وغيره.
فأخلاقيات مهنة الصحافة ستكون على المحك، إذا لم يتم تدريب الصحافيين على مواجهة الأساليب الجديدة في النشر والانتشار الرقمي والتضليل.
كنت وزملاء آخرين محظوظين بالاستفادة من تداريب متعمقة في الإعلام الرقمي غالبيتها باللغة الإنجليزية، وبعض الصحافيين، رغم تخرجهم من معاهد خاصة يتعلمون في غرف الأخبار من أقرانهم الذي استفادوا من هذه التداريب المتقدمة.
لولا التدريبات التي تلقيتها من معاهد ومراكز دولية حول الصحافة الرقمية بكل مساقاتها المختلفة، في البيانات وتدقيق المعلومات، وبناء القصة الرقمية وإدارة مواقع التواصل والكتابة لمحركات البحث المختلفة، لما وجدت مكانا يمكنني أن احصل فيه على هذا المحتوى العلمي والأكاديمي. لذلك تأخر التحاقي بالماستر أزيد من عقد ونصف بسبب غياب هذه المساقات عن الجامعات ومعاهد الصحافة، بحكم أنها جديدة نوعا ما ولأنني لم أجد "ضالتي الرقمية" بعد، أواصل البحث والتعلم باستمرار في مجال متجدد.
فمعاهد الصحافة إلى حدود اليوم لا تدرس مساقات تدقيق المعلومات مثلا أو صحافة البيانات، أو المحتوى الموزع، أو إدارة البث الحي في غرف الأخبار وعلاقته بأخلاقيات المهنة.. وغيرها من المساقات التي لابد من اتقانها للعبور نحو المستقبل.
هناك تحد آخر يتمثل في صناع المحتوى من غير الصحفيين أو المؤثرين الذين باتوا ينشرون الأخبار بشكل يومي ويساهمون في نشر معلومات غير دقيقة، وهذا دفع الجمهور إلى استخدام مواقع التواصل كمصدر للأخبار عوض الصحف الرقمية.
في الجامعة يحتاج الطالب أكثر للتمارين التطبيقية عوض الدروس النظرية، هناك حاجة أكثر لأدوات تمكنه من التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وأيضا إلى طريقة فعالة لترويج المحتوى الذي ينشره على مواقع التواصل لضمان ولاء الجمهور إضافة إلى التمكن من تحليل البيانات الضخمة وتحويلها إلى قصة إخبارية، يستطيع محرك جوجل التقاطها في الصفحة الأولى serp من بين قصص أخرى في الموضوع نفسه.
هذه المهارات وغيرها، هي ما يمكن أن يفتح آفاقا للطلبة لولوج سوق العمل مستقبلا، وهي التي يمكن أن تساعد في العبور إلى المستقبل.
بعض الجامعات تعوزها البنية التحتية الرقمية، والكوادر المؤهلة لتدريس المساقات الرقمية بشكل فعال، والبعض تعوزها الإرادة الحقيقية للعبور نحو المستقبل، إذ بدون إرادة حقيقية، لا يمكن أن نخرج من عباءة الماضي الأكاديمي على مستوى تدريس الصحافة.
هناك خوف من المستقبل لدى بعض أصحاب القرار الأكاديمي وأصحاب المؤسسات الإعلامية على حد سواء، إذ ما يزال الهاجس الورقي حاضرا في أذهان الكثيرين، الخوف الذي بدأ منذ 15 سنة وساهم في استمرار المحتوى التقليدي، ومعه استمرت المعاهد في تدريس الصحافة بشكل تقليدي هي الأخرى، ولولا جائحة كورونا التي حركت قليلا من التحول الرقمي الإعلامي، لبقي الوضع قائما.
حتى التحول الذي فرضته كورونا لم يكن جذريا بل هو تحول طارئ مرتبط بظرفية معينة، سرعان ما تراجع بعد سنة من الجائحة.
إن ما يهم المهني اليوم وطالب الإعلام كثيرا هو دراسة الحالة (case study) والممارسة الفعلية رقميا في الوقت الحي، إذ أن الصحافة الرقمية هي عمل في بيئة متسارعة، تحتاج سرعة بديهة في اتخاذ قرار نشر سريع، خاصة عندما يكون هناك خبر عاجل او حدث يستدعي رد فعل عاجل مع ما يتطلبه من حنكة ومسؤولية.
بيئة رقمية تتطلب فهما جيدا لسلوكيات المستخدم القارئ أو القارئ المستخدم.
الصحافي في الماضي كان لديه الوقت الكافي من الأيام او الساعات للتحقق من المعلومة قبل نشرها ورقيا أو بثها في الإذاعة أو التلفزيون، في حين الصحافي الرقمي اليوم إذا وجد 5 دقائق في غرفة الأخبار للتحقق قبل النشر، فهو محظوظ..
إن معضلة العبور نحو المستقبل برأيي أمامها عراقيل مختلفة وعوامل تساهم بشكل كبير في أزمة الصحافة والتحول الرقمي منها:
-غياب القرار الحاسم عند من يملك القدرة على اتخاذ هذا القرار
- ضعف التعاون بين الأكاديميين والمهنيين في هذا المجال
-جمود العملية التعليمية خاصة في مقرر ات التحرير الصحفي الموجه للجمهور الرقمي الذي هو جمهور تفضيلي بطبعه.
-عدم مسايرة إدارة المحتوى للتطورات الحديثة في علوم الاتصال والممارسة الصحفية المتجددة.
-عدم استثمار الموارد البشرية وتخصيص ميزانية للتدريب وتأهيل الصحافيين من قبل المؤسسات الصحفية.
ينقصنا الكثير للقيام به من أجل العبور بالصحافة في المغرب إلى المستقبل مع ما يحمله من آفاق وتحديات مرتبطة بازدياد عدد المستخدمين للشبكات الاجتماعية وآفول نجم الصحافي التقليدي الذي يجيد الكتابة فقط، أمام صعود الصحافي المؤثر أو المؤثر الصحافي الذي يتحدث في كل شيء من أجل أن يبقى على تواصل مع الجمهور.
التحول التكنولوجي بقدر ما يحمل من مفاجآت وتحديات هو أيضا يحمل الفرص التي من شأنها المساهمة في تغطية قضايا الخدمات العامة، وتقديم صحافة مؤثرة تستطيع أن تسائل السلطة وتحدث التغيير المنشود الذي يعزز دور الصحافة في المجتمع.
معضلة تدريس الصحافة في المغرب تتطلب تفكيرا استراتيجيا وجهودا مشتركة من قبل المهنيين والأساتذة والجامعات وصناع الإعلام وحتى السياسيين.
تحتاج الصحافة إلى رؤوس أموال شجاعة، من شأنها الاستثمار في القطاع بمعاهد وجامعات متطورة، إذ يجب زيادة التمويل والاهتمام بتحسين بنية التعليم الصحفي لتحقيق معايير عالية من التعليم.
يجب كذلك تحديث مناهج تدريس الصحافة لتشمل المهارات الرقمية الحديثة والتكنولوجيا الإعلامية. ينبغي أيضًا إضافة دروس حول الأخلاقيات الصحفية والتحقق من الأخبار التي تكون غايتها التضليل أو الربح. من المهم أيضا تطوير المختبرات وشراء التجهيزات الحديثة وتعيين أساتذة متخصصين.
العبور نحو المستقبل لن يتأتى دون تعزيز حرية الصحافة والتعبير، إذ يجب العمل على تحسين مناخ حرية الصحافة والتعبير، والعمل على تغيير القوانين التي تقيد حرية الإعلام.
وهذا العبور يحتاج إلى تشجيع البحث والابتكار في مجال الصحافة وتشجيع الابتكار في تقنيات التحقق والتقارير الصحفية المدعومة بالبيانات.
ينبغي كذلك تعزيز تعليم الطلاب ليكونوا متعددي المهارات، حيث يمكنهم التعامل مع وسائل الإعلام المتعددة والعمل في بيئة إعلامية متغيرة.
كما ينبغي تعزيز الوعي بأهمية الأخلاقيات الصحفية وضمان أن الصحفيين الجدد يفهمون ويمارسون المهنة بنزاهة وأخلاقيات عالية.
لابد من تشجيع الصحفيين المحترفين على الاستمرار في التعلم وتطوير مهاراتهم لمواكبة التطورات في مجال الإعلام رغم تجربتهم الطويلة في الصحافة.
كما يجب تشجيع انفتاح مناهج التدريس على العلوم الاجتماعية المختلفة خاصة المرتبطة بالتحول الرقمي مثل العلوم الإنسانية الرقمية.
– صحافي، مستشار في الإعلام الرقمي
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :