مَعاركنا الوهمية

 مَعاركنا الوهمية
الصحيفة - افتتاحية
الجمعة 4 أبريل 2025 - 14:12

من يُلقي نظرة على ما يُنتجه المغاربة من محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكنه أن يخلص إلى قناعة ترتقي إلى مستوى الإيمان، بأن جزءًا كبير من هذا الشعب غارق في صراعٍ "شرس" من أجل الفوز بمعارك وهمية لا نهاية لها.

الكثير من النقاش، إن جاز ورقيناه إلى مستوى "النقاش"، الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي بين المغاربة، فيه مستوى مفرط من "اللاّ تواضع". الكل يُغني على ليلاه. الكثير مِمَن يَكتبون ويُدونون وينشرون مقاطع مُحتوى يَدَّعون امتلاكهم للحقيقة، والباقون على ضلالٍ مُبين. الحقوق والحريات والمصداقية تبدأ معهم، وتنتفي مع الآخرين. هناك تضخم رهيب للأنا، وخلافات دونكيشوتية لا تنتهي، وصراع سرمدي حول من يملك الحقيقة، والحقوق، والبطولة.

بأفكار انفعالية، يصنع الكثيرون معارك تضليل رهيبة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يضيع كل نقاش جادٍ وجدي حول مستقبل المجتمع والوطن كحاضن لجميع المغاربة، وتطغى كومة من الأفكار الغارقة في المعارك الشخصية البعيدة عن بناء وعي المجتمع، وتقوية دولة المؤسسات، وتخليق الحياة السياسية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ودعم توسيع هامش الحريات، وتطوير آليات خلق حوار ناضج يُسلط الضوء على مشاكلنا وتحدياتنا كمجتمع، والاستثمار فيما يجمع المغاربة، لا ما يفرقهم داخل وطن واحد.

ما يطغى على "سوق عكاظ" وسائل التواصل الاجتماعي، هو ذاك النقاش حول الضمير المهني المعذب، حيث الكثير من الضجيج والضوضاء حول حدود المفاهيم و"تعاريف المهن". حول من هو الصحافي، ومن هو المناضل، ومن هو "اليوتيوبرز"، ومن هو "الناشط"، ومن يَحق له الحصول على بطاقة الصحافي ومن لا حق له في ذلك، ومن يتعرض "للقمع" بالقانون ومن يتعرض له خارج القانون، ومن يدافع عن القيم الجامعة، ومن له ثأر شخصي مع أفرادٍ وجماعاتٍ، ومؤسساتٍ ومع "المخزن" ومع الدولة، ومع "النظام"، حيث يُفرَغ النقاش الحقيقي الذي يهمنا كجماعة، ويطغى نقاش الأفراد، الكل "يَرفس رفسََا" على كل ما يجده أمامه من أجل الانتصار لأفكاره وأناه و"عنترياته" الخرافية.

في خضم الكثير من هذه البهرجة التي يتلذذ بها البعض، ويجد فيها البعض الآخر ضالته ليصنع شخصيته "الفايسبوكية"، يبدو أنه ليس كل من يتحدث بالصوت والصورة، أو يَكتب أو يُدون أو يُعلق على مواقع التواصل الاجتماعي، ظالمًا، كما ليس بالضرورة أن يكون مظلوما، لكن طبيعة النقاش وآلياته تجعل الحقيقةَ تضيعُ وسط "بضائع أفكار" أصبحت رائجة للاستهلاك في مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن تصنع نقاشا حقيقيا رزينا، فيه الصحفي والمثقف والمسؤول حول مستقبل الإعلام والحريات في البلاد. فوسائل الإعلام هي مُرشد الرأي العام، وإن كنا نريد مجتمعا واعيا بحقوقه وواجباته، علينا صناعة إعلام حقيقي، جاد، ورزين، ومهني، بضوابط واضحة وحدود مرسومة بعناية غير خاضعة للتأويل أو للمزاج أو لسلطات غير مؤطرة بالقانون.

ما يقع اليوم من فوضى، هو نِتاج محاصرة الكثير من الأفكار الجادة حول قدرتنا كمجتمع على النقاش الحقيقي حول قضايانا بكل هدوء وعقلانية، وبهوامش كبيرة في تقبل الاختلاف وتحمل بعضنا البعض. لهذا، نجد أن معارك مواقع التواصل الاجتماعي هي تبسيط وتسطيح مبالغ فيه للكثير من قضايانا المعقدة.

كيف يمكن تحليل شخصيات البعض ممن يعتقدون أن وجودهم من يجعل المغرب لا يختفي من الخريطة نهاية الأسبوع؟! كيف يمكن تفسير من يسحقون يوميا الأخلاق ليدافعوا عن الأخلاقيات؟! وكيف يمكننا تقبل من يغتالون يوميا القوانين معتقدين أنهم يدافعون عن القانون، وكأن هذا القانون "حمار" على رأي شكسبير!.

المجتمعات تتطور، وتتحضر، ويزيد وعيها، حينما يفكر الفرد في الجماعة، والفرد المتكرر هو المجتمع، لكن ما نراه اليوم من نقاش على مواقع التواصل الاجتماعي، حول الإعلام والحريات والسياسة.. فيه الكثير من الصراخ، والكثير من الرغبة في الثأر الشخصي، وطغيان الأنا، والكثيرون يخوضون "حروبهم" الشخصية، ولا يهتمون بمعارك المجتمع المرهق بهموم الحياة، والنكسات السياسية التي تعرَّض لها على مدى سنوات من نخبة خانته وخدعته ونهبت ماله، وَصَعَّبت معيشته، وجعلت حياته أكثر قسوة.

لسنا في بلاد خُلقت من العدم، ولا في وطن يعيش الفوضى، ولا نحن أمَّة عقيمة ينقصها العقلاء والنبلاء، لكن مع ذلك، وصلنا لمرحلة يتصدر فيها المشهد من يبيعون عرض "ما يطلبه المشاهدون" ممن يصنعون ثروة الأدسنس، أو من "مناضلين" يبحثون عن مجد ضائع، أو ممن يحملون بضائع أفكار تتغاضى عن خصوصيات هذا المجتمع، أو من مسؤولين ما زالوا يصرون أن يكونوا أوصياء على البشر والحجر.

مَعاركنا الوهمية

من يُلقي نظرة على ما يُنتجه المغاربة من محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكنه أن يخلص إلى قناعة ترتقي إلى مستوى الإيمان، بأن جزءًا كبير من هذا الشعب غارق في ...

استطلاع رأي

بعد 15 شهرا من الحرب على غزة أدت إلى مقتل 46 ألفاً و913 شخصا، وإصابة 110 آلاف و750 من الفلسطينيين مع دمار شامل للقطاع.. هل تعتقد:

Loading...