مَناعَةُ الفُقَراء!
■ هي مَناعةٌ نَفسيّةُ وأخلاقيّة..
في حالةِ الفَقرِ أو التّفقير..
وما كانَ الفُقراءُ - فقط - مَن يمُدُّون اليَد..
عِندَنا مَن يَفتَقِرُونَ إلى الكِفايةِ منَ المأكَلِ والمَشرَبِ والمَسكَنِ والتّطبيبِ والتعليم… ولا يَملِكُون شيئًا، وليس لهُم مَدخُولٌ مادّيٌّ يَضمَنُ لهُم كرامةَ الحياة.. وهذه الفئةُ بالذاتِ مُحتَاجةٌ لأبسَطِ الضّرُوريات..
وعِندما نتأمّلُ الأجيالَ الصّاعِدة، نجِدُ فيها أغنيّاءَ بالكرامةِ والضّميرِ ورُوحِ التّعاوُنِ والتّآزُرِ والتّطَوُّع…
إنّهُم إخوانُنا.. يتَحمّلون الصّعاب.. ويُعانُون.. ويَصْمُدُون.. وهُم أغنياءُ بقُلُوبِهم وعُقُولِهِم وإنسانيّتِهِم..
وقد خَرجُوا مِن أحيائِهِم المُهَمّشة، وفيهِم بوادِرُ الإنسانيةِ بأَسمَى شُمُوخِها..
▪︎ هذهِ أجيالُ التّحدّي..
ومِن هذه الفئةِ الاجتِماعيّةِ المُحتاجَة لأبسطِ حُقوقِها، نَشَأَت وتَنشَأُ أجيالٌ من الكفاءاتِ المُتمَيّزَةِ في الدّاخِلِ والخارِج..
وفِعلاً قد تَعلّمَت، وتَشتَغِلُ وتُساعِدُ أفرادَ أُسرَتِها المُحتاجِينَ هُنا، داخلَ البَلَد..
وهُنا - بيْنَنا - معَها أُسَرٌ ليسَت فقيرةً إلى الوَعيِ والأخلاقِ وكرامةِ الحياة..
وهكذا يَلتَقي الاحتِياجُ مع الوَعي..
إنّ المجاعةَ ليست دائمًا قاتِلة.. ولكنّ ما يَزُجّ بأيّ كائنٍ بَشَرِيّ إلى غياهبِ سُوءِ التّدبير، هو الغَباء.. الغبِيُّ مُضرٌّ بنَفسِهِ وبغيرِه..
ويَستَفحِلُ عِندمَا يتَحوّلُ إلى سُلوكٍ يُكرّرُ أخطَاءَه..
وبِئسَ الغَبَاء!
▪︎ ولكُلّ فَردٍ ظرُوفُه وعَقليتُه..
ومِن هذه الأحيَاءِ والقُرَى المُهَمَّشَة، يتَألّقُ شَبابٌ أصبَحُوا اليومَ منْ أُطُرِ البَلَد.. فيهِم أساتِذةٌ يُعلّمُون أجيالاً صاعِدةً كيفَ تَقُومُ بتَوجيهِ التّنشِئةِ على خِدمةِ المَصلحةِ العامة، وكيفَ يَكُونُ التّميِيزُ بين الجَماعِي والفَردِي، وتَحديدًا بينَ مَصلحَةِ الوَطَنِ وهُو تنظيمٌ جَماعي، ومَصلَحةِ المُواطِنِ باعتِبارِه من الأفراد…
وهذه النّبتَةُ البَشريةُ الصالِحةُ هي الأمَلُ في بِناءِ "المَغربِ الجديد"، وِفقَ الاحتيّاجاتِ الآنيّةِ واللاّحِقةِ للبَلَد.. وهي اليومَ شَخصِيّاتٌ مُؤَهّلةٌ للتّأثيرِ الإيجابِي على الأهلِ والأصحَابِ والجِيرَان، وبالتّالي على الرّأيِ العام..
وفي هذا السّياق، ولكي تكُونَ المَردُوديّةُ وِفقَ ما تَفرضُه مُتَطلّباتُ البلَد، يتَوَجّبُ الاشتِغالُ في بِنيَةٍ مُجتمَعيّة تربطُ بين مغاربةِ الداخلِ والخارِج، وطنيّا واجتِماعيّا وإنسانيّا، أي تطويرُ العلاقاتِ الأُسَريّةِ القائِمة، أُفُقيّا وعمُودِيّا، وتجنُّبُ الأخطاء التي وقَعت وقد تتَكرّرُ - بَشَرّيًّا - في تَواصُلِ الوَطنِ مع بناتِه وأبنائِه: "مغاربةِ العالم"..
وهذه النّبتَةُ المغربيةُ في الخارِج قد كبُرَت أعدادُها، وحتمًا سيَكُونُ تأثيرُها أكبَر.. وستَكُونُ مَورِدًا للتّنميّةِ البَشَريّة في رُبُوعِ بِلادِنا، فتَنتَشِرَ في كلّ مكانٍ على أرضِنا المِعطاءِ أخلاقياتُ التّعاوُنِ الوَطني، وأخلاقياتُ التّضحيةِ من أجلِ الصّالحِ العام..
و"مَغاربةُ العالَم"، في كلّ الظّروف، هُم ثَروةٌ وَطنيّةٌ تَستَوجِبُ مَزيدًا من العِناية..
▪︎ ولا غِنًى عن الرّعاية!
ضرورةُ الوقُوفِ على غَرسِ ونُمُوّ نَبْتَتِنَا البَشرية..
والنّتِيجَة، حتى وهي إيجابيّة، هي أنّ هذه "النّبتَة" بحاجةٍ إلى عنايةٍ دائمة، وإلى تتَبُّعٍ وتوجيهٍ مُستمِرّيْن، لاستِثمارِ مِيلادِ مُجتمَعٍ مُتَجدّد..
مُجتمَعٌ يَعِي قيمةَ الأمانِ المَحلّي والجِهَوِي والوَطنِي، وقيمةَ النزاهةِ في التعامُلِ بين الإدارةِ والمُوظّفِ والمُواطِن، وقيمةَ الدّيمُقراطية، وقِيمةَ الانتخاباتِ عندما تكُون مَورِدًا لِمُنتَخَبِين واعينَ بأهمّيةِ المَجالسِ الجماعية، ومَجلسِ النُّواب، وبأهَمّيّةِ الاحترامِ المُتبادَل بين النّاخِبِ والمُنتَخَب..
وعِندَئذٍ لا تَجِدُ الأَحْزَابُ عندنا مَفرًّا مِن إصلاحِ نفسِها، والالتزامِ بوُعُودِها الانتِخابيّة..
ولا يَصِلُ إلى مَواقعِ المَسؤولية إلاّ مَن يَثِقُ فِيهِمُ الناس..
وهكذا تَنتَشِرُ عندنا ثقافةُ "انتِقاءِ المسؤولِ المُناسِبِ في المَكانِ المُناسِب"..
وهذا المَسْلَكُ بهذا الإصلاحِ الوطني، لن يَقُودَ إلاّ إلى تنقيةِ العَقليات، كي تَنشَأَ في بلادِنا ثقافةٌ عامّةٌ غيرُ مُلوَّثة، وبعِيدَة عن المَصالحِ الذاتية..
المَصلَحةُ العامّةُ هي الأَوْلَى، ومنها تَنمُو مَصلحةُ الأُسرةِ والدولةِ بكلّ تنويعاتِها المُجتمَعيّة..
▪︎ أهلاً بالصّفاءِ الوَطني!
وفي هذا المُنعَطَف، يَخرُجُ التّلفزيونُ عن صَمتِه..
ويَتْبَعُهُ كلُّ الإعلامِ في تقديمِ تَوعيّةٍ مُوجّهةٍ إلى كُلّ المُواطِناتِ والمُواطِنِين: "أيها الناس! علينا جميعًا بالنّزاهة.. ثم النّزاهة في التّواصُلِ والتّعامُلِ والسّلُوك.. والأخلاقِ ثُم الأخلاَق.. والأمنِ الوطَني مِن أجلِ وِقايةِ كلّ المَداشِرِ والأحيَاء..
ولا فرقَ بين الناس..
الكُلُّ سواسيّةٌ أمام القانُون..
القانُونُ فوقَ الجميع.. ولا رِيعٌ ولا احتِكارٌ ولا مُبعَدُون ولا مُقرَّبُون.. جميعُنا أُسرةٌ واحدةٌ تحت أضواءِ الوطنِ الواحِد..
ضَرُورةُ يَقظةِ الأمنِ والعدالةِ والصحّةِ والتعليم والتّشغيلِ والحقوقِ والواجِبات…
▪︎ وكفَى مِن تقسِيمِ البِلاد…
إلى فُقراءَ وأغنيّاء!
إلى مَحظُوظِين وغيرِ مَحظُوظين!
المِقياسُ لا يكُونُ بانتِمائك وثَروَتِك.. المِقياسُ بمَهارتِك وصِدقِكَ وحُسنِ سُلوكِكَ وتَدبِيرِك..
هذا هو الرّصيدُ المَطلُوب.. وما عَدَاه، فمُجرّدُ مُزايَدة..
نُريدُ بلدَنا نزيهًا مع الدّاخِلِ والخارِج..
وفي كلِمةٍ واحِدة: "هذا بَلدٌ يُراهِنُ على النّزاهة"..
ومَن يُراهِنُ على مُزايَدات، فهذا ليسَ معَنا..
ونحنُ لا نتَسَوَّل.. نُطالبُ بالحُقوقِ والواجِبات..
▪︎ ولا نتَعاملُ إلاّ مع الانضِباط..
وهكذا نُساهمُ جميعًا في بناءِ دولةِ الاستِقرارِ والتّنميّة..
وهذا هو التّغيِيرُ المَنشُود: الجميعُ تحت سيادةِ "دولةِ الحُقُوقِ والواجِبات.. دَولةِ الانضِباطِ لقانُونٍ هو فوقَ الجميع"..
ولا نَقبَلُ حُكومةً تتَبَختَرُ علينا تحت غِطاءِ "استِغلالِ الدّين"، أو باسْمِ القبِيلة، أو ضَغطٍ من رَصِيدِك البَنكِيّ..
المَظاهِرُ لا تهُمّنا.. ما يهُمُّنا هو مَغربُ المَغاربة.. لا فرقَ في قانُونِه بينَ رجُلٍ وامْرَأَة..
قانُونٌ يَفصِلُ بين الدّينِ والدّولة.. ويَحتَرمُ الحُرّيات.. وحقُوقَ الإنسان..
ويُطبَّقُ على الجَمِيع..
■ وهذه مَناعتُنا..
إنها ليست نُسخةً من مَناعةِ التّطعيمِ ضدّ أيّةِ جائحة، بل مَناعةٌ اجتِماعيةٌ من عواقبِ الفَقرِ الذي ما زال عندنا غيرَ طبيعي..
الفقرُ لم يأتِنا منَ الطبيعةِ وَحدَها..
هو تَفقِيرٌ أنتَجَتهُ سياسةٌ حِزبِيّةٌ حُكوميّةٌ تَفقِيريّة.. تهدِفُ لاستِغلالِ الفَقرِ المُصْطَنَعِ المُستَشرِي في رُبُوعِ بِلادِنا..
تَفقِيرٌ قد أنتَجَ هَشاشةً اجتِماعيةً قُصوَى، من أجلِ استِغلالِ هذه الفئةِ الشّديدةِ الاحتيّاج، في الانتخابات، وفي مُمارَسة سُلوكاتٍ رديئة..
▪︎ التّفقيرُ هو المُتّهَم..
وهذا ما يُفسّرُ كَوْنَهُ المُتّهَمَ الرئيسي في جرائمِ الفَسادِ والاعتِداء والاغتِصابِ والسّرقةِ وكلّ السّلوكياتِ المُخِلّةِ بالآداب، والاتّجارِ في أصواتِ الناخِبِين، وفي تهريبِ المُهاجِرينَ السّرّيّين…
والسّجُونُ مَلْآى بشَبابٍ مُفَقّرِين: لا عمَل، لا تعليم، لا صَنعة، لا ضمير، لا أخلاق، لا توازُن نَفسِي وعَقلِي وعَصَبي، لا حاضِر، لا مُستَقبَل…
▪︎ وفي المُقابِل:
نَجِدُ شبابًا يتّسِمُون بالوَعْي، والأخلاق، وبُعدِ النّظَر، ويَعتَمِدُون على أنفُسِهم لكَسبِ قُوتِ يَومِهِم..
وإلى جانِبِهم شَبابٌ تَعَلّمُوا أو علَّمُوا أنفُسَهُم بأنفُسِهم، واكتَسَبُوا مَهارات، وصارُوا لغَيرِهِم قُدوَة..
وهذه مَناعَتُنا التي تَعنِي أنّ هؤلاء الشبابَ الواعِين هُم صَمّامُ الأمانِ لأُسْرَتِنا ومُجتَمعِنا وبِلاَدِنا.. وعَلَيْهِم الاعتِمادُ لِلوِقايَة..
▪︎ وَحدَها الجِدّيةُ تَفسَحُ المَجالَ واسِعًا أمامَ مَسِيرَةِ "المَغرِبِ النّاهِض".. مَغرِبِ العَقلِ والتّحَدّي…