يأس اللاعودة المبكر
لقد أضحى الكلام الذي كان شائعا في عقود سابقة عن العراقي المهاجر المصاب بمرض "هومسك" مجرد كلام فلكلوري فارغ أمام فشل سياسي واقتصادي مستمر في تلك البلاد التي نحبها وتزدرينا!
هناك مسافة متباعدة بين دمشق وسيدني، لكنها بالنسبة إلى عراقيين اثنين في عمرين متفاوتين بعدة عقود، تمثل يأسا صلدا عن العودة إلى الوطن.
في دمشق يعيش الشاب العراقي المولود في سوريا نهاية ثمانينات القرن الماضي من أبوين عراقيين، والده من كبار الفنانين العراقيين المهاجرين منذ عقود. ولم يزر بلده مطلقا، وليس هذا المهم، بقدر أهمية أن العراق كوطن لا يشكل شيئا في ذاكرة هذا الشاب، وقد لا يعني له أكثر من مشهد الحنين الذي جسده مرارا والداه أمامه لبلاد “أحبها وتزدريني”.
على الجانب الآخر من العالم يعيش الكهل العراقي في أستراليا منذ ستينات القرن الماضي، ولم يزر بلده أيضا وفق مبدأ هجرة اللاعودة. مشغول باللغة الآرامية القديمة ويكاد يكون قاموسا لها في عمل لغوي دائم، طالما ركزت عليه المحطات التلفزيونية الأسترالية في أكثر من تقرير.
ما يجمع ابن الفنان العراقي المولود في دمشق والذي مازال هناك والكهل الآرامي العراقي في أستراليا، أكثر مما يبعدهما بغض النظر عن المسافة بينهما والمسافة الأبعد التي تبعدهما عن عراقهما.
يمكن أن نسميه “يأس اللاعودة المبكر” فقد حسما أمرهما مبكرا. وهو يأس يختلف عن اليأس المبكر الذي شعر به الملايين من العراقيين الذين هربوا من العنف الطائفي بعد احتلال البلاد عام 2003، إلى دمشق وعمان، فقد بقيت عيونهم ترنو إلى الطريق الواصل إلى بغداد.
في النهاية، تعلم الغالبية من مهاجري الجيل الأخير اليأس أيضا، عندما أداروا عيونهم إلى الطريق الأبعد عن بغداد، مع أن المسافة من عمان ودمشق إلى بغداد لا تتطلب أكثر من رحلة أقل من نهار في السيارة.
لقد جسدت قطيعة عراقيين مع العراق حقبة أجيال من المهاجرين، بمن فيهم من كان يمارس دور الضحية من النظام السابق، فلا أحد من هؤلاء تخلى عن أنانيته الشخصية وفرط بكرامته المستعادة في بلدان المهجر ليعود إلى بلد كان يهين فيه رجل الأمن الناس في الشارع وتحول في ما بعد إلى بلد يغتال فيه الميليشياوي الطائفي الناس أمام بيوتهم.
هنا، من الأهمية بمكان التذكير بمن حسم أمره في اتخاذ قرار اللاعودة إلى عراق الأمس مع أنه لم يتخل في قرارة نفسه عن عراقه الخاص أو الذي يتمناه ويصنعه في مخيلته، وهم نسبة كبيرة من ملايين المهاجرين العراقيين.
لا يمكن، وفق أي حال من الأحوال، التشكيك بوطنية هؤلاء الملايين من العراقيين، كما أن نسبة كبيرة منهم مخلصة لقيم البلدان التي أعادت لهم الكرامة المسلوبة ومنحتهم فرص الحياة والتعليم والابتكار والتفكير والاندماج في مجتمعات مختلفة “دعك ممن ظلوا يعيشون على الهامش ولم يتعلموا بعد سنوات طويلة لغة البلاد التي آوتهم لأنهم لا يعبرون إلا عن تخلفهم سواء كانوا في العراق أو خارجه”.
أبناء هذا الجيل الأخير من المهاجرين يكاد يشكل أولاده جيلا آخر لا يمت بصلة لعراق 2003، وربما نسبة كبيرة منهم لا يتحدثون العربية. حيال ذلك توجد دعوات أفضل ما يمكن وصفها بـ”المضحكة” من قبل أطراف في الحكومة العراقية أو في الأحزاب المستحوذة على السلطة تنصح العراقيين بالعودة لخدمة بلدهم! لكن لا أحد من المهاجرين يعير أهمية لهذا الكلام العبثي عن الوطنية، بمن فيهم من يضع قدمين واحدة في العراق وأخرى في بلد المهجر تحت ذرائع مختلفة أغلبها كاذبة.
العراقيون في بلدان العالم، لا يمكن أن ينتزعوا جلد عراقيتهم مهما فعلوا، ليس لأنهم لا يريدون ذلك، بل لأنهم لا يقدرون على ذلك، فمجرد أن تمر على أسماعهم أغنية من تلك البلاد المتأسية على مستقبلها تنفتح سواقي الدموع. ولأنهم يعيشون اليأس من مستقبلها اختاروا اللاعودة، مقاومين موجات الحنين.
لقد أضحى الكلام الذي كان شائعا في عقود سابقة عن العراقي المهاجر المصاب بمرض “هومسك” مجرد كلام فلكلوري فارغ أمام فشل سياسي واقتصادي مستمر في تلك البلاد التي نحبها وتزدرينا!
*عن صحيفة العرب