فتنة الريسوني
لما يفقد المرء حسه النقدي ورزانة العقل وعمق التفكير يفقد بالضرورة الحكمة والتبصر وتقدير أثر القول أو الفعل على النفوس أو العلاقات. مناسبة هذا القول ما صرح به الدكتور الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، حول موريتانيا دون أن يدرك أو يقدّر أثره على العلاقات الدبلوماسية بينها وبين المغرب. ذلك أن تأكيد الريسوني، في حديثه لموقع “بلانكا بريس”، بأن “وجود موريتانيا غلط من الأساس، إلى جانب قضية الصحراء”، وأن “المغرب ينبغي أن يعود إلى ما كان عليه قبل الغزو الأوروبي لما كانت موريتانيا جزءًا منه”، يفتقر إلى الحكمة والواقعية ويروم إثارة الفتنة بين الدولتين والشعبين. فحديث الريسوني لم يأت في سياق تاريخي بدليل توظيفه لفعل "ينبغي" الذي يسري أثره على الحاضر والمستقبل، أي ما يفيد المتعين فعله وذلك بإعادة موريتانيا إلى حضن المغرب وسيادته. الأمر الذي يطرح سؤالا حول هدف الريسوني من هذا التصريح وهو يعلم علم اليقين أن موريتانيا دولة مستقلة وذات سيادة وعضو بهيئة الأمم المتحدة، وأن المغرب يعمل جاهدا على الارتقاء بعلاقاته الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والأمنية والعسكرية معها وتمتينها. هل يجهل الريسوني أو يتجاهل تربص عدة أطراف خارجية بالمغرب وبموريتانيا خدمة لأجندات الهيمنة والتوغل، أو عزل المغرب عن امتداده الإفريقي وضرب مصالحه العليا؟ طبعا لا يمكن التعامل مع تصريحات الريسوني باعتبارها أقوالا عابرة صدرت عن شخص عادي اعتاد الخوض في القضايا الفقهية بعيدا عن المجال الدبلوماسي والسياسي. فالريسوني شخص مسؤول في أكبر هيئة علمائية تفتي في القضايا المصيرية للمسلمين؛ ومن ثم ينبغي إعطاء أقواله الأبعاد التي يفرضها مقامه كرئيس وفقيه "مقاصدي". إن الريسوني، في واقع الأمر، لا يمثل نفسه وإنما انتماؤه الإيديولوجي والتنظيمي لتيار الإسلام السياسي يجعله في خدمة أهداف هذا التيار ضدا على مصالح الشعوب والدول. ولا يُخفي الريسوني حقيقة أن تنظيمات الإسلام السياسي لم تبلغ بعدُ مرحلة "الرشد" أو بالكاد تلامسها. فلا غرابة، إذن، أن تأتي تصريحاته مخالفة للأعراف الدبلوماسية ومفتقرة إلى الحكمة المفروض توفرها في العلماء والفقهاء. وليست المرة الأولى التي يعبر فيها الريسوني عن مرحلة "ما قبل الرشد" التي توجد عليها الحركة الإسلامية وقياداتها. ففي سنة 2003، أعطى تصريحا لصحيفة مغربية "Aujourd’hui le Maroc" شكك، من خلاله، في أهلية الملك لتولي مسؤولية إمارة المؤمنين. زلة لا يمكن أن يسقط فيها إلا "فقيه" فاقد "للرشد" مهووس بالمشروع الإخواني الهادف إلى السيطرة على الدولة والسلطة والدين. ورغم أن تصريحه حينها كلّفه منصبه على رأس حركته الدعوية "التوحيد والإصلاح"، فإنه لم يتعظ ولم "يرشد" حتى يزن الأمور بميزان العقل والحكمة ومصلحة الشعوب والأوطان. وكيف له أن يفعل وقد انخرط في خدمة التحالف الإخواني/الإيراني. إذ لا يخفى على أحد المخطط الإيراني في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
مخطط تعمل إيران، بكل الوسائل، على تمريره وتنفيذه. وسبق للمغرب أن تصدى له بكل حزم حين قرر قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران سنة 2018. ذلك أن المغرب تفطن لكون إيران تخطط لزعزعة استقراره عبر الدعم العسكري واللوجيستي لجبهة البوليساريو مستغلة تواطؤ حكام الجزائر وتسهيلهم لمأمورية الحرس الثوري وعناصر حزب الله اللبناني لنقل خبراتهم العسكرية والقتالية لانفصاليي تندوف. مخطط حذر منه المغرب مرارا.
ففي مقابلة مع قناة "لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية" بموقع "يوتيوب"، عشية أول مشاركة رسمية مغربية في فعاليات مؤتمر "إيباك"، أكد السيد ناصر بوريطة: "لقد هددت إيران وحدة الأراضي المغربية وأمنها، من خلال دعم ميلشيات البوليساريو، وتدريبهم ومنحهم السلاح، كما أن إيران تنتشر من خلال حزب الله في غرب إفريقيا، واليوم نحن لا نزال نحتاط من التهديدات الإيرانية لأمن الشعب المغربي"، وأن "إيران أيضا تستغل حزب الله لتوسيع نشاطها في شمال افريقيا. ونحن جد يقظين حيال التهديدات التي تمثلها إيران بالنسبة لأمننا وأمن المغاربة". هذه اليقظة المغربية بدل أن يدعمها الريسوني من موقعه على رأس اتحاد العلماء، فهو يشوش عليها بتقديم المبررات التي تخدم أجندة إيران والجزائر. ذلك أن إيران فشلت، حتى الآن، في اختراق المجتمع الموريتاني بفضل يقظة الطبقة السياسية ورئاسة الدولة التي سبق وأغلقت أول "حسينية" فتحتها إيران بمسجد "الإمام علي بن أبي طالب"، في حي "النعيم" بنواكشوط، وعزلت الإمام عن الخطابة وأي نشاط ديني. وعي موريتاني بمخاطر التغلغل الإيراني جعل المفتي أحمدو حبيب الرحمن، يدعو سلطات بلاده، في شتنبر 2015، إلى قطع العلاقات مع إيران بسبب «المد الصفوي الفارسي» الذي يخالف المذهب السني لموريتانيا. كما سبق للدكتور عبد السلام ولد حرمه ،رئيس "حزب الصواب" أن حذر من خطورة المخطط الإيراني؛ إذ قال في إحدى تصريحاته الصحفية «لقد سبق وأن حذرت، ومعي عدد من الباحثين الموريتانيين، من أن المشروع الإيراني في موريتانيا أصبح خطيراً، ويشكل تهديداً حقيقياً لأمن البلاد»، وأن «المشروع الإيراني يقوم على سببين أساسيين: أولهما أن موريتانيا تملك موقعاً استراتيجياً مهماً بين غرب القارة الأفريقية وشمالها، أما السبب الآخر فهو أن موريتانيا لديها مخزون كبير من الثروات ينتظر أن يبدأ استغلاله من طرف القوى العالمية في السنوات القليلة المقبلة، وإيران لديها أطماع في هذه الثروات».
إذن، تصريحات الريسوني تخدم المشروع الإيراني من حيث كونها تبث الوساوس والمخاوف في نفوس الموريتانيين من المغرب الذي صوّره كقوة "توسعية"؛ الأمر الذي قد تستغله إيران لعرض "خدماتها العسكرية والأمنية" على موريتانيا لحمايتها من "خطر وهمي"، ومن ثم تجد موطئ قدم لها. فإيران لا تكف عن عرض تلك الخدمات، إذ سبق لوزير الدفاع الإيراني العميد الركن أمير حاتمي، أن زار موريتانيا في يناير 2019 لنفس الأهداف. من هنا نفهم ونتفهم الاحتجاج الموريتاني غير الرسمي ضد تصريحات الريسوني، ومن ذلك ما جاء في منشور حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل”، من أن “التصريح المتداول حمل عبارات غير لائقة، وأحكاما إطلاقية بعيدة من الدقة، ومعلومات غير مؤسسة، وإساءة غير مناسبة ولا مقبولة إلى الجمهورية الإسلامية الموريتانية وأهلها". أكيد أن الريسوني، قبل أن يسيء إلى موريتانيا، أساء إلى المغرب الذي ظل يحافظ على علاقات حسن الجوار ولا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول، بل يشارك في القوات الأممية لحفظ الأمن واستتبابه بالقارة الإفريقية. للأسف جاءت تصريحات الريسوني المحرضة على الفتنة أسبوعا فقط عن خطاب العرش الذي أهاب فيه عاهل البلاد بجميع المغاربة إلى مواصلة التحلي بقيم الأخوة والتضامن وحسن الجوار "وبهذه المناسبة، أهيب بالمغاربة، لمواصلة التحلي بقيم الأخوة والتضامن، وحسن الجوار، التي تربطنا بأشقائنا الجزائريين؛ الذين نؤكد لهم بأنهم سيجدون دائما، المغرب والمغاربة إلى جانبهم، في كل الظروف والأحوال"، وأن يعطوا" المثال للشعوب المغاربية الأخرى". إنك فتّان أيها الريسوني.