إدوارد سعيد: الإستشراق وفيض الذاكرة
إذا كان كتاب «الاستشراق» أول كتب المفكر الفلسطيني الموسوعي إدوارد سعيد، فإن آخر كتبه التي زادت على العشرين هو كتاب «تأملات حول المنفى». الأول صدر في العام 1978، أما الأخير فقد صدر في العام 2000 وفيه جمع نحو 50 مقالة كان كتبها خلال ثلاثة عقود ونيّف من الزمن (1967-1999).
تصدّر الكتابان وما بينهما كتاب «عن الأسلوب المتأخر- موسيقى وأدب عكس التيار» ترجمة فواز طرابلسي، وقد دوّن فيه السنوات الأولى من سيرته حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، وكتاب «خارج المكان» الذي صدر في العام 1999 وتمّ تعريبه في العام 2000، قائمة الأعمال الإبداعية لإدوارد سعيد الذي أصبح الشخصية العربية العالمية الأكثر إثارة للجدل والنقاش من جانب تيارات فكرية وثقافية مختلفة، وأوساط أكاديمية وسياسية متعدّدة، خصوصاً توزّع أعماله بين «النقد الأدبي»، و«الهويّة الثقافية»، و«القضية الفلسطينية»، و«الموسيقى»، وغيرها.
مفارقات
منذ أن أهداني الصديق الشاعر والصحفي شريف الربيعي في العام 1981 كتاب "الاستشراق" حتى أصبحت أفتش عن كل ما كتبه إدوارد سعيد. وصادف أن جاء لإلقاء محاضرة في لندن في تسعينيات القرن الماضي في الجمعية الجغرافية الملكية
RGS، وهو ما لفتت انتباهي إليه الصديقة كفاح البيّاتي التي كانت تعمل في هيئة الإذاعة البريطانيةBBC وقد حضرت محاضرته تلك ودهشت بطريقته في الإلقاء والمحاججة، وعلى هامشها إلتقيته.
تعكس شخصية إدوارد سعيد مفارقات عدّة، فبقدر ما هو فرد فإنه مثّل مجموعاً، لأنه عبّر عن ضمير، وإذا كان ولد في القدس العام 1935، فإنه ترعرع في القاهرة، ودرس في الإعدادية البريطانية، وقضى أوقاتاً في لبنان، وغادر إلى الولايات المتحدة، حين بلغ السادسة عشرة من عمره، التي حمل جواز سفرها لاحقاً، ليدرس في جامعة برينستون، ثم هارفرد، ومن ثم يشرع بالتدريس في العام 1963 في واحدة من أعرق الجامعات العالمية، وهي جامعة كولومبيا في نيويورك، وظل فيها حتى وافاه الأجل.
صدمة 5 حزيران /يونيو
تركت هزيمة 5 يونيو/ حزيران، العام 1967 جرحاً عميقاً في حياته، وهو ما عبّر عنه حين استحضر انتماءه وهويّته الفلسطينية العربية، حيث عاد بالذاكرة إلى عمليات الإجلاء والترانسفير الفلسطينية التي مارستها «إسرائيل» منذ قيامها، وما تعرّض له الشعب العربي الفلسطيني من استلاب دولي، وتواطؤات ألحقت الضرر البالغ بقضيته العادلة، وكان انصرف في تلك الفترة لكتابة مؤلفه المثير «الاستشراق» الذي لاقى نجاحاً منقطع النظير، وتمت ترجمته إلى ست وثلاثين لغة، وهو قراءة للخطاب الغربي عن «الشرق».
تعلّم سعيد من تناقضاته والواقع الذي عاش فيه كيف يفكّر إزاء المشروع الحضاري الفلسطيني والعربي المناهض للإمبريالية والصهيونية، وأدرك دور المثقف والأكاديمي، ولاسيّما الذي يعيش في الغرب، فهو فلسطيني يعيش في الشتات، وفي مدينة «نيويورك» الكوزموبوليتية، متعدّدة الأعراق، وهو في الوقت نفسه متعدّد الأصوات، وينطلق من تعدّدية داخلية، وتنوّع ذاتي، مثلما هو جزء من الهويّات الإنسانية المعاصرة المنفتحة، وغير المنغلقة.
جروح المنفى
إذا كانت جروح المنفى كثيرة ومعتّقة، فإن إيجابياته غير قليلة، وهذا يعتمد على قدرة المنفيّ على التفاعل مع محيطه، والتأثير فيه، بما يساعد على الانفتاح والتلاقح ما بين الثقافات، والحضارات، حيث تتجاور الخصوصيات في إطار من التنوّع والتواصل، والتداخل، وهو ما حاول إدوارد سعيد توظيفه إيجابياً بعد التوقف عنده، وفحصه، واستخدام شحناته الحيوية لمصلحته، وقد عكسه في كتبه، ومحاضراته، وأنشطته المختلفة، فالمنفيّ، والمهاجر، أو المهجّر، يجد نفسه في «اللّا مكان» إلى درجة يشعر أحياناً بأنه «عكس التيار»، ويعيش التهميش أحياناً، لكنه يعتبره امتيازاً وليس فداحة، لاسيّما حين يستمر في بحثه عن الحقيقة والعدالة.
الأخطر بالنسبة للحركة الصهيونية
يُعتبر إدوارد سعيد الأخطر بالنسبة للحركة الصهيونية في ما كتبه، وفي ما استطاع أن يلفت النظر إليه في أحد معاقلها الأساسيّة، ونعني به الولايات المتحدة، حيث اللوبي الصهيوني المتنفّذ، الذي عرف دوره منذ صدور كتابه الأول «الاستشراق» الذي لا يزال حاضراً حتى الآن على الرغم مضي ما يزيد على أربعة عقود من الزمان، خصوصاً أن كتاباته جاءت متناغمة مع القيم الإنسانية في الوقوف ضد الحرب، والتطهير العرقي، والعنصرية، والهجرة القسرية، وتمزيق البلدان. وبسبب مواقفه هذه تعرّض للتهديد، بل إن مكتبه أحرق، فضلاً عن اتهاماته بأنه «عدو للساميّة».
أهم شهادات العصر
من يقرأ كتابه «خارج المكان» سيدرك أنه أمام إحدى أهم شهادات العصر، والأمر لا يتعلق بأهميته، أو بأسلوبه الشائق والممتع أو بالسرد الدرامي أو حتى بسبب مضمونه، إنما لما سلّط فيه الضوء على خمول الضمير الإنساني في لحظة فارقة من لحظات التاريخ الأشد مأساوية، خصوصاً أنه استطاع أن يخاطب العقل (الآخر) ويتحدّث عن تجربة اقتلاع شعب من أرضه، ورميه خارج المكان في محاولة لمحو ذاكرته، وهويّته، ومصادرة تاريخه ومستقبله.
و«خارج المكان» يمثّل جسراً بين ماضٍ لا يمكن أن يُنسى، وبين حاضر لا يمكن أن يدوم، أما داخله فهو تمسك بالهويّة والرمز، وبين الخارج والداخل صور، وانعكاسات، وأحداث، ووقائع، ومؤامرات، وآمال، وحروب، ولكن الذاكرة تظلّ قائمة كأنها تعيش واقعاً هو استمرار بحثها عن هوّية، ومكان، وأرض، ووطن مسلوب. وتتوحّد الهويّة أحياناً مع رمزية المكان في إطار هارموني متناسق، يحاول المغتصب اغتياله وهو اغتيال داخل المكان، مثلما يمثّل الترحيل والإجلاء والاغتيال خارج المكان، بالتجريف، والإبعاد، وقطع الجذور الأولى، ومصادرة الحقوق بالاستيطان، والإلغاء.
الهويّة وشجرة الزيتون والمكان
الهُويّة وشجرة الزيتون والمكان، ثلاثية تجسّد المأساة الفلسطينية المستمرة، فالهُوّية يُراد طمسها بكل الوسائل. والزيتون تجري عمليات حثيثة لتجريفه لأنه يمثل رمزية خاصة لدى الفلسطينيين، وقد حمل الرئيس ياسر عرفات غصناً للزيتون وهو يدخل إلى الأمم المتحدة، والمكان يمثّل جذر الفلسطينيين، حيث جرت وتجري محاولات على قدم وساق لإجلائهم من مكانهم الطبيعي وهو أرضهم وهم سكان البلاد الأصليون، لذلك يتمسّكون بالقرار 194 لعام 1948 الخاص بحق العودة، إضافة إلى الحق في تقرير المصير ضمن دولة عاصمتها القدس.
وإذا كان استهداف هذه الثلاثية باحتلال الأرض والسوق والعمل منذ العشرينيات، فإنها اتخذت شكل مصادرة الأرض وإجلاء سكانها الأصليين ومحاولة اقتلاع ما تبقى منهم، لاسيّما بمشروع "الدولة اليهودية النقية"، في محاولة لإرغام العرب على خيارات أبسطها يكاد يكون مستحيلا.
المكان و"البئر الأولى"
استهدفت هذه الثلاثية باغتيال زياد أبو عين الوزير والأسير والقدير، الذي أراد أن يعلن للعالم أجمع كيف يمكن للإنسان أن يتمسّك بأرضه ورمزها الزيتون وبهُوّيته العربية ودلالتها الأساسية اللغة والثقافة والتاريخ لا من باب الاعتباط أو الزعم، بل لأنها تمثّل كينونة وجوده، وصيرورة كيانيته ومستقبله بكل تجلّياته الإنسانية.
ومثلما حمل زياد أبو عين روحه وطاف بها من سجن إلى سجن، فإن هذه الروح أزهرت أشجار زيتون حتى في سجنه، وتفرّعت أغصانه، حبّا وجمالا ومقاومة ومستقبلا، في بلاده الولاّدة، التي لا يتورّع المغتصب عن تزوير كل ما فيها حتى برتقال يافا ظلّ يختمه بماركة مزيفة، ويستولي على الأزقة العتيقة في القدس، في محاولة لتغيير تركيبها الديموغرافي وآثارها وتراثها، ويستمر في أعمال الحفر تحت وحول المسجد الأقصى وملحقاته، ويخترع القصص والأساطير، وينسج الحكايات التي بعضها من صنع الخيال، حول الأحقيّة التاريخية.
حين سقط زياد أبو عين مضرّجا بدمائه اختار المكان، "البئر الأولى" حسب جبرا إبراهيم جبرا، قريته العتيدة، وهو يحمل غصن الزيتون الرمز الأخضر لبلاد خضراء ومزاج أخضر وعين لا تعرف الاّ الأخضر، اللون العروبي الأصيل. في البئر الأولى يتم التشكّل الأول للذاكرة وما استقر فيها من تفاصيل ولم يكن من الممكن محوّها أو تجاوزها فقد حفرت في القاع.
زياد أبو عين الذي اجترح العذابات كلّها لأنه لا يريد أن يغادر المكان الذي أبصر النور فيه، إنها صيحة ضد الاغتصاب والاقتلاع والمصادرة والاستيطان، وهي وجه آخر لصرخة إدوارد سعيد "خارج المكان" الذي ظلّ هائما به يستعيد من خلال ذاكرته الخصبة، كل تفاصيله ودقائقه الصغيرة ساعة بساعة وحبّة بحبّة، حتى وكأن الحلم الذي راوده استمر يعيش معه ليل نهار.
ماضٍ لا يمضي
وإذا كانت أهمية كتاب إدوارد سعيد "خارج المكان" تأتي _كما أشرنا_ من جمعه بين أسلوب متميّز ومثير وسرد درامي ذي حبكة آسرة وبسبب مضمون عميق مزدحم بالوقائع والأحداث والأفكار يمثّل إحدى شهادات العصر المهمة عن حدث ما زال يؤرق الضمير الإنساني، فقد استطاع إدوارد سعيد وهو أحد أبرز المثقفين العرب الموسوعيين في القرن العشرين أن يخاطب العقل (الآخر). وقد فهمت الحركة الصهيونية ماذا يعني كتابه الأول "الاستشراق" وهو ما حدا ببعض قادتها لتحسس استمرارهم ووجودهم في فلسطين عند قراءة هذا الكتاب، الذي صدر عام 1978 وما زال راهنياً حتى الآن. بل صدرت له ترجمة عربية جديدة لمحمد عصفور عن دار الآداب (2021).
أما زياد أبو عين فهو وجه آخر من عشرات، بل ومئات من النخبة الفلسطينية التي تخشاها قوى التعصّب الصهيوني، لتمسكها بالأرض والهُوّية ومقاومتها محاولات الإقتلاع والتشطير والتزوير التاريخي، ولا أدل على ذلك بناء الجدار العنصري، الذي أدانته محكمة العدل الدولية في لاهاي في فتواها الاستشارية العام 2004 ودعت إلى هدمه.
"خارج المكان" يمثّل جسرا بين ماضٍ لا يمكن أن يُنسى وحاضر لا يمكن أن يدوم وداخل المكان هو تمسك بالهُوّية والرمز، وبينهما صور وانعكاسات وأحداث ووقائع ومؤامرات وآمال وحروب، ولكن الذاكرة تظلّ قائمة وكأنها تعيش واقعا هو استمرار بحثها عن هُوّية ومكان وأرض ووطن مسلوب.
الهُوّية تتوحّد أحيانا مع رمزية المكان في إطار هارموني متناسق، وهو ما استهدفه المحتل عند اغتيال زياد أبو عين، وهو اغتيال داخل المكان، مثلما يمثل الترحيل والإجلاء الاغتيال خارج المكان، بالتجريف والابعاد وقطع الجذور الأولى ومصادرة الحقوق بالاستيطان والالغاء. زياد أبو عين كان أنموذجاً لثلاثيّة لا يمكن فصم عراها: الهُوّية والزيتون والمكان، وهي الثلاثيّة الأثيرة التي ظلّ إدوارد سعيد متشبّثاً بها حتى الرمق الأخير.
أبعاد الفكر الإستشراقي
كشف إدوارد سعيد المفكّر الفلسطيني إستراتيجية الفكر الإستشراقي قبل ثلاثة عقودٍ ونيّف من الزمن، بأبعاده المعلنة والمستترة، القديمة والجديدة، الآيديولوجية والدينية، الاقتصادية والإجتماعية والجيوسياسية بصورته النمطية أو بمحاولته "تنميط" الإسلام، والنظر إليه وإلى المجتمعات الإسلامية، نظرة تتسّم بالاستعلاء والتفوّق وإنكار الأدوار التاريخية، لاسيّما للحضارة العربية- الإسلامية، التي لعبتها في العصر الوسيط، يوم كانت أوروبا تغطّ في ظلام دامس ونوم عميق، في حين شهد العالم العربي-الإسلامي ازدهاراً وتقدّماً على جميع الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأدبية والعمرانية.
الغرب ونظرة الاستصغار
شخّص إدوارد سعيد على نحو صحيح بعض الأفكار الاستشراقية، التي كانت تستصغر الشعوب والأمم الأخرى بنظرة فوقية، بدعاوى الامتياز العنصري والإمبريالية، مؤسساً بحق لمنهج نقدي للفكر الإستشراقي بما فيه بعض من كان ينظر إلى الغرب من موقع دونيّ، حتى وإن أراد تجاهله أو مواجهته، وذلك قبل أن يبرز بعض المفكرين الجدد أمثال: برنارد لويس وفرنسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون وغيرهم، الذين حاولوا رسم صورة متخيّلة لشرق له مقاسات تم وضعها على هواهم، لاسيّما وقد دُمغ فيه الإسلام بالتعصب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب والتخلّف، وصاحب ذلك صعود موجة من اليمين المتطرف ذات التوّجه الشعبوي، بعد تحلل الكتلة الشيوعية الدولية، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي والتي توّجت حينها بانهيار جدار برلين 1989 وتفكك الإتحاد السوفياتي 1991 وبتحكّم لاعبٍ واحدٍ بالسياسة الدولية هو الولايات المتحدة وتدور في فلكه القوى الكبرى والصغرى، كما ترافق ذلك مع صعود ما سُميّ بـ"الصحوة الإسلامية"، وخصوصاً بعد الثورة الإيرانية 1979، التي أنعشت التوجهات الدينية الإسلامية المتعصبّة والمتطرفة.
شيطنة الآخر
حاول بعض المستشرقين وتحت يافطات أكاديميّة تزعم الجديّة والاجتهاد، التأسيس لأطروحة أساسها "شيطنة" الآخر، باعتباره عدواً ينبغي تطويقه ومحاصرته وحتى القضاء عليه، وهو ما دفع رئيس أكبر دولة في العالم وفي ظرف تاريخي ملتبس، أن يصرح في العام 2001 وبعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الإرهابية الإجرامية، بأنه سيشّن حرباً صليبية على الإسلام، وإن كان الرئيس جورج دبليو بوش قد تراجع واستدرك باعتبار ذلك زلّة لسان، لكنه كرّر الأمر على نحو أشد بشاعة، خصوصاً وقد جاءت تصريحاته بدمغ الإسلام بالفاشيّة خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 2006.
لهذا فإن محاولة تصحيح صورة الولايات المتحدة، التي سعى إليها الرئيس باراك أوباما، خصوصاً في خطابه التاريخي في جامعة القاهرة مطلع يونيو/ حزيران 2009، ظلّت بعيدة المنال، في ظل التراكمات السلبية النظرية والعملية وبخاصة التجارب المريرة للشعوب العربية والإسلامية ومعاناتها الفائقة من إستراتيجيات الولايات المتحدة، ولاسيّما انحيازها الكامل لإسرائيل.
وتحتاج استعادة الثقة إلى إثبات بالتجربة والبرهان وليس بوعود زائفة أو رغبات دعائية، مثلما تحتاج إلى إقامة علاقات ذات صدقيّة وتوازن ودون تصورات مسبقة وخاطئة ومنحازة، وهو الأمر الذي ساد على نحو صارخ بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وبالتالي التخلّص من بعض البؤر والنتوءات الحادة في السياسة الأمريكية وبخاصة بعد احتلال العراق والإنحياز الكامل إلى إسرائيل وعدوانها المتكرر.
الاستشراق الأنجلوسكسوني والإسلام
يعتبر كتاب برنارد لويس "اكتشاف الإسلام لأوروبا" نموذجاً للاستشراق "الأنكلوساكسوني- الأمريكي" الذي يسعى للحطّ من الحضارة العربية- الإسلامية، وليس الإسلام كتعاليم دينية فحسب، ولعلّه نتاج صورة نمطية جاهزة ونظرة مسبّقة عن الإسلام، حتى وإن اختفت وراء جدار أكاديمي أو التحفت بالموضوعية، لأن هدفها المسبق قبل البحث والتمحيص هو "أبلسة الإسلام"، إلى درجة جعل كل شيء من التاريخ إلى اللغة والأدب والسياسة والاقتصاد والثقافة والحضارة، يدور لخدمة هذا الهدف غير النبيل والامبريالي بامتياز.
إن محاولة "شيطنة الإسلام" تظهر من خلال زواج السلطة بالمعرفة، فهؤلاء المستشرقون والمنظّرون، إنما يعبّرون عن توجهات اليمين المحافظ المتطرف الأمريكي، الذي يسعى باستمرار إلى الصدام والمواجهة بحجة الخطر الداهم والمتجسّد في الإسلام من خلال النظرة السلبية المسبّقة، التي تحاول إسباغ نوع من الهيبة والمشروعية، بل والموضوعية الزائفة بزعم أن الإسلام لا يتطوّر وأنه رسالة "بدو أجلاف" بدون حضارة، على عكس الحضارة الغربية الحداثية التي ستجد نفسها متصادمة، وربما لا محال حسب صموئيل هنتنغتون معها ومع الحضارات الأخرى، وفي ذلك محاولة متعمدّة لتشويه التاريخ العربي بما فيه تاريخ العلاقة العربية – الإسلامية مع بعض دول وشعوب أوروبا.
ولعلّ هذا ما يدفعنا لطرح السؤال الكبير الذي ظلّ يتردد بصوت عال أو خافت أحياناً لدينا ولدى الغرب: هل ثمة مواجهة أو مجابهة بين الغرب والإسلام؟
استناداً إلى الحاضر، يمكن القول: رغم المأساة التي حصلت في الولايات المتحدة جرّاء الفعل الإرهابي الّلاإنساني، فإن المتضرر، لم يكن الولايات المتحدة وحدها، بل إن الإسلام والمسلمين كانوا المتضررين الأساسيين، خصوصاً لجهة محاولات محمومة لإلصاق التهمة بهم، باعتبارهم "مسؤولين" وان بيئتهم الدينية والثقافية تحضّهم على العنف والإرهاب، ناهيكم عن نظم التربية والتعليم وبخاصة الدينية، التي تشكّل بؤرة خصبة لإنتاج الإرهاب وتعميمه لإلغاء الآخر أو استئصاله.
هذه الصيغة هي نفسها التي وردت على لسان الرئيس جورج دبليو بوش الذي سبق أسامة بن لادن في تقسيم العالم إلى معسكرين أو فسطاطين، أحدهما معسكر الشر والظلام، أما الآخر فهو معسكر الخير والنور. ولعل ذلك هو الذي دفعه إلى إطلاق صفة "الفاشية الإسلامية" مثلما كان قد ردد مصطلح "الحرب الصليبية" بعد 11 سبتمبر/ أيلول فليست زلّة لسان كما قيل وقتها، وإنما جاءت تعبيراً عن منظومة فكرية عدائية- استشراقية، استعلائية إزاء العرب والمسلمين.
ولم تسلم، حتى بعض الدول الصديقة للولايات المتحدة، من الاتهام بكونها بؤرة مشجعة على نمو الإرهاب وتفريخه وتصديره، وما عليها سوى التعاون الأمني واللوجستي وتغيير مناهجها الدراسية والتربوية، وإلاّ تمّ تصنيفها في خانة "الدول الشريرة" أو "الدول المارقة" ووضع اسمها ضمن القائمة التي صنفتها واشنطن، والتي تصل إلى نحو 60 حركة وتياراً سياسياً ودينياً وتشمل رقعة جغرافية واسعة تصل إلى حدود 40 بلداً.
المثقفون الأمريكيون
كان بيان المثقفين الأمريكيين الستين الذي صدر عقب أحداث سبتمبر/ أيلول على قاعدة نظرية صموئيل هنتنغتون "صدام الحضارات" ونظرية "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما، دليلاً على انعدام معايير التسامح إزاء ما حدث، بحيث يتم اختزال نحو مليار و400 مليون مسلم موزعين على 60 بلداً بينها 57 دولة إسلامية عضواً في "المؤتمر الإسلامي" (منظمة التعاون الإسلامي)، وتشكّل نحو ثلث بلدان العالم التي بلغت 192 دولة ونحو خمس سكان المعمورة إلى مجرد مجتمعات تشجّع على ممارسة الإرهاب وتغذيته فكرياً ومالياً.
لعل ذلك ينمّ عن فهم قاصر في النظر إلى المسلمين، باعتبارهم كتلة واحدة وباعتبار الإسلام شيئاً واحداً، ولا يجري التفريق أحياناً بين الإسلاميين والإسلامويين وبين هؤلاء وبين المسلمين، وكأن الإرهاب قدر لصيق بالإسلام.
تنميط الإسلام
مثلما نظر البعض إلى الغرب نظرة شمولية باعتباره "شراً مطلقاً" دون تمييز بين الغرب السياسي والذي لديه مصالح وسياسات وفلسفات وآيديولوجيات يريد فرضها، وبين الغرب الثقافي ببعض قيمه الإنسانية والجمالية الذي وقف إلى جانبنا في الكثير من الأحيان، فقد نظرت الأوساط المتنفذة في الغرب إلى الإسلام نظرة كلياّنية أي شاملة، دون تمايزات أو تلاوين أو تكوينات مختلفة لشعوب وأمم لها تاريخها ولغاتها وتوجهاتها الفكرية والقومية ونظمها السياسية المختلفة.
صحيح أن كل مسلم، متديناً أم غير متدّين، أصولياً أم ليبرالياً، علمانياً أم متزمّتاً، مجدداً أم محافظاً، يمينياً أم يسارياً، يشعر أنه جزء من هويّة كبيرة اسمها الإسلام، ويحتفل بأعياده الإسلامية ويطلق الأسماء الإسلامية على أبنائه وأحفاده، ويقيم مراسم العزاء والدفن على الطريقة الإسلامية، بل إن غالبيتهم الساحقة لا تتناول اللحوم إلاّ إذا كانت مذبوحة على الطريقة الإسلامية، لكن هذا شيء وتنظيم القاعدة أو توجهات حكومات طالبان أو غيرها من الحركات الإرهابية أو الحكومات الإسلامية، التي تستمد من الدين أساساً لشرعيتها شيء آخر. وهذه النظرة لا يفهمها مشروع الاستشراق، سواءً في بعدها التاريخي أو الراهن.
الإسلام في نهاية المطاف حضارة وهويّة لأمم وشعوب وتكوينات عرقية وإثنية متنوعة، لعبت دوراً كبيراً في توّجهاتهم لاحقاً، لكنه كدين لم يضع حاجزاً أمام انخراطهم في الركب العالمي نحو الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد أثارت العديد من الدعوات في الغرب بما فيها بيان المثقفين الأمريكيين بعض التداعيات إزاء عملية تنميط الإسلام أو "نمذجة" الإرهاب وربطه بالإسلام، إلى درجة أن المفكر الراحل إدوارد سعيد، أشار بوضوح أقرب إلى الاتهام، إلى محاولة بعض هؤلاء إبقاء "خطر الإسلام والتنديد به وإلصاق ممارسات العنف والاستبداد والإرهاب به" من أمثال جودي ميلر وصاموئيل هنتنغتون ومارتن كرايمر وبرنارد لويس ودانيال بايس وستيفن أمرسون وباري روبن، إضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين الذين صنّفوا الإسلام كشيء مرعب لا نظير له.
هناك الكثير من الإبهام والالتباس والغموض لدى المستشرقين وأهدافهم بشأن المشترك الإنساني للإسلام الذي يشكّل الهويّة الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية، بغضّ النظر عن اللغة أو القومية. وإذا كان مثل هذا الأمر بعيداً عن تفكير المواطن العادي في الغرب، فإنه ليس ببعيد عن تفكير وخطط ومعرفة النخب السياسية الحاكمة ومصالحها، ولكن قد يكون هدف مثل هذا الترويج أو الدعاية السوداء هو أن الإسلامويين أو المتعصبّين والمتطرفين هم الذين يراد تقديمهم كـ"نموذج" للإسلام، لأهداف ترتبط بالسياسة الإمبراطورية الكونية للولايات المتحدة، من أجل فرض الاستتباع والهيمنة، وليس البحث في حقيقة الظاهرة لتفادي مخاطرها والتوصل إلى السبل الناجعة لمكافحتها.
الغرب لا يفرّق بين الإسلام والمسلمين
لا يفرق معظم الغربيين والأمريكيين تحديداً بين الإسلام والمسلمين، وبين المسلم العربي والعربي غير المسلم، ولا بين المسلم العربي والمسيحي العربي، ولا بين المسلمين بطوائفهم المختلفة ومدارسهم واجتهاداتهم، طالما ينتمي الجميع إلى المنطقة ولديهم ملامح شرق أوسطية. ولا يشمل هذا الأمر المواطن العادي حسب، بل إن بعض النخب الفكرية، ليست بعيدة عن ذلك، وليس من باب الجهل، بل من باب الإغراض الإستشراقي أحياناً، وبهدف تهيئة الرأي العام لتقبّل فكرة صورة العربي المسلم المشوهة المتخلفة والرهيبة أحياناً، وحتى صورة الإسلام توضع في مواجهة الحضارة الغربية ومنجزات العلم والتكنولوجيا في الإعلام الغربي.
والمشكلة الفعلية لبعض المفكرين والمستشرقين الغربيين، بل والاتجاه السائد في الغرب ليست المشكلة في "الأصولية" الإسلامية أو أعمال التعصّب والتطرّف والغلو، بقدر ما هي في الإسلام كدين وتعاليم وحضارة عربية- إسلامية.
ولعل السيدة مكير هولنجورث محررة الشؤون الدفاعية في صحيفة انترناشنال هيرالد تريبيون خير مثال على ذلك، حين تقول: "إن الأصولية الإسلامية ستتحول إلى الخطر الأعظم الذي يتهدد السلم والأمن العالميين، بالإضافة إلى كونها سبباً للاضطراب القومي والمحلي من خلال الإرهاب". وهي خطر مثل النازية في الثلاثينيات ومثل الخطر الشيوعي في الخمسينيات.
والإرهاب ليس صفة لصيقة بدين أو شعب أو أمة أو دولة أو جنسية ويتم أحياناً استخدام الدين المسيحي أو اليهودي أو الإسلامي للتغطية على بعض الأعمال الإرهابية بطريقة مزورة ومشوّهة، وبعيدة عن المُثل والقيم الدينية.
وقد أشار البيان الذي أصدره بعض المثقفين الأمريكيين إلى مثل هذه التداعيات إزاء عملية تنميط الإسلام أو نمذجة الإرهاب وربطه بالإسلام. ولعل هذا هو الذي دفع إدوارد سعيد المفكر والجامعي الفلسطيني الكبير إلى وضع علامات استفهام حول دوافع وأهداف عدد من الأكاديميين والمستشرقين الغربيين.
إن مثل هذه الأطروحات تشكّل خطراً على العقلانية وعلى أي تفكير منطقي، فالإسلام حسب هذه الأطروحات بمثابة القنبلة الموقوتة التي يتم تفجيرها في أية لحظة استناداً إلى مبدأ تحت الطلب ودون توفر شروط موضوعية مثل مقاومة الظلم وتطبيق العدالة وتحقيق حياة أفضل والدفاع عن العقيدة، كما يتضمن هذا المفهوم.
ومع الأسف فإن البيان الذي وقعه المثقفون الستون حظيّ باهتمام دولي كبير جداً، لكنه لم يحظَ بمثل هذا الاهتمام عربياً وإسلامياً، ولعل ذلك يعطي مؤشراً لعدم متابعتنا أولاً وانغمارنا بأمور الحياة ومشاكلها اليومية ثانياً، ولعدم معرفتنا بآليات عمل السياسة الدولية والغربية ثالثاً، ولعدم وجود علاقات متينة بين المثقفين الأمريكيين والمثقفين العرب والمسلمين رابعاً.
البيان هو تواطؤ "المعرفة والسلطة"، وهو انعكاس لدور المثقفين المندغمة مصالحهم مع مصالح الغرب السياسي في التعبير عن تطلعّات الرأي العام، بل صياغتها طبقاً للمصالح السياسية والجيو-إستراتيجية للمجمّع الصناعي- الحربي في الولايات المتحدة.
الغرب والإسلام.. عودة إلى لغة الحرب الباردة
إذا كان العقل والأخلاق، أيّ الانحياز إلى العدل والضمير، هاجسَ الثقافة والمثقفين الأساسي ومبرراً وجدانياً لعملهم الإبداعي، فإن هذا البيان جاء تبريرياً ذرائعياً لإضفاء نوع من "الأنسنة" على الحرب الأمريكية ضد أفغانستان وما سميّ بالإرهاب الدولي، محاولاً أن يسوّغها بأنها حرب على الشر ولا تستهدف شعباً أو ديناً أو ثقافة، ولكنه يبرر استخدام السلاح للرد، فيما إذا اقتضت الضرورة ذلك، كل ذلك يأتي باسم العدالة العمياء "فثمة أوقات يصبح فيها من الضروري على الأمة أن تدافع عن نفسها بحد السلاح...".
إن البيان تأييد للحكومة الأمريكية ضد الجماعات الإرهابية وبخاصة في المنطقة العربية- الإسلامية. وحسب تعبير الصديق المفكر اللبناني، علي حرب أنه "بيان حربي لشرعية الحرب على الإرهاب" أي تسويغ العمليات الحربية.
وإذا كانت الحرب على الإرهاب مسألة دولية، فإن البيان أغفل علاقة الحكومات الأمريكية بالإرهاب والإرهابيين مما يثير الكثير من علامات الاستفهام.
إن البيان يعطي ويسوّغ للولايات المتحدة "حق التدخل" باسم مكافحة الإرهاب، بل الحق في احتكار العدالة، ومع أنه توجد إشارات انتقادية للسياسة الأمريكية واعترافات من بعض الموقعين عليها، إلاّ أن البيان يتغافل عن دور إسرائيل كبؤرة الإرهاب والتمييز العنصري.
وإذا كان ثمة إيجابية في البيان فهي دعوته للحوار والمداولة والشراكة بين المثقفين بغض النظر عن الاتجاه السياسي، وهو ما يدعو المثقفين العرب لتحمل مسؤولياتهم وأخذ دورهم الذي ينبغي أن يتناسب مع ما يتحملوه ، للنقاش في مسألة هي غاية الخطورة والأهمية. وثمة إيجابية ثانية هي الإشارة إلى أن حركة القاعدة التي تنطق باسم الإسلام، إنما تخون مبادئه.
وعلى الرغم من بعض الإيجابيات والاعترافات التي وردت في البيان بشكل عام يمثل عودة إلى لغة الحرب الباردة فمصطلح "محور الشر" بعد إمبراطورية الشر، و"الحروب المقدسة"، و"من ليس معنا فهو ضدنا"، وكلها شعارات تفرض عقلية الإقصاء والإلغاء والعزل وتصدر عن فكر آحادي تبسيطي يقسم العالم إلى خير وشر ويفرض نمطاً من الصراع للهيمنة والسيادة المطلقة.
إنه دعوة لمحاربة الإرهاب بعقلية تكاد تكون إرهابية وذلك بحشر الآخرين كلهم في فكيّ الكماشة تحديداً: إما أن يكونوا مع الولايات المتحدة ضد الإرهاب أو مع بن لادن ومحور الشر. إنه تأكيد للعقلية الاصطفائية الاستعلائية والوصاية على العدالة. ولم يتعرّض البيان إلى قضية حقوق الإنسان، خصوصاً الإجراءات الأمريكية التعسفية، سواءً إزاء الأجانب أو ما حدث في سجن غوانتانامو، حيث تعرّض السجناء إلى انتهاكات فظة لحقوق الإنسان، وهو ما أكدته العديد من المنظمات الدولية، وما افتضح أمره لاحقاً في سجن أبو غريب "العراقي" والسجون السرية الطائرة والعائمة. فهل سيكون خطاب الرئيس أوباما مقدمة أولية لمراجعة الموقف الأمريكي من الإسلام بهدف اتباع سياسات جديدة تأخذ المشترك الإنساني بنظر الاعتبار، لاسيما بعد فشلها الذريع في التعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين على النطاق العالمي!؟