لهيب الصحراء - حكاية الأخ يونس [ 5 ]
رواية لهيب الصحراء هي حكاية عن مقاتل داعشي يراجع أفكاره خلال عملية بين ليبيا والمغرب حين يكتشف فساد أفكار داعش، وتحكم بعض الأنظمة العربية فيها. خلال رحلة أبي حفص عبر صحراء ليبيا، متوقفا في مخيمات تيندوف في الجزائر، يكتشف العلاقات السرية بين أمير داعش في ليبيا والمخابرات الجزائرية. يجد أبو حفص نفسه في مواجهة التناقضات التي يرزح تحتها الفكر الداعشي، وكيف أن القادة يصطادون الشباب مستغلين لحظات ضعفهم الإنسانية لملئ رؤوسهم بأفكار متطرفة وفاسدة. حين يقرر أبو حفص التخلي عن العملية والهروب من سجن أفكار داعش، يجد أمامه ضابطا من المخابرات الجزائرية لهما معا تاريخ مشترك، وعندها تبدأ المواجهة، ويشتعل اللهيب في الصحراء.
[ 5 ]
اختفت ابتسامة الأخ يونس وكسا وجهه جمود مباغت. ضم قبضتي يديه، تحرك نصف خطوة إلى الخلف وانفرجت شفتاه ثم عاد لإغلاقهما. ترقرقت مقلتاه وانقبضت ملامح وجهه. قاوم تنهيدة هي أقرب إلى النشيج، واستدار خارجا بخطوات سريعة.
قام أبو حفص مسرعا للحاق به. وجده متكئا بظهره على حائط المبنى وبصره مرسل نحو الفراغ بين نجوم السماء. لم يعرف أبو حفص ماذا يجب أن يفعل. لم يتوقع أن سؤاله البسيط سيثير في نفس الأخ يونس كل هذا الشجن.
انزلق الأخ يونس بظهره حتى استكان جالسا القرفصاء. داعب بيديه الحجارة الصغيرة وغاب في أحزانه.
ربت أبو حفص على كتف الأخ يونس، وهم بالاعتذار عن سؤاله لولا أن جاء صوت الأخ يونس خافتا تكسوه طحالب الحزن والندم.
”بدأت الحكاية الصيف الماضي. كنت قد عدت توا من فرنسا بعد نهاية سنتي الدراسية الأولى. لم يبق في تونس من عائلتي سوى أختي الكبرى، التي ربتني بعد وفاة والدينا، وكانت تنتظرني لقضاء عطلة الصيف معها بعد غياب دام لتسعة أشهر.“
تنهد الأخ يونس، ورفع رأسه ينظر إلى الصحراء المترامية أمامه. جلس أبو حفص بهدوء، وركز مع بوح الأخ يونس دون أن يقاطع تدفق أشجانه.
”خالي يونس. توحشتك برشا.“
جاء الصغير معاذ جاريا من خلف والدته وقفز يتعلق بعنق خاله يونس. ضحكت الأم حين انقلب يونس على ظهره من مفاجأة القفزة، وضحك يونس بدوره وضحك معاذ وهو يحاول احتضان خاله بذراعيه القصيرتين.
لم يستطع الأخ يونس اكمال حكايته وتغلب عليه البكاء. اقترب منه أبو حفص وربت على ركبته.
”لا بأس عليك أخي يونس. لم أتوقع أن سؤالي سينكأ جراح ذاكرتك.“
نهض أبو حفص وهو يحاول رفع الأخ يونس من تحت ذراعه.
” دعنا ندخل نتدفأ من البرد. يمكننا تأجيل الحديث إلى وقت آخر.“
حرك الأخ يونس رأسه يمينا ويسارا، فلم يجد أبو حفص مفرا من العودة للجلوس بجانبه، ومواصلة الاستماع.
خرج الصغير معاذ إلى سطح البيت وهو يجر خاله يونس من يده.
”هذه دراجتي الجديدة،“ قال معاذ وهو يفلت يد خاله قافزا للركوب على الدراجة.
”انتبه للصغير يا يونس.“ جاء نداء الأم من الأسفل فتبسم يونس وجرى يلحق بالصغير، يمسك بالدراجة من الخلف ويبعد الصغير عن سور السطح القصير، استمرا يلعبان بعض الوقت وارتفعت ضحكاتهما المجلجلة.
”مرحبًا بعودتك يونس.“
التفت يونس بلهفة إلى صوت الملائكة الذي رن جهة السور المشترك مع سطح بيت الجيران.
”مريم.“
لم يقل أكثر من الاسم وهو ينظر في الوجه الباسم للملاك الذي رافقه طيلة طفولته. اقترب منها. توقف وأدار عينيه تجاه الأسطح المجاورة، وحين لم يرَ أحدا اقترب وأمسك بكفها وطبع قبلة سريعة على خدها.
احمر وجه مريم فسحبت يدها بسرعة، وابتسمت مخفضة رأسها. ضحك يونس وبقي يتطلع إليها، فعادت وأسندت مرفقها على السور وأسندت رأسها على كفها.
مد يونس يده ليداعب خدها، لكنه ارتاع حين رأى وجهها يحمر ثم يزرق دفعة واحدة وعيناها تتسعان وشفتاها ترتجفان.
”ما بك حبيبتي؟“
حاولت رفع يدها لتشير إلى ما خلف كتفه لكنها فقدت السيطرة على وعيها وهوت إلى الأرض.
ارتكز يونس بيديه على السور وأراد أن يقفز إلى سطح الجيران حين دوت في أذنيه صرخة طفولية طويلة نسخت إلى وجهه نفس الملامح المرتاعة لمريم قبل أن تفقد وعيها. تجمد في مكانه ولم يستطع أن يستدير. سمع صوت الارتطام ثم صوت الأم الملتاعة تصرخ باسم ولدها، فانهار في مكانه، وضم ركبتيه إلى صدره وأطلق عواء أتبعه بنحيب مستمر.
”الله أكبر.“
صرخ أبو حفص وسقط على ظهره من لطمة الحكاية. لم يستطع أن يتحكم في دموعه ولم يستطع أن يتلفظ بكلمة، فنهض كمن يحمل الأرض كلها، واحتضن الأخ يونس جالسا.
أشفق أبو حفص على الأخ يونس من برودة الليلة، فحمله رغما عنه ودخلا إلى المبنى ليجدا الرجال مستسلمين لنوم عميق. وضعه على المرتبة المجاورة التي اختارها لنفسه، وغطاه ببطانية ثقيلة أسعده الحظ بإيجادها في هذا المبنى شبه المهجور.
تمدد أبو حفص على جنبه الأيسر وبقي يتأمل الأخ يونس المستكين على ظهره والناظر إلى السقف بنظرات تسبح في الفراغ. تفاجأ أبو حفص بهذه الحكاية القاسية، واندهش كيف أن الأخ يونس المليء بالحيوية يخفي في صدره هذا الشجن. آلمته هذه القصة وفي نفس الوقت شوقته ليفهم أكثر كيف انتقل هذا الشاب الفتي من جامعات فرنسا إلى صحراء التنظيم. نظر أبو حفص إلى الأخ يونس فوجده قد أغمض عينيه ورأى صدره يعلو ويهبط بانتظام. قام فأطفأ المصباح، وعاد ليستلقي على يمينه، محاولا أن ينام، ومتمنيا أن تكون ليلته خالية من الكوابيس.