تراجع فرنسا خارجيا وسيطرة اليمين على الحكم يهدد السلم الاجتماعي والجمهورية الخامسة
الأحداث التي تعيشها فرنسا حاليا هي نتاج لتراكمات من السياسات العمومية الفاشلة في مجالات الشغل والتعليم والهجرة والسكن وتراجع مستوى الرفاهية العامة مقارنة بدول الجوار مثل المانيا و ايطاليا أو حتى اسبانيا، سيما وأن الفرنسيين نبيهون في اجراء المقارنات بين ما كان عليه الوضع في فرنسا من أفضلية على دول الجوار وما أصبح عليه من تقهقر وتقدم في مستوى جودة الخدمات عند نفس الدول موضوع المقارنة.
وتوجد فرنسا اليوم تحت حكم اليمين و الليبرالية المالية المتوحشة التي تهتم لمصالحها الضيقة، ولنسب الفائدة والعودة السريعة إلى الاستثمار ولهوامش الربح الكبيرة على حساب التوازنات الاجتماعية والرفاهية العامة.
وهي الأحزاب التي سمحت للبرجوازية الفرنسية وللرأسمال الفرنسي تحت ضغط المنافسة وقوانين العولمة بترحيل العديد من الشركات وخوصصة كثير من الخدمات مما نحم عنه مشاكل اجتماعية، تجلى في ارتفاع معدلات البطالة وتوسيع دائرة الفئات التي تعيش الفقر والهشاشة، والتي أصبحت تعتمد على المساعدات الاجتماعية.
ومن تم، فالفشل المعلن والذريع في السياسات العمومية، والذي يتم التعبير عنه حاليا بطرق عنيفة وغير مدنية هو انحصار لسياسات اليمين الليبرالي المتطرف الذي يهمه الربح السريع ودورة الرأسمال القصيرة وغياب استثمارات استراتيجية طويلة الأمد، وهو في حقيقته فشل في اختيارات الناخبين في فرنسا.
وقد تكون فرنسا أيضا ضحية التبعية لقوانين الاتحاد الأوربي التي أهملت وتهمل الجانب الاجتماعي، والتي وقعت بدورها تحت قبضة الأبناك وبيروقراطية الموظفين الأوروبيين والشركات عبر الوطنية والاستثمارات الخارجية التي لا تؤمن سوى بمنطق الربح،
وهو الاتهام والشعارات الذي رفعتها حركات احتلال الشارع العام خلال الأزمة الاقتصادية لسنوات ما بعد 2008، ومن بعدها الأقمصةالصفراء، حيث ان فرنسا انتقلت من الدولة الاجتماعية إلى فرنسا الليبرالية المحضة، التي أهملت وتخلت عن الاهتمام والعناية الاجتماعية التي ميزتها لعقود، ومن تم، فإن محاولة ربط ما تتخبط فيه فرنسا حاليا بالمهاجر هو مجرد شماعة تلقى عليها كل الشرور والآثام، مثلما الدين الإسلامي بريء منها.
والواقع الذي يتفادى الجميع الوقوف عنده، لأنه مرتبط بأوجاع ومصير الجمهورية الخامسة يتمثل في نمو احباط ويأس عامين بعد توالي نتائج فشل اليمين في الحكم، وفي اعداد وتدبير السياسات العمومية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وما أسفر عليه ذلك من تدهور اجتماعي واقتصادي، ضدا على الخصوصيات التي كانت تميز المجتمع الفرنسي، الناتجة عن ثقافة متميزة ومتوارثة عن الثورة الفرنسية في التسامح والمساواة والأخوة الانسانية، والتي يتم التعبير عنها دستوريا بالمساواة والأخوة والتضامن.
وهي مبادئ تتعارض مع شعارات وايديولوجية اليمين التي أكرهت وفرضت على المواطن الفرنسي القبول بالسياسات اللليبرالية والخوصصة وتهريب الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى مناطق تحقق أكبر فرص الربح وأكبر هامش في العودة إلى الاستثمار ، وأصبح همه الوحيد البحث عن اعفاءات ضريبية في ملاذات ضريبية أو في "المناطق الحرة"، ما جعل المواطن الفرنسي النشيط اصبح عاطلا عن العمل ويسعى المساعدات الاجتماعية ولدى المنظمات غير الحكومية التي تشتغل في الميدان الاجتماعي.
ونفس الفشل لاقته وتواجهه فرنسا في علاقاتها الخارجية سواء مع دول الاتحاد الأوروبي، بحيث تنظر إليها دول أوروبا الشرقية واليونان والبرتغال واسبانيا بنظرة الدولة الأنانية، وتنازعها أخرى مثل ايطاليا والمانيا في القيادة، بيننا دول الشمال تعتبر نفسها غير معنية، وأي مساس برفاهية مواطنيها قد تنسحب من الاتحاد الأوروبي بمجرد استفتاء تأكيدي على غرار انجلترا، و وجدت فرنسا والمانيا يؤديان مقابلا لاستمرار الاتحاد الأوروبي على حساب الحقوق الاجتماعية لمواطنيها.
ولم تقف مشاكل فرنسا عند هذا الحد، بل تواجه صعوبات في افريقيا وانكماش في مناطق نفوذها بسبب رفض دول الساحل ومستعمراتها القديمة أسلوب التبعية، الذي أصبح متجاوزا وينظر إليه استعمار بطريقة جديدة من قيادات إفريقية وطنية مستقلة، وتعزز هذا الرفض بعروض دولية بالشراكة بناتج "رابح رابح" أي الربح المتبادل، وبزغ ما يمكن تسميته بالحراك الإفريقي نتج عنه طردها من مجموعة من مناطق نفوذها الحيوي في مالي وافريقيا الوسطى وبوركينافاسو، وبوادر لنفس الرفض في غينيا والكونغو الديمقراطية والجزائر.
فاليأس عام داخليا في فرنسا وخارجيا برفض التعامل معها بنفس الأسلوب والسياسة، فهي اضطرت إلى الانسحاب الذي يوازيه الطرد، وهي مهزومة من دول الساحل تحت هتافات تندد بسياساتها الاستعمارية والعنصرية وسياسات التبعبة التي تفرضها ليس فقط على دول صغيرة مثل مالي و النيجر، بل على دول متوسطة ونامية مثل الجزائر باعتراف الرئيس الجزائري تبون نفسه حين طالب بوتين بانقاذه للتخلص من تبعية التعامل باليورو، و هو يقصد فرنسا.
ويعكس سلوك وحركات وتصرفات الرئيس الفرنسي ماكرون تهورا وعدم نضج سياسي في خرجاته الاعلامية وردود فعله الذي يطبعه إهانته لمحاوريه، وفقا لما تدل عليه حركاته بوضع يده على كتف ضيوفه أو وراء ظهورهم، وفي طريقة جلوسه و تظاهره بأنه ينصت لهم بشكل وطريقة تدل على عجرفة وتكبر وعنصرية لا يقدر على اخفائها، لأنه من هواة السياسة، وليس محترفا متمرسا لها.
فتداعيات هزيمة فرنسا خارجيا وخيمة على ثقة المواطن الفرنسي بدولته، إذ يختلف الفرنسيون على غيرهم من مواطني الدول الأوروبية في تركيز اهتمامهم السياسي داخليا، ومواظبتهم لما يجري من أحداث في العلاقات الدولية. وهم يرصدون ويعاينون تقدم الصين و روسيا في افريقيا و يتابعون بحسرة وحنق ومذلة تراجع دولتهم وطرد جيوشها وافراغ قواعدها والغاء صفقات وعقود شركاتها ومؤسساتها واتهامها الأخلاقي بالعنصرية وبجرائم الإرهاب.
وقد تكرر دعوات الطرد والافراغ في مناطق متعددة في كل من مالي وبوركينافاسو وافريقيا الوسطى، كما اضطرت فرنسا إلى الغاء عمليات براخان التي توفر الحماية لمناجمها من الأورانيوم في النيجر وتشاد ومالي وفي جنوب الجزائر، بسبب رفض الأخيرة الانخراط والمشاركة في العملية وفي القبول بتوليتها لها، رغم تعديل الجزائر لدستورها بما يسمح بارسال قواتها إلى الخارج (الأساس الذي تحكم في تعديل هذه المادة)، بل عمدت الجزائر وتجرأت إلى قطع أجوائها أمام الطيران العسكري الفرنسي، والغاء صفقات لشركات فرنسية كانت تحظى بالامتياز والأفضلية والامتياز امتدت إلى قطاعات استراتيجية في الجزائر، وذلك تحت الضغط الروسي.
ولم يقف العجز الفرنسي عند هذا الحد، بل امتد ليطال القطاع الخاص والشركات الفرنسية التي أظهرت عدم القدرة على منافسة الصين داخل السوق الفرنسية نفسها رغم ما تفرضه فرنسا من سياسات حمائية لسوقها الداخلي وشركاتها الوطنية في مواجهة الصين والهند و البرازيل، وهي نفس المشاكل التي تواجهها الفلاحة الفرنسية غير القادرة على المنافسة داخل السوق الأوروبية لصالح الفلاحة الاسبانية والايطالية واليونان وأوروبا الشرقية.
ويظهر أن عوامل الهشاشة وأسباب الضعف ونتائج الفشل تتعدى مسألة الهجرة او التطرف الديني التي يروج له الإعلام و الخطاب السياسي الرسمي الذي يربطه بالمهاجرين أو حتى بالإسلام السني، وهو في كنهه وجوهره ربط اعتباطي وتعسفي وغير صحيح لأنه عبارة عن تهيئات وأوهام اليمين المتطرف العنصري وغير الوطني، الذي يبحث مؤقتا عن ذريعة لتجاوز المعضلة الاجتماعية، والتي اعتاد على معالجة مثل هذه المشاكل باعتماد المقاربة الأمنية.
فاليمين أثبت فشله وعجزه، و الأخطر أنه مازال يكتسح ويسيطر على الحكم في أغلب دول أوروبا، رغم أنه يشكل في محصلة العدد أقلية، و ي النهاية يعتبر خطرا على كل أوروبا. فالأخيرة لم تعد جنسا أوروبيا خالصا، فالمجتمع الفرنسي خاصة وكل المجتمعات الأوروبية-بتفاوت بين الدول العريقة في ميدان الهجرة والمعاصرة منها- عرف تحولات ديمغرافية، وأصبح مختلطا ومتنوعا بعد عقود من الهجرة من أجل تلبية حاجات اقتصادية أو من أجل تحقيق توازن ديمغرافي الذي اختل لصالح الشيوخ والكهول.
وهكذا، فالخطاب العنصري لليمين المتطرف يشكل خطرا على السلم الاجتماعي الأوروبي لأنه لا يراعي ولا يتكيف مع متغيرات ديمغرافية إجتماعية وحقوقية، وهو غير قادر على مواكبة تحولات وتطور العصر الذي يحتاج عقليات وذهنيات يقظة تراعي حقوق الشركاء في الخارج وسياسات وقيادات وطنية ومتحررة من تحملات وثقل خدمة فئات ضيقة على حساب القاعدة الواسعة للمجتمع الأوروبية.
سياسات سبق أن أدركتها الصين و روسيا فاستعجلت الأخذ والعمل بها، وطبقتها وتحقق عبرها عائدات سياسية واقتصادية وثقافية سريعة تنعكس على مجتمعاته وعلى وجه وسمعتها في العالم في مقابل انكماش وتراجع نفوذ وسمعة فرنسا. والقادم أخطر!
- محامي وخبير في القانون الدولي وقضايا الهجرة ومحلل سياسي