المغرب يواجه التطرف والإرهاب بمأسسة الفتوى
وعيا من المغرب بأهمية الأمن الروحي في مواجهة التطرف والإرهاب داخل الدول الإفريقية، نظمت مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، من 08 إلى 10 يوليوز 2023 ، بمراكش ندوة علمية دولية في موضوع "ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الإفريقي". وشارك فيها أزيد من 350 عالما وعالمة ينتمون إلى 72 دولة من إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية، ويمثلون هيئات الإفتاء والمجالس الإسلامية العليا في هذه البلدان، بالإضافة إلى رؤساء وأعضاء فروع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في البلدان الإفريقية، ونخبة من علماء وعالمات المملكة المغربية. فالمغرب، وإدراكا منه لخطورة التلاعب بالفتوى وطرق توظيفها في تخريب العقول وإشاعة الفتن في المجتمعات، لا يفتأ يدعو ويعمل على تأهيل الحقل الديني في كل إفريقيا عبر تأسيس مؤسسات علمية تناط بها مهمة تكوين الأئمة والمرشدات الذين ينتمون إلى الدول الإفريقية المسلمة، فضلا عن تنظيم ندوات علمية دولية بغرض مساعدة فقهاء وعلماء إفريقيا على تشكيل خط دفاعي يتصدى لدعاة التطرف وشيوخ التكفير وأمراء الإرهاب بفضح مخططاتهم التخريبية والرد على ترهاتهم التي يلبسونها لبوس الدين لشرعنة قتل الأبرياء وترويع الآمنين في أوطانهم. لهذه الغاية، أوصى المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في دورته الرابعة، التي انعقدت بفاس يومي 22-23 ربيع الأول 1444 هـ، الموافق لـ 19- 20 أكتوبر 2022 م، بعقد ندوات علمية وفكرية تعنى بشأن الفتوى في الواقع الإفريقي".
الأمن الروحي جزء من المقاربة الشمولية لمحاربة التطرف والإرهاب.
منذ الأحداث الإرهابية ليوم 16 ماي 2003، تبنى المغرب مقاربة شمولية متعددة المستويات لمواجهة التطرف والإرهاب. ومما تقوم عليه هذه المقاربة، تأهيل الحقل الديني وتنظيمه حماية له من عبث التكفيريين. ذلك أن الحرب على الإرهاب لا تقتصر على إفشال مخططاته التخريبية وتفكيك خلاياه الإرهابية؛ بل تشمل كذلك العمل الجاد والمتواصل على تجفيف منابعه الفكرية التي تشكل الفتاوى مصدر تغذيتها الرئيسي. بهذه الخلفية يسعى المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة "لتوحيد جهود العلماء الأفارقة وجمع كلمتهم على ما يحفظ الدين من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وعلى ما يجعل قيمه السمحة في خدمة الاستقرار والتنمية في بلدانهم"، كما جاء في الرسالة الملكية.
لقد صارت إفريقيا مرتعا للتنظيمات الإرهابية ومعاقل بديلة لعناصرها، خصوصا بعد انهيار "دولة الخلافة" المزعومة في كل من العراق وسوريا. ولا تقل خطورة الفتاوى عن دور السلاح والمال في استقطاب وتجنيد العناصر المتطرفة. لهذا يحرص المغرب، بتعليمات من ملك البلاد بصفته أمير المؤمنين، على إيلاء الجانب الديني نفس الأهمية التي يوليها للجانب الأمني والعسكري والمخابراتي في محاربة التطرف والإرهاب. ففي هذا الإطار تم إنشاء "مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة" لتحقيق جملة من الأهداف، منها ،كما جاء في الرسالة الملكية للمشاركات والمشاركين في ندوة مراكش الدولية ( توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين من المغرب وباقي البلاد الإفريقية الإسلامية، للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها، والقيام بمبادرات من شأنها تفعيل قيم الوسطية والاعتدال والاجتهاد في كل إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية في إفريقيا، سواء على مستوى القارة،أو على صعيد كل بلد من بلدانها).
فالمغرب حريص على تقوية وحماية "الروابط القائمة على الثوابت المشتركة بين المغرب وبين أشقائه الأفارقة في العقيدة وفي المذاهب السنية المعتدلة". ولا سبيل إلى هذا إلا بالاسترشاد بالحديث النبوي الشريف: ” يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”. وكما جاء في الرسالة الملكية "إن هذه الأصناف الثلاثة موجودة اليوم في زمرة الخائضين في شؤون الدين.. لاسيما وأن هؤلاء المنحرفين يدرجون جل كلامهم عن الدين في صنف الإفتاء والفتوى، لما لها من القدسية في أذهان الناس". ولعل الرسالة الملكية تصل إلى كل مسئولي الجامعات والمعاهد العليا فيجسدونها بمنع شيوخ الفتنة ودعاة التكفير من تدنيس الحرم الجامعي وإفساد عقول الطالبات والطلبة بفتاوى التبديع والتكفير والتحريض على الكراهية.
مأسسة الفتوى تحصين للأمن الروحي.
إن الفتوى هي توقيع عن الله تعالى، وترك مجالها سائبا يخرجها عن خدمة أهداف الدين والمجتمع. وقد اكتوى المغرب سنة 2003، بنار التسيب الذي كان يشهده الحقل الديني، فكان قرار جلالته الذي عبر عنه في خطاب 29 ماي 2003 ( لقد دقت ساعة الحقيقة معلنة نهاية زمن التساهل في مواجهة من يستغلون الديمقراطية للنيل من سلطة الدولة أو من يروجون أفكارا تشكل تربة خصبة لزرع أشواك الانغلاق والتزمت والفتنة أو يعرقلون قيام السلطات العمومية والقضائية بما يفرضه عليها القانون من وجوب الحزم في حماية حرمة وأمن الأشخاص والممتلكات). وكانت أولى الخطوات الإجرائية هي مأسسة الفتوى عبر إعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى الذي أنيطت به وحده مهمة الإفتاء في الأمور التي تتعلق بالشأن العام ذي الصلة بالدين قطعا لدابر الفوضى والفتنة. وما دامت إفريقيا تمثل المجال الحيوي للمغرب في بعده الأمني والاقتصادي والروحي، فإن المسؤولية التاريخية الملقاة على المغرب حيالها ــ إفريقيا ــ نظرا للروابط الدينية التي ربطت وتربط المغرب بعمقه الإفريقي، تفرض عليه تقديم النصح والمساعدة لدوله ومؤسساته الدينية بأن تحذو حذوه وتقتدي بنموذج إسلامه المعتدل عبر " تحصين الفتوى الشرعية من الفكر المتطرف؛ بالإضافة إلى بيان مسؤولية المفتين في دحض دعاوى التطرف والنزعات العصبية". ولا يتأتى هذا إلا بجعل "الفتوى في الشأن العام موكولة لمؤسسة جماعية من العلماء العدول الوسطيين، الذين يلتزمون بثوابت بلدهم ومذهبهم الشرعي".
ستظل إفريقيا ومصير شعوبها يشكلان إحدى الاهتمامات الرئيسية لسياسة المغرب وإستراتيجيته الدولية. ذلك أن أمن المغرب من أمن إفريقيا ودولها، خصوصا في عصر باتت فيه "الفتنة تعبر الحدود كما تعبرها الزوابع والرياح".