رغم توجس واشنطن.. المبادلات التجارية بين المغرب والصين تُحقق أرقاما قياسية غير مسبوقة مع تصاعد الاستثمارات الاقتصادية
منذ زيارة الدولة التي قام بها الملك محمد السادس للصين سنة 2016، تشهد العلاقات بين بيكين والرباط ديناميكية غير معهودة لا تُخفيها الأرقام والمعطيات التي تُبرز جليا كيف تحولت الصين إلى واحدة من أهم حلفاء المملكة، سيّما في المجال الاقتصادي والتجاري الذي شهد تطورا تاريخيا وتسارعا مهما في السنوات الأخيرة انعكس على المشاريع الاستثمارية بين البلدين في إطار مبادرة "الحزام والطريق".
ومنذ إقامة العلاقات الدبلوماسية لأول مرة بين الصين الشعبية والمملكة في الأول من نونبر عام 1958، بدأت العلاقات الثنائية تتطور بشكل سلس وخطوات ثابتة، دون أن ترتقي إلى مستويات عالية من توطيد علاقات التبادل والتعاون الاقتصادي الكبير إلى حدود الزيارة الملكية في 2016، ذلك أن المغرب تقليديا ذو علاقات متينة بالدول الغربية والولايات المتحدة حليفه الأول الذي يحمل من الخلاف السياسي والمخاوف الاستراتيجية اتجاه بيكين ما يجعل هذه الأخيرة منطقيا ترتاب لسنّ أي علاقات مع الرباط لكن هذا لم يحدث، لاعتبارات عدّة.
وتعي بيكين جيدا، أن المغرب لا يتشارك ذات المخاوف الاستراتيجية بخصوصها مع واشنطن، كما أنه لطالما عبّر عن مساعيه الرامية إلى تحقيق التوازن في علاقاته الخارجية والتجارية والاقتصادية، الأمر الذي يُفسر تبنّيه دائما استراتيجية "الحكمة الاقتصادية"، التي لطالما اتصف بها في علاقاته من خلال المحافظة على العلاقات الاستثمارية والتجارية والاقتصادية بعيدة عمّا هو سياسي بما فيه مع الدول التي تعادي مصالحه في قضية وحدته الترابية، على غرار نيجيريا التي للمغرب معها مشروع أنبوب الغاز الذي سيربط القارة الإفريقية والأوروبية والتي لا موقف "واضح لها بخصوص الصحراء"، وأيضا الجزائر التي قرّرت قطع العلاقات السياسية مع المغرب ومنع مستثمريها من دخول السوق المغربية بشكل أحادي، دون أن تتفاعل الرباط من جانبها.
وبالنسبة للصين، لابد وأنها استحضرت واقع التدافع العالمي نحو الفرص التجارية والاقتصادية في أفريقيا عبر بوابة المغرب، الذي يتوفّر على مؤهلات عالية ومتطورة سواء الثروة البشرية، أو اللوجيستيكية، سيّما وأنه بات يتوفر على موانئ جد مهمة على البحر المتوسط، وأصبحت واجهته البحرية على المتوسط والأطلسي محورا للتجارة العالمية، كما شيد أول خط للسكك الحديدية فائق السرعة في أفريقيا، فيما سال لعاب شركات صينية أبدت رغبتها في تمديد هذا الخط إلى الحدود الموريتانية ما سيحوّل المغرب إلى نقطة اتصال بارزة بين الطرق التجارية التي تربط بين غرب أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط.
وعلى العموم، بداية حكاية تطوير العلاقات الصينية المغربية، انطلقت مع الزيارة الرسمية التي قام بها الملك محمد السادس، إلى الجمهورية الصينية، ومكّنت من الانتقال إلى السرعة القصوى لترتقي لشراكة استراتيجية شاملة، تترجم الإرادة الملكية في تعميق وتنويع العلاقات الثنائية ورغبة الانفتاح التي عبّرت عنه المملكة كذا مرة.
وفي سياق عالمي متأزم تحكمه المصالح، عمد المغرب إلى هذا الخيار الاستراتيجي من أجل تنويع شراكاته، وفقا لما حدده الخطاب الملكي أمام القمة المغربية الخليجية في 2016 وكان نقطة تحوّل مهمة، عندما أعلن الملك أنه رغم حرص المغرب على الحفاظ على علاقاته الاستراتيجية مع حلفائه، قد توجه نحو تنويع شراكاته، سواء على المستو ى السياسي أو الاستراتيجي أو الاقتصادي، على أساس مبدأ الصداقة والتفاهم والتضامن، والإرادة المشتركة من أجل تنويع مجالات التعاون الثنائي، في أفق واعد من التنسيق سيعود بالمنفعة المتبادلة.
وهذا يعني أن السياسة الاقتصادية المغربية، باتت تُركز أكثر من أي وقت مضى على رهاناتها في جذب الاستثمارات في ظل "رابح رابح"، وكذلك تهيئة اليد العاملة المغربية وتوفير فرص شغل.
ولم تُمكن الزيارة الملكية من إعطاء دفعة قوية للشراكة الاقتصادية، خصوصا في قطاعات المالية والبنية التحتية والسيارات والنسيج والطيران واللوجيستيك والطاقات المتجددة فقط، بل عبّدت الطريق أيضا بعد سنة من ذلك التاريخ، إلى انضمام المغرب في 2017 إلى مبادرة "الحزام والطريق"، التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ في 2013، وتقضي ببناء حزام بري يربط الصين، بأوروبا الغربية عبر آسيا الوسطى وروسيا، إضافة إلى طريق بحرية للوصول إلى أفريقيا وأوروبا عبر بحر الصين والمحيط الهندي، الأمر الذي يُفسر التطور الحاصل في العلاقات الاقتصادية من وقتها.
وكان المغرب أول دولة في منطقة شمال أفريقيا يوقع مذكرة تفاهم مع الصين في سياق مبادرة الحزام وطريق، التي كان لها أثر إيجابي على اقتصاد المملكة وتطوير العلاقات، الأمر الذي شجّع الشركات الصينية على تركيز استثماراتها العملاقة في المغرب.
وبلغة الأرقام الرسمية، التي حصلت عليها "الصحيفة" من مكتب الصرف فقد تضاعفت الاستثمارات الصينية في المغرب إلى أكثر من أربع مرات منذ 2016 وحتى 2022، ما يدفع بالقول أن العلاقات البراغماتية بين البلدين نجحت في رهانها الاقتصادي حتى اليوم وفق استراتيجية رابح رابح.
ورغم توجس واشنطن والغرب من أي تقارب بين المغرب والصين، ارتفعت الاستثمارات الصينية في المملكة، من 2 مليون درهما في 2011، إلى 51 مليون درهما في 2013، ثم 363 مليون درهما في 2016، فـ 466 مليون درهما حتى أواخر 2022.
ويرجع هذا التطور الملحوظ، إلى إطلاق الصين مشروعات مهمة بالمغرب منها شركة مختصة بإنتاج قطع الغيار باستثمار إجمالي يفوق 600 مليون دولار، بالإضافة إلى مشروع بناء مدينة "طنجة تيك"، التي تشكل منصة قوية للمغرب للالتحام بفعالية بمبادرة "الحزام والطريق" الصينية وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، فضلا عن العديد من الاستثمارات سواء الصناعية، والسياحية والعقارية والثقافية وغيرها، سيّما وأن الاستثمارات الصينية في المغرب لا تُركز على القطاعات المدرّة أو الكسولة، بل تتنوع وتشمل مختلف القطاعات بما فيها الذكاء الصناعي، والتكنولوجيا الفلاحية وغيرها.
الأرقام التي تتوفّر عليها "الصحيفة"، أظهرت أيضا تطورا تصاعديا على مستوى المبادلات التجارية بين البلدين، إذ انتقلت واردات المغرب من الصين من 39,561 مليون درهما في 2017، إلى 74,007 مليون درهما حتى نهاية 2022.
وتهيمن الأجهزة الإلكترونية وأجهزة الهواتف على قائمة المواد التي تستوردها المملكة من الصين منذ 2017 بقيمة تصل إلى 2641 مليون درهما من إجمالي الواردات في ذات السنة، فيما وصلت إلى 4.187 مليون درهما في 2022، تليها المنتجات الكيماوية، والنسيج والملابس الجاهزة، والشاي، والتجهيزات الصناعية، ثم المنتجات نصف المصنعة، فالمنتجات الغذائية والمشروبات ومنتجات التبغ، ومعدات استقبال القنوات التلفزيونية الفضائية.
أما على مستوى، صادرات المملكة المغربية إلى الصين، فتُظهر الأرقام التي وفّرها مكتب الصرف لـ "الصحيفة"، نموا مطردا غير مسبوق في تاريخ العلاقات على الرغم من الأزمة الاقتصادية العالمية جراء تداعيات الجائحة وتأثيرات الحرب الجيوسياسية التي قلبت موازين القوى العالمية، إذ ارتفعت من 2973 مليون درهما في 2017، إلى ما يناهز 3384 مليون درهما في 2022.
وتوزعت المنتوجات المغربية المصدرة إلى الصين بين الخردة والنفايات التي تتسيد القائمة، فضلا عن رقائق التوصيل الإلكترونية ولوحات القيادة الكهربائية والمحولات، وكذا المنتوجات المعدنية والتعدينية، إضافة إلى منتوجات النحاس والزنك والفضة، والمتلاشيات ومنتوجات الملابس والنسيج وأكسسوارات الجلد، ناهيك عن المنتوجات الفلاحية وزيت السمك، والخضر والفواكه المجمدة.
ويبدو أن الآمال منتعشة، والرغبة محمومة لمزيد من التعاون وتحقيق أرقام قياسية جديدة على مستوى المبادلات التجارية والاستثمارية بين البلدين، وهو ما عبّر عنه وزير الصناعة والتجارة رياض مزور، قبل أسبوع من اليوم عندما شدّد على أن "العلاقات التجارية بين المغرب والصين قوية جدا، وقد أقام البلدان مجموعة عمل تهدف لتعزيز هذه العلاقات أكثر، والارتقاء بها لمستوى إمكاناتها".
وأكد مزور في حديث صحفي أجراه مع القناة الصينية "سي جي تي ان"، بمناسبة زيارته للصين على رأس الوفد المغربي المشارك في النسخة الثالثة من المعرض الاقتصادي والتجاري الصيني الافريقي ما بين 29 يونيو و 2 يوليوز، أن مذكرة التفاهم الموقعة بين المغرب والصين في نونبر الماضي، والرامية لتسهيل وتعزيز المبادلات التجارية المغربية الصينية، من شأنها أيضا تسهيل الإجراءات من أجل ولوج الصادرات المغربية بشكل أكثر سلاسة للسوق الصينية والعكس صحيح، و الاستثمارات عموما بين الجانبين.
وأضاف مزور أن المرحلة الثالثة هي التعاون الصيني المغربي لتنمية القارة الافريقية، وهو "التعاون الذي نتقاسم فيه نفس مقاربة التنمية المشتركة والازدهار المشترك"، مشيرا إلى أن "الهدف هو أن يتم تثمين الصادرات الصينية للقارة بشكل أفضل، لاسيما نحو المغرب، وخلق المزيد من فرص الشغل للأفارقة".
واعتبر الوزير أن هناك تسارع مهم في المشاريع الاستثمارية بين البلدين في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، مذكرا بأن المملكة كانت من بين الدول الافريقية الأولى التي انضمت لهذه المبادرة، وهو ما رفع الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والصين لمستوى عالي.
من جهة أخرى سلط مزور الضوء على الإصلاحات الرئيسية التي قامت بها المملكة تحت قيادة الملك محمد السادس، مشيرا إلى أن "المغرب يعمل لفائدة ساكنة مكونة بشكل أفضل أكثر فأكثر، وبتطلعات مختلفة"، وأن النسيج الاقتصادي للبلد بصدد التحديث لتمكين هؤلاء الكفاءات الشبابة من ابراز مؤهلاتهم، والاستفادة الكاملة من امكاناتهم.
وأبرز مزور أن الصين شريك مهم للغاية لافريقيا، والمغرب، كبلد بسياسة قارية متقدمة، يأمل في تطوير، إلى جانب الصين، العمل المشترك تجاه البلدان الأفريقية الأخرى.