الحاكم والمحكوم وما بينهما
تُعتبر العلاقة بين الحاكم والمحكوم الإشكالية الأساسية في أي دولة، وعلى حلّها يتوقّف تقييم الدولة بأنها ناجحة أو فاشلة، عادلة أو ظالمة، ديمقراطية أو تسلطيّة. والأمر يتعلّق بشكل الدولة وطبيعة نظامها السياسي، والمبادئ والقيم التي تحكمها، والقواعد التي يقوم عليها "العقد الاجتماعي"، والذي يتأسس عليه دستورها أو نظامها الأساسي، وهو الذي يُطلق عليه "أبو القوانين"، والذي تُقاس على أساسه دستورية القوانين التي يتمّ تشريعها. ومن هذه القواعد وارتباطًا بالممارسة والتطبيق، يمكن الحكم على شرعيّة النظام السياسي أو عدم شرعيته، سواء بمرجعياته المختلفة أم تطبيقاته المتعدّدة.
الدولة حسب البروفيسور ليون دكي ليست سوى التمييز السياسي بين الحاكم والمحكوم. وحسب عالم الاجتماع ماكس فيبر، فإن الشرعية أساس السلطة، وهذه تستند إلى معايير وقواعد أساسية عمادها ثقة الناس بالنظام السياسي، من خلال قناعتهم بإجراءاته المتّبعة لتحقيق تلك القواعد، التي يتمّ التعبير عنها بالإرادة السياسية طبقًا للقانون.
وثمة خلط يحدث في الأغلب بين فكرة الشرعية، Legitimacy، وبين فكرة المشروعية، Legality، فالأولى هي مفهوم سياسي يعتمد على درجة قبول النظام أو عدم قبوله من جانب المواطنين، وشعورهم نحوه وثقتهم بإجراءاته، الأمر الذي يمنح الشرعية أو يحجبها عنه، لا سيّما بما يقدّمه من منجز لهم على الصعيد العملي. أمّا "المشروعية" فتعني "حكم القانون"، وهذا يعني درجة انطباق أو عدم انطباق سلوك سياسي أو تصرّف معيّن مع القانون، إلتزامًا أو خرقًا.
ومع ذلك تبقى حلقة مفقودة بين الشرعية والمشروعية في العلاقة بين القانون والسياسة، وبين الحاكم والمحكوم، إذْ أن طموح أي مجتمع أو فاعلية سياسية أو حقوقية، هو السعي لتحقيق التوافق بين الشرعية والمشروعية، لاسيّما إذا كان التطابق غير ممكن، فإن السير بخط متواز بين الشرعية والمشروعية، يعني تحقّق رضا الناس مصحوبًا بحكم القانون، ولذلك تُجهد بعض الأنظمة نفسها لإظهار مثل هذا التوافق ولو شكليًا في الكثير من الأحيان، لكي تزيّن صورتها أمام العالم الخارجي.
وترتبط الشرعية بمسألة كيفية ممارسة السلطة السياسية في المجتمع وأسلوب إدارتها وبالتالي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، انطلاقًا من المساواة والعدل والشراكة والمشاركة، وبالطبع مبادئ الحريّة، وتلك تشكّل أساس المواطنة في الدولة العصرية.
ويختلف مضمون الشرعية وأهدافها وأدواتها، تبعاً لاختلاف الدول وطبيعة أنظمتها السياسية والاجتماعية، ففي فترة الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي، وفي ظل نظام القطبية الثنائية، ساد مفهوم "الشرعية الثورية" في البلدان الاشتراكية وبلدان التحرر الوطني، وإنْ كان لهذا الاستخدام ما يبرره في مرحلة الانتقال، لكن هذه "الشرعية الثورية" استمرّت لعقود من الزمن لتُصبح واقعًا متعسفًا في مصادرة حق الناس في اختيار الحاكم، وهكذا فقدت الشرعية المزعومة أي معنى، وتحوّلت إلى استبداد واستئثار ومصادرة للحقوق والحريات.
لم يعد تبرير الكلام عن "الشرعية الثورية" ممكنًا، حتى بوصفها مرحلة ضرورية لمعايير قيمية يهدف إليها التغيير، بل أخذ الحديث شكلًا آخر، منذ نحو أربعة عقود من الزمن، أُطلق عليه اسم "العدالة الانتقالية"، وهي مرحلة وسطية ولفترة محدودة ما بين مرحلتين، تمهيدًا للانتقال إلى الشرعية الدستورية، وفقاً لعقد اجتماعي جديد تقوم قواعده العامة على المواطنة واحترام التنوّع والتعددية والاعتراف بالآخر، في إطار حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء والانتخابات الدورية، مع الأخذ بنظر الاعتبار درجة تطوّر كلّ بلد، وتوافق نخبه ومرجعياته السياسية والثقافية.
وحتى الحديث عن الديمقراطية، التي هي نتاج للجهد البشري والتراكم الثقافي والمعرفي، فقد اتّخذ بُعدًا جديدًا، لأنه لا يخصّ حضارةً أو أمةً أو شعباً أو منطقةً أو دولةً أو لغةً أو مجتمعاً من دون سواه، فالانتقال الديمقراطي قانون اجتماعي للتطور الإنساني، باعتباره القاسم المشترك من دون نسيان خصوصيات الشعوب وهويّاتها وثقافتها وتاريخها، والذي يجب أن يأتي من تنوّع المصادر والتيّارات الاجتماعية وتوافقها.
وإذا كان الماضي حسب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي قد احتضر، فإن الجديد لم يولد بعد، الأمر الذي يحتاج إلى توفير جميع العناصر الضرورية لولادة طبيعية ولنمو سليم في بيئة مناسبة وظروف سلمية .
لقد تهاوت الشرعيات الثورية في البلدان الاشتراكية السابقة، وامتدّ الأمر ليشمل الشرعيات الثورية العسكرية أو الانقلابية في العالم الثالث، وما أطلقنا عليه "بلدان التحرّر الوطني"، حيث تعتّقت النخب الحاكمة في السلطة، بعد أن وصلت إليها عن طريق القوّة، وتشبّثت بها وألغت كل ما سواها، الأمر الذي يحتاج إلى فترات انتقالية للتكيّف، والتواؤم لصياغة عقد اجتماعي جديد للشرعيّة والمشروعيّة، يختلف عن العقد القديم، لاسيما العلاقة بين الحاكم بالمحكوم.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :