عن آداب الحوار وثقافة الكراهية
أثار العدوان "الإسرائيلي" على غزّة، والعملية النوعيّة التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في المستوطنات، ردود فعل مختلفة ومتباينة، ليست على النطاق الدولي فحسب، وهذا أمر مفهوم، بل على الصعيد العربي أيضًا، حيث تحفل مواقع التواصل الاجتماعي بآراء ووجهات نظر يخوّن كلّ منها الآخر أحيانًا، وينعته بأسوأ الصفات، ويكيل له شتّى الاتهامات، والأكثر من ذلك، أن العديد من المنصّات والمواقع التي تزعُم أنها منتديات للحوار، تنزلق بشدّة لتتحوّل إلى ساحة لترويج ثقافة الكراهية والتعصّب والتطرّف ونبذ الآخر بعنف لفظي وإرهاب فكري، يصل إلى التأثيم والتحريم والتجريم.
فهل هذا من أخلاقيات الحوار وآدابه؟ أم أن ثمة استمرارًا للصراع الأيديولوجي في فترة الحرب الباردة؟ وما السبيل إلى حوار عقلاني، يقوم على النقد والنقد الذاتي، وفقًا للمعرفة والموضوعية، وبمشاركة من الجيل الجديد، ليكون عنصر تفاعل وحيوية، من دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش؟
ثمة أخطاء شائعة عن فكرة الحوار، الذي لا بدّ أن ينتهي إلى غالب أو مغلوب، وأحيانًا يتمّ تجاوز موضوعه ليتمّ التركيز على شخصياته، وهكذا ينصرف الحوار عن وظيفته الأساسية، وينشغل بما هو سطحي عمّا هو جوهري، خصوصًا حين يتعصّب الإنسان إلى رأيه أو معتقده أو دينه أو قوميته أو طائفته، وبدلًا من البحث عن المشتركات الإنسانية، وتبادل وجهات النظر، والتمسّك بالجوامع، يتمّ استبدال ذلك بنقاط الاختلاف، والتخندق لتعميق الفوارق، وكأن المتحاورين في معركة، يريد كل طرف فيها الفوز، وتسجيل نقاط على الآخر، فيتحوّل الحوار إلى سجال وتطاحن واستقواء، بما يقود إلى التباعد والتباغض والتنابز، لاسيّما حين تتغلّب الأمزجة الذاتية على النظرة الموضوعية، بما يزيد من عمق الفجوة وحدّة التشاحن وشدّة التنازع.
وتقضي آداب الحوار احترام الآخر والإقرار بحقّه في التعبير، أيًّا كان معتقده وفكره ورأيه، لأن الحوار، في نهاية المطاف، قيمة حضارية وأسلوب متمدّن لتنظيم الاختلاف، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى الجماعي، وخصوصًا حين توضع مسافة ضرورية بين الذات والفكرة، فليس المقصود من نقد الأفكار تجريح الذات أو الإساءة إليها أو التقليل من شأنها.
الحوار ليس ساحة حرب، أو مزاودة، أو تضليل تُرفع فيه الشعارات الرنانة، بقدر ما هو مكان لاكتشاف الحقيقة، ولفهم كل ّ طرف ما لدى الطرف الآخر، وإذا كان كلّ منهما يتشبّث بما لديه، ولا يريد الاستماع إلى الآخر، أو يحجب حقّه في التعبير، فسوف ينتهي الحوار، وتُغلق فسحة تبادل الرأي مع الآخر المختلف، دينيًا أو قوميًا أو لغويًا أو سلاليًا أو فكريًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، في حين تقبل الأديان الاختلاف وتقرّ بالحوار. وجاء في سورة النحل "... وجادلهم بالتي هي أحسن" (الآية 125)، وورد في سورة آل عمران، (الآية 64 ) "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم".
وكما يقال، حوار 100 عام خير من حرب ساعة، لأن الحرب لا تجلب سوى الدمار والخراب المادي والمعنوي، وكما جاء في دستور اليونيسكو "لما كانت الحروب تبنى في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُشاد حصون السلام"، والنار لا تطفئ بالنار، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة، وظلمان لا يصنعان عدالة.
الحوار على أرضية الاختلاف أمر لا غنى عنه، حتى بين أتباع الدين الواحد أو الفكرة الواحدة أو القومية الواحدة، لأن الاختلاف ليس حول قيم الدين أو الفكرة الاجتماعية أو القيم القومية، بل حول سُبل تطبيقها، والطريق الذي ينبغي أن تسلكه لتحقيق غاياتها، وهي بعيدة المدى وغير ملموسة، في حين أن الوسيلة ملموسة ومباشرة، والعبرة ليست دائمًا بالغاية لوحدها، حتى ولو كانت نبيلة، بل بالوسيلة أيضًا، تلك التي ينبغي اتّباعها، وصولًا إلى الغايات.
الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة، حسب المهاتما غاندي، ولا غاية شريفة بوسيلة خسيسة، والوسيلة من شرف الغاية، الأمر الذي يستوجب اختيار الوسائل النبيلة لتحقيق الغايات النبيلة، إذْ لا يُمكن تصوّر وسائل دنيئة بزعم الغايات الشريفة، وقد برّرت أنظمة وقوى استخدام بعض الوسائل غير المشروعة وغير الشرعية بزعم الوصول إلى تحقيق الأهداف المشروعة والعادلة، وهو ما تمارسه "إسرائيل"، على نحو ديماغوجي في حروبها المتكرّرة ضدّ الأمة العربية، منذ اغتصابها فلسطين في العام 1948، وإلى طوفان الاقصى.
من الضرر تحويل الاختلاف إلى خلاف، فالاختلاف من طبيعة الأشياء، ولا تنبجس الحقيقة من دونه، مثلما لا يمكن تجاهله أو إخفاءه بحجّة وحدة الرأي والموقف، وهو ما اتّبعته الأنظمة والقوى الشمولية، فتحوّل الاختلاف إلى خلاف، بحيث أصبح تناحريًا بسبب مصادرة الحق في التنوّع، والتنكّر للتعدّدية، والسعي إلى إجماع مصطنع، للحفاظ على أحادية واحدية إطلاقية، ليست سوى تعبيرًا عن استبداد ومحاولة إملاء رأي بالقوّة، في حين أن بالاختلاف تتلوّن الحياة وتغتني المعرفة ببُعد جديد.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :