تناقضات مذكرة حركة التوحيد والإصلاح لإصلاح مدونة الأسرة(3/3)
4 ـ مسائل الإرث وحفظ مصالح الأطراف الضعيفة: بشكل محتشم حاولت الحركة في مذكرتها التطرق للتعصيب في الإرث دون أن تجسر على المطالبة بإلغائه، مكتفية ببعض الاقتراحات التي لا يمكن أن تحمي البنات والزوجات، عند عدم وجود ابن ذكر، من أكل أموالهن بالباطل وتشريدهن. فقد اقترحت بعض الخيارات تطبّق على حالات استثنائية فقط ولا تشمل كل الأسر التي لم تنجب ذكورا. ومما اقترحته الحركة:
ــ وقف العمل بالتعصيب في "حالة شخص له زوجة وبنات صغيرات وليس له ولد ذكر، وقدّر أن ما يُخلّفه لا يفي بحوائجهم عند اقتسام تركته". وهذا مقترح غير عملي لأن تقدير الحاجيات يظل نسبيا ولا يمكن تحديد سقفها. وقد يعرّض الورثة البنات إلى التشرد في حالة قرر العصبة اللجوء إلى القضاء وحرمان البنات من الانتفاع بالتركة إلى حين صدور الحكم القضائي بمختلف درجاته.
ــ الهبة والوصية: "مشروعة للأقارب وغيرهم، وقد تتأكد بالنسبة لمن هم في أمس الحاجة إليها من مثل الأبناء الصغار، ومن عندهم احتياجات خاصة (إعاقات)، أو الزوجة التي يخشى تشردها بعد الوفاة". لكن ما تجاهلته الحركة هو أن القضاء يسمح بالطعن في الهبة والوصية فيُحْرم المستفيدين منهما فيستأثر العصبة بالموهوب والموصى به. لهذا طالبت الجمعيات النسائية بحماية الوصية والهبة من الطعن أمام القضاء، بينما لم تفعل حكرة التوحيد والإصلاح.
ــ العمْرى وحق الانتفاع: وهما إجراءان لا يحميان حقوق الورثة من البنات لأنه يمكن التراجع عنهما لأي سبب، كما أن حق الانتفاع لا يعني حق التملك. وقبل كل شيء لا أحد يضمن عمره، فقد تباغت الموت أي شخص ليس له ولد ذكر دون أن يترك له الفرصة لإبرام عقدي العمرى وحق الانتفاع فيضيع حق البنات والزوجة.
ــ تأجيل اقتسام السكن الرئيسي إلى ما بعد بلوغ البنات واستغنائهن بالكسب: وهذا اقتراح عديم الجدوى ولا يضمن حقوق البنات في تركة والديهم التي كدّوا من أجل تحصيلها. فقد تشتغل البنت بأجر لا يغطي تكاليف المعيشة والسكن معا فتضطر إلى اتخاذ المنزل الموروث سكنا دائما لها، الأمر الذي سيطعن فيه العصبة. ثم ماذا لو احتاجت البنات للمنزل الذي ورثنه بسبب الطلاق أو الطرد من العمل أو العجز؟ هل العصبة سيتخلون عما ورثوه؟ ثم ماذا لو باع العصبة ذلك المنزل؟ أكيد لم تستحضر الحركة هذه الاحتمالات وهي تقترح الخيارات البئيسة عديمة الفائدة ولا يمكنها حماية حقوق الإناث وصيانة كرامتهن.
كل الاقتراحات التي قدمتها الحركة فيما يتعلق بالميراث هي تحايل على القوانين وإجبار الأسر على اتباعها، رغم أنها غير مضمونة النتائج، أملا في حماية حقوق البنات. لهذا لا سبيل لحماية هذه الحقوق إلا بإلغاء التعصيب واعتماد قاعدة الرّد في جميع الحالات التي توزع فيها التركة بين البنات والعصبة. والسند الشرعي في هذا هو أن التعصيب لا أصل له في القرآن، فضلا عن كون الرسول (ص) عمل بقاعدة الرد وألغى التعصيب. وتقوم قاعدة الرد على توزيع التركة على أصحاب الفروض وما بقي من التركة يعاد توزيعه عليهم حسب أنصبتهم خصوصا عند وجود الإناث حماية لهن من التعصيب. وقد طبق الرسول (ص) قاعدة الرد وجعل التركة من نصيب البنت/البنات دون العَصَبة كما هو بيّن في الأحاديث النبوية التالية:
ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم "من ترك مالا فلورثته ومن ترك كَلاّ فإليّ" وفي لفظ "من ترك دَيْنا فإليّ ومن ترك مالاً فللوارث" إذن المال للورثة من ذوي الأرحام وليس للعصبة.
ــ قصة سعد ابن أبي وقاص حيث رُوِي أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: "إني قد بلغ مني الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلاّ ابنة لي، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر (أي النصف) قال:" لا" قلت: "بالثلث،" قال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس". يدل هذا الحديث على أن الابنة تحوز ما زاد على الثلثين، وذلك لا يكون إلاَّ على جهة الرد. ففي حديث عمرو ابن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّث بِنت المُلاَعِنة من أُمّها أي ورّثها جميع المال ولا يكون ذلك إلا بطريق الرَّدّ. ثم حديث وَاثِلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لُوعِنت به". وجه الدلالة هنا هو أن النبي جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه، وهذا يقتضي أن يكون جميع ميراثه لها، ولا يكون لها الجميع إلا بالردّ. ثم ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية فماتت أمي وبقيت الجارية فقال (ص): (وجب أجرك وعادت اليك الجارية). فرجوع الجارية كلها إليها دليل على جواز الرد وإلا فليس لها إلا النصف فرضاً، بحيث يمكن بيع الجارية وأخذ نصف ثمنها والنصف الثاني يؤول إلى العاصب. لكن الرسول (ص) عمل بقاعدة الرد دون قاعدة التعصيب.
إن المراد من هذه الأحاديث النبوية الشريفة هو بيان تشريع الرسول (ص) لقاعدة "الردّ على ذوي الفروض مقدم على إرث ذوي الأرحام". أي في حالة وجود بنت أو أكثر دون الإخوة الذكور، فإن التركة كلها تؤول إلى البنت/البنات. وقد ذهب عدد من الصحابة والأئمة إلى القول "بالرّدّ"، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن عبّاس وابن مسعود وجابر بن عبدالله [= جابر بن يزيد] وشريح وعطاء ومجاهد وتَبِعهم في ذلك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقال ابن سراقة: «وعليه العمل اليوم في الأمصار». أما قول عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وجابر بن يزيد: يُرد الفائض على جميع أصحاب الفروض حتى على الزوج والزوجة. ولعل الأخذ برأي الخليفة عثمان بن عفان سيحمي الزوجات اللائي لم يلدن أولادا، أو لهن فقط البنات، من ظلم العصبة، ويضمن لهن الاستفادة من كل التركة.
تناقضات حركة التوحيد والإصلاح:
إن إعلان الحركة رفضها سمو المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب على التشريعات الوطنية يدخل الحركة في تناقضات صارخة من عدة وجوه:
الوجه الأول: إنها صوتت بـ"نعم" على دستور 2011 وقبلت بالعمل به وفي إطاره وقيادة الحكومة، عبر ذراعها السياسية حزب العدالة والتنمية، لمدة عشر سنوات دون أن تقدّم، من جديد، تحفظات المغرب على الاتفاقيات الدولية التي تراها مخالفة للشريعة.
الوجه الثاني: إن الدستور هو أسمى قانون أجمع عليه المغاربة ولا يمكن للحركة أن تفرض على الدولة والشعب وجهة نظرها أو موقفها أو تأويلها للدستور. وينص الدستور في ديباجته على سمو المواثيق الدولية فور المصادقة عليها على التشريعات الوطنية.
الوجه الثالث: إن الدولة المغربية لها التزاماتها الدولية التي صادقت عليها وتعهدت باحترامها في تشريعاتها، وما تدعو إليه الحركة يمس بمصداقية الدولة وبمؤسساتها الدستورية. إذ لا يمكن للدولة أن تصادق على اتفاقيات دولية ثم تخالفها في تشريعاتها، ومن ضمنها اتفاقية حقوق الطفل التي تنص المادة 7 منها على حق الطفل في معرفة والديه كالتالي: "يسجل الطفل بعد ولادته فورا ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان، الحق في معرفة والديه وتلقى رعايتهما". وكذلك المادة 8 من نفس الاتفاقية التي صادق عليها المغرب "تتعهد الدول الأطراف باحترام حق الطفل في الحفاظ على هويته بما في ذلك جنسيته، واسمه، وصلاته العائلية، على النحو الذي يقره القانون، وذلك دون تدخل غير شرعي".