العرقية ومرادفاتها في عالم اليوم
تبدو مصطلحات مثل "العرقية" و"الجماعات العرقية" و"الصراعات العرقية" جديدة. وقد ظهرت لأول مرّة في قاموس أكسفورد البريطاني العام 1972، وإن كانت استخداماتها أقدم من هذا التاريخ بكثير. وكلمة عرقي مشتقّة من الكلمة الإغريقية "إثنو"، وقد استخدمت كلمة "العرقيات" في الحرب العالمية الثانية ككلمة سلبيّة مهذبة بالإشارة إلى بعض الجماعات من غير الإنكليز، والذي يُنظر إليهم كمستوى أدنى.
وكان المفكّر الاجتماعي ماكس فيبر قد نبذ التمترسات العرقية للجماعات المحلية، معتبرًا إياها مظهرًا بدائيًا تتراجع أهميته، بل تزول، بفعل انتصار الحداثة والتصنيع وشيوع الفردانية، وقد أيّد وجهة نظره هذه عدد من علماء الاجتماع في القرن العشرين.
وتنامت، منذ أواسط القرن المنصرم، ظواهر العرقية وأشكال أخرى من الهويّات القومية، اتّخذت بُعدًا سياسيًا على المستوى العالمي، وخصوصًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وازدادت اتّساعًا في نهاية النصف الثاني من القرن العشرين، وصولًا إلى وقتنا الحالي.
وقد شهدت العقود الأربعة المنصرمة انفجارًا غير مسبوق للعرقية والنزعات الإثنية والهويّات الفرعية، ارتباطًا بتطوّر العلوم الاجتماعية، وذلك بالترويج لها عبر الكتب والمطبوعات والدراسات والمؤتمرات والندوات، التي تبحث فيها، وشمل ذلك حقول العلوم السياسية والقانونية والتاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وصدرت عن مراكز الأبحاث والدراسات والجامعات كتبًا وأبحاثًا متنوّعة عن "العولمة" و"الهويّة" و"الحداثة"، وكلّ ما له صلة بالعرقية والقومية والإثنية، علمًا بأن الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي علم مقارن، يدرس الاختلافات والتشابهات في العلاقات الإثنية والظواهر العرقية، وهو يوفّر رؤية حيوية لفهم العرقية ومرادفاتها في العصر الحديث.
أصبح من غير المقبول تجاهل المسألة الإثنية، سواء في البلدان المتقدمة صناعيًا، الغنية والديمقراطية، أم في البلدان النامية والفقيرة، والتي لم تدخل مرحلة التحوّل الديمقراطي. في الأولى، بشكل عام، كانت الخلافات تُحلّ عن طريق الدستور وحُكم القانون، في حين أنها في الثانية، تؤدّي في الغالب إلى نزاعات مسلّحة وحروب أهلية، لاسيّما باللجوء إلى الحلول العسكرية والعنفية.
وبالطبع فثمة حروب ونزاعات شهدتها بلدان أوروبا، وخصوصًا بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، وانقسامه إلى 15 كيانًا، ولعلّ آخرها الحرب المندلعة في أوكرانيا، فضلًا عن تمزّق يوغوسلافيا وتوزّعها إلى 6 كيانات، شهدت بينها حروب تطهير عرقي، ولاسيّما ما حصل في البوسنة والهرسك، ويمكن الإشارة إلى حروب سيرلانكا وروندا والكونغو، إضافة المشكلة الكردية المزمنة والمعتّقة بين أربعة بلدان في الشرق الأوسط، ومشكلة جنوب السودان التي نالت استقلالها في العام 2011، عبر استفتاء بإشراف دولي، بالإضافة إلى تيمور الشرقية، وقبل ذلك حروب الهند وباكستان ثم بنغلادش.
وإذا كانت هذه إحدى مظاهر الصراع العرقي، فثمة وجه آخر له، ففي الغرب اتّخذ منحىً قانونيًا وسياسيًا سلميًا في الغالب، كما هي مشكلة الكيبيك في كندا، والفلامانيين والوالانيين في بلجيكا، وإقليم الباسك وكاتالونيا في أسبانيا، ومشكلة إيرلندا التي ما تزال قائمة منذ عقود من الزمن، ويتجاذبها آراء ووجهات نظر مختلفة، كلّها تتصارع تحت حكم القانون، يُضاف إلى ذلك نزعات إثنية في جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، تبحث عن تعظيم للهويّة الفرعية والتمايزات والخصوصيات.
كما أصبحت الهويّات العرقية أحد الميادين للصراع الدولي والإقليمي، بعد التدفّق الهائل والمستمر للاجئين والمهاجرين إلى أوروبا والغرب عمومًا، مما أعطى شحنة قوية للشعور بالانتماء إلى الهويّات الفرعية. ولعلّ مثل هذا الشعور تنامى كذلك عند تأسيس الاتحاد الأوروبي، فأخذت العديد من البلدان المنضوية تحت لوائه، تبحث عن خصوصيتها، وهو ما دفع دولة مثل بريطانيا للانسحاب منه، وقاد هذا الاتجاه أيضًا إلى ظهور جهات متطرّفة في القارة الأوروبية، ذات خطاب شعبوي إثني في الغالب، ومعاد للأجانب بشكل عام للوصول إلى السلطة، ونمت على هامشه أحزاب يمينية حاولت رفع أكثر الشعارات رنينًا وتطيرًا، تحت ذريعة الخشية من إضعاف الهويّة القومية، لاسيّما في ظلّ عدم الاندماج الثقافي.
ويرتفع شأن هذه القضايا على نطاق واسع ومؤثّر في فترات الانتخابات، بقبول أو رفض التعدديّة الثقافية وإدماج المهاجرين، كما تثير، في الوقت نفسه، أسئلة ما تزال بحاجة إلى معالجات بخصوص التمايز بين الجماعات العرقية، والعلاقات بينها وبين الاحزاب السياسية ذات الطبيعة العرقية، وأشكال الهويّات الأخرى وعلاقتها بالثقافة والحقوق كذلك.
وهذا ما يُظهره الجدل الساخن في إطار المقاربات الأنثروبولوجية، بشأن تصنيف الجماعات البشرية عرقيًا، أو ما يُطلق عليه مجازًا "الأقلية" و"الأكثرية، وهو ما تناوله إعلان حقوق الأقليات، الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1992 .