أبواقٌ مسمومة
قد تكون تصريحات وزير الاتصال الجزائري، محمد لعقاب، بخصوص "التجاوزات" التي وقعت فيها وسائل الإعلام الرياضية في بلاده، والتي قال إنها تمثل "تهديدا للأمن القومي"، مجرد تحصيل حاصل بالنسبة لمن يتابعون مسار الشحن الإعلامي الخطير، بل "المتطرف"، بين الجزائر والمغرب طيلة السنوات الماضية، وخصوصا إثر وصول الرئيس عبد المجيد تبون ومعه الجنرال السعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش، إلى سدّة الحكم أواخر سنة 2019.
لكن هذه التصريحات، بالنسبة للداخل الجزائري، يفترض أن تُمثل صفعة ولو خفيفة، على خد المواطن هناك، صفعة هدفها الإيقاظ لا القمع، لعله يُلقي بالا إلى عملية "الاستلاب الممنهجة" والتي أصبحت خارجة عن السيطرة، تجاه الجوار الإقليمي لبلده، وتحديدا جيرانه المغاربة، الذين لم يتوقف الإعلام الرسمي وشبه الرسمي عن شيطنتهم بمختلف الطرق والوسائل، وتحت شعار عريض لا يخفى على أحد: "لا أخلاق ولا مهنية حين يتعلق الأمر بالمْراركَة".
صحيح أن الوزير الجزائري، كان يتحدث، ضمنيا، عن العلاقات مع موريتانيا، البلد الذي أشبعته الصحافة الجزائرية سخريةً وقدحا بسبب مباراة في كرة القدم في إطار كأس أمم إفريقيا، كسبها بكفاءة وعدالة، لكن ما نطق به يعبر عن حالةٍ عامة، خصوصا حين أورد أن الإعلام الرياضي "كاد أن يتسبب في مشاكل دبلوماسية بين البُلدان"، مشيرا إلى "التهويل" الذي يُمارس داخل بلاتوهات القنوات التلفزيونية.
كثيرةٌ هي الدول التي اعتمدت معها الجزائر هذا "النمط" من الشحن الإعلامي حين يبرز خلافٌ معها، ففرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية ومالي والإمارات العربية المتحدة.. كلها أصابها، بدرجات متفاوتة، بعضٌ من "السم" الذي تنفثُه وسائل الإعلام هناك، وهذا المسار أدى إلى تعقيدات دبلوماسية مع عواصمها، وأحدثُ مثال على ذلك هو ما يجري مع أبو ظبي، التي أغلقت أبوابها في وجه مسؤولين جزائريين لأسباب موضوعية كثيرة، منها تكرار الهجوم الإعلامي عليها دون رادع.
لكن الثابت أن ما نال المغاربة أكبر بكثير مما نال باقي دول العالم مجتمعة، لدرجة أن حدثا مثل الزلزال الذي ضرب المملكة قبل أشهر، لم يحرك في قلوب المسؤولين عبر القنوات والصُحف الجزائرية أي ذرة تعاطف، ولم يحرك في عقولهم أي دافع للممارسة المهنية، بل على العكس تماما، منهم من استغلوا الفرصة للتشفي في المغاربة ولإهانة مواطنين بسطاء يقطنون في مناطق قروية معزولة وسط الجبال، وسط محنة أفقدتهم الأهل والدار.
وهنا قد يقول قائل، أليس هذا الشحن الإعلامي متبادلا بين المؤسسات المغربية والجزائرية؟
والجواب يحتاج إلى قليل من التوضيح، صحيحٌ أن العديد من وسائل الإعلام المغربية أصبحت مُغرقة في "اللامهنية" وفي "الشعبوية" حين تتعاطى مع قضايا الجزائر، لكن المؤكد قطعا، ودون أي مزايدات، هو أنها، أولا، أقلُ بمراحل من نظيرتها الجزائرية، وثانيا، لا تُجَرِّحُ ولا تهين كرامة الجزائريين أو أعراضهم أو سمعتهم أو إنسانيتهم، إلا في حالات شاذة، وثالثا، وهو الأهم، أننا لا نرى في وسائل الإعلام العمومية، وعبر القنوات التلفزيونية، أي هجوم على الجزائر قيادة وبلدا وشعبا.
هذا النزوع الهستيري لمهاجمة كل ما هو مغربي، لا نرى مقابلِه عبر وسائل الإعلام المغربية، فلم نسمع يوميا تقريرا تلفزيونيا يتشفى في مرض تبون أو شيخوخة شنقريحة، حتى عندما كان التلفزيون الجزائري، الرسمي منه والمقرب من دوائر صناعة القرار، يبثُ تقارير تطعن، دون خجل ودون مروءة، في شرف المواطنات المغربية، وتربط، بغير قليل من العجائبية، بين الإقصاء من "الكان" وبين التطبيع مع إسرائيل.
أي نعم، هذا الشحن لا بد أن يتوقف من لدن الطرفين، لكن ليس من الموضوعية وضع مهاجمةِ سياسات الجزائر بسبب معاداة مغربية الصحراء، في خانة واحدة مع السخرية من العاهل المغربي، أو استبدال عبارة "المغرب" بلازمة "جار السوء" أو الربط غير المنطقي، والمفرط في الكاريكاتيرية، بين المملكة وبين أي مشكلة أو كارثة تصيب الجزائر.
ما على الجزائريين فهمه، هو أن فرحة كثيرٍ من المغاربة بإقصاء "الخُضر" من الدور الأول لكأس إفريقيا، والذي ردوا عليه بإحراق قميص المنتخب المغربي عندما أقصي "أسود الأطلس" في الدور الثاني، بل واللجوء إلى سب المغاربة ومحاولة إهانتهم، لم يكن إلا عارضا لداء أكبر، مصدره أساسا الإعلام الجزائري، وخلفه، قطعا، سلطات وجدت منفذا تقليديا، لكنه مثالي، لتصريف أزماتها الداخلية وإشاحة الأنظار عن الفساد الذي تغرق فيه.
في النهاية، كرة القدم لها قواعد تُصنفها، وستظل، في خانة كُتب عليها بالبنط العريض "لُعبة"، لكن اللحظة تتطلب وقفة تأمل، وربما محاولة قراءة تصريحات، أو بالأحرى اعترافات، مُمثل الحكومة الجزائرية المكلف بالإعلام، بطريقة أكثر وعيا ونُضجا، لعل الجميع يعي بأن لا شيء يستقر على حال، وأن لا شيء يستحق الطعنات الغائرة التي لا تندمل، في جسد جارٍ له ذاكرة.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :