كيف دمرت الولايات المتحدة الأمريكية أمريكا اللاتينية ؟ (الجزء الثاني)
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ستجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في أزمة جديدة سترخي بضلالها على العالم بأسره، حيث أن النظام العالمي الذي أفرز عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح ينقسم إلى معسكرين، معسكر يبرز فيه الفكر الرأسمالي الليبيرالي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، ومعسكر آخر يتبنى الفكر الإشتراكي الشيوعي يقوده الإتحاد السوفياتي، هذا الإنقسام الحاد في العالم بين إيديولوجيتين متناقضتين، أفضى سنة 1947 إلى بداية الحرب الباردة بين أقوى قوتين عسكريتين نوويتين في العالم.
من بين أبرز العوامل التي أدت إلى هذا الصراع السياسي- الإيديولوجي، هو محاولة الاتحاد السوفياتي التمدد وفرض هيمنته على أوروبا، التي نجح في جعل ضفتها الشرقية تتبنى الفكر الشيوعي عبر سيطرت الأحزاب السياسية التي تؤمن بالماركسية على مقاليد الحكم، هذه الأطماع السوفياتية دفعت الولايات المتحدة الأمريكية للتحرك من أجل محاصرة تمدد الشيوعيين في القارة العجوز التي أنهكتها الحرب العالمية الثانية، والتي خلفت أنظمة هجينة على مختلف الأصعدة، خصوصا على المستويين السياسي والاقتصادي، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إعلان الرئيس الأمريكي هاري ترومان سنة 1947 أن إدارته ستعتمد استراتيجية جديدة لمواجهة التيار الشيوعي أطلق عليها استراتيجية الاحتواء، والتي سيتم من خلالها دعم الدول الأوروبية اقتصاديا ومساعدتها على إعادة إعمار بلدانها التي دمرت الحرب بناياتها التحيتة ومنظومتها الاقتصادية، هذا المشروع الأمريكي الجديد، والذي تم التخطيط له من أجل مساعدة أوروبا، أطلق عليه مشروع مارشال.
في خضم الصراع الأمريكي- السوفياتي إبان فترة الحرب الباردة، شهدت دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية مرحلة سياسية اتسمت بالحرية والديمقراطية، ما دفع بتأسيس حكومات إشتراكية بعدما نجحت أحزاب تتبنى الفكر الاشتراكي عبر انتخابات ديمقراطية عاشتها دول المنطقة من تصدر المشهد السياسي ونيل ثقة شعوبها، هذه الشعوب التي كانت تعيش تحت وطأة الفقر والبطالة وضعف الخدمات العمومية وهشاشة البنية التحتية بفعل النهب الذي تمارسه الشركات متعددة الجنسيات، التي تستحوذ على الثروات الطبيعية لهذه الدول بتواطؤ من حكامها وحكوماتها.
هذا الوضع الجديد الذي باءت تعيشه كل من الأمريكيتين الوسطى والجنوبية أصبح يهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، لذلك بدأت واشنطن تنتهج سياسة جديدة ترتكز على دعم الحكم الإستبدادي والسلطوي من خلال تأسيس ديكتاتورية عسكرية في هذه البلدان، ومن أجل تحقيق هذه الغاية تم تأسيس جهاز استخباراتي جديد من أجل محاصرة الفكر الشيوعي والتنظيمات الاشتراكية والدفاع عن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، هذا الجهاز الذي سيسمى "وكالة الاستخبارات الأمريكية" CIA، سيتسبب في العديد من المآسي والكوارث ومن مؤامرات والاغتيالات، وزعزعت أمن واستقرار دول وجعلها تعيش في دوامة من العنف والاستبداد والسلطوية المرفوقة بنهب مواردها الطبيعية من طرف الشركات الكبرى الأجنبية والفاسدين من النخب العسكرية والسياسية ورجال الاقتصاد المحليين.
أول ضحايا الماكينة الاستخباراتية الأمريكية التي كانت تحت إدارة آلان دالاس سنة 1950، هو رئيس جمهورية غواتيمالا جاكوبو أربينز الذي كان يسعى لتحقيق إصلاحات اقتصادية وزراعية، والتي كان أبرزها مصادرة الأراضي غير المزروعة التي كانت تمتلكها شركة الفواكه المتحدة، وشرعنة الحزب الشيوعي من خلال الإعتراف به من أجل إنجاح التجربة الديمقراطية الغواتيمالية التي كانت في بداياتها، لكن هذه الإصلاحات كانت تتحفظ عليها الإدارة الأمريكية، خصوصا مسألة الاعتراف بالحزب الشيوعي، حيث اعتبرت في ذلك خطر يهدد مصالحها وخطواتها التي انتهجتها خلال السنوات الأولى من الحرب الباردة، لذلك قررت واشنطن الإطاحة بالرئيس الغواتيمالي جاكوبو أربينز سنة 1954 ووأد التجربة الديمقراطية، وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد حافظت على مصالحها ولضمان ذلك ستدعم تنصيب ديكتاتور عسكري اسمه كارلوس كاستيلو الذي كان زعيم الانقلاب على أربينز، والذي سيحكم البلاد بقبضة من حديد.
نفس السيناريو سيتكرر في العديد من دول أمريكا اللاتينية وبطرق أبشع، فمن بين الدول التي تعرضت لانقلابات تقف وراءها وكالة الاستخبارات الأمريكية، نذكرعلى سبيل المثال لا الحصر كل من الإكوادور وبنما بالإضافة للشيلي.
ففي الإكوادور تعرض الرئيس الإكوادوري خايمي رولدوس للإغتيال عبر إسقاط طائرته واعتبار ذلك مجرد حادث، لكن اليد الخفية لتحقيق المصالح الأمريكية كانت وراء ذلك، فالرئيس رولدوس كان قد اتخذ قرار بفرض السيادة على موارد النفط في بلاده، وهو تصرف فيه تهديد للمصالح الأمريكية والشركات الأجنبية الكبرى.
نفس السيناريو سيتم تطبيقه على الرئيس البنمي عمر توريخوس، الذي كان يسعى لافتكاك سيطرة الإدارة الأمريكية على قناة بنما الملاحية، وهو ما سينجح في تحقيقه، حيث استعادت بنما سيادتها بعد الاتفاقية التي وقعها كل من توريخوس وكارتر، بعدها أراد الرئيس البنمي القيام بمشروعات تعود بالنفع على بلاده من أجل تطويرها والقيام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية، من بين هذه المشروعات هو تطوير الممر المائي (قناة بنما) من خلال التعاون مع اليابان، مبادرة توريخوس هاته رأت فيها الولايات المتحدة الأمريكية تهديد لمصالحها، لأن ذلك سيعزز أكثر من استقلالية بنما، لأنها لن تقع تحت عبء الديون، بالاضافة لذلك خسارة بلاد العم سام لمشروع كان سيضخ لها مليارات الدولارات، فبعد محاولات أمريكية عديدة سعت من خلالها لاستمالة توريخوس لها وحثه عن العدول عن مشروع تطوير القناة باءت كلها بالفشل، تم اغتيال رئيس بنما عمر توريخوس عبر تفجير طائرته في سيناريو مشابه لعملية اغتيال الرئيس الإكوادور خايمي رولدوس.
في الشيلي تعرض الرئيس سلفادور أليندي لانقلاب دموي انتهى باغتياله داخل القصر الرئاسي بعد استهدافه بطائرات حربية، كباقي الانقلابات والاغتيالات، الدافع كانت هي المصالح الأمريكية المهددة والنجاح الذي كانت تحققه الأحزاب الاشتراكية في المنطقة، فالشيلي تحت قيادة أليندي كانت ترى فيها الإدارة الأمريكية بمثابة كوبا ثانية في أمريكا اللاتينية، وهو الأمر الذي لم تكن تريده أن يتحقق مهما كان الثمن، فخلال عامين من توليه السلطة ورئاسة الشيلي قام سلفادور أليندي بتأميم الشركات الخاصة الكبرى في البلاد بما في ذلك التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، والقيام كذلك بإصلاحات زراعية لم ترق الملاك الكبار وكذلك المستثمرين من الطبقة البورجوازية، ما دفع بواشنطن للتخطيط مجددا للقيام بانقلاب آخر في المنطقة تفاديا لخطر يهدد مصالحها، وهو ما سيقع بالفعل سنة 1973 من خلال انقلاب عسكري تزعمه أوغستو بينوشيه.
وهناك انقلابات أخرى شهدتها أمريكا اللاتينية، كتلك التي وقعت في كل من الأوروغواي والأرجنتين والبرازيل والأرجنتين، الرابط الذي يجمع بين كل هذه الانقلابات هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت وراءها عبر وكالة المخابرات الأمريكية CIA التي تبلغ ميزانيتها اليوم حوالي 14 مليار دولار، هذه الانقلابات نتج عنها أنظمة شمولية حكمت بلدانها بالنار والحديد، فلم يتم الاكتفاء بنهب الثروات الطبيعية وسرقة أموالها، بل تم وأد تجاربها الديمقراطية الناشئة.
الولايات المتحدة الأمريكية لا تكثرت لا بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان، كل ما يهمها في هذا العالم هو تحقيق مصالحها الخاصة وتوسيعها.