المقاربة القانونية والحقوقية لقضايا الهجرة بين الثابت والمتغير
تعتبر الهجرة ظاهرة إنسانية قديمة جدا؛ فهناك دائماً ظروف تدعو إليها (اقتصادية، اجتماعية، أمنية، مناخية، سياسية..)؛ كما أن هناك بلدان تحتاج إلى المهاجرين وتستقطب الكفاءات (كندا، أوروبا…)، لكن أيضا هناك بلدان تعاني من الهجرة (المغرب مثلا..).
وتعد الهجرة النظامية مقننة، لكن الهجرة غير النظامية تشكل ظاهرة عالمية ترافقها أحياناً مخاوف من تنامي الإرهاب، والجريمة المنظمة، والاتجار في البشر، وبالأسلحة، وتجارة المخدرات.
ومن ثوابت الهجرة، هناك الالتزام بالقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، والطبيعة التاريخية للهجرة. وفي هذا السياق تعد جميع الدول في العالم معنية بهذه الأسس من مؤسسات أممية وإقليمية وقارية مختصة، ومنظمات غير حكومية متخصصة.
كما أن هناك أسباب تقليدية للهجرة (اجتماعية واقتصادية غالبا)، وكذا، أسباب مناخية؛ وأسباب سياسية، كما أن ارتباط الهجرة بالجريمة أحياناً، يقابله تصاعد التيارات اليمينية في عدد من الدول المتقدمة، بما يسسب ظاهرة العنصرية ومحاربة الهجرة والمهاجرين.
وتؤطر الهجرة قوانين تحدد القواعد والأُسس التي تنظم الهجرة الخاصة بالمواطنات والمواطنين، سواء خارج حدود الدولة أو للأجانب الداخلين إليها بغرض الإقامة. وقد نصّت المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "يحق لكل فرد أن يغادر أي بلاد بما في ذلك بلده، كما يحق له العودة إليه". وهناك العديد من المعاهدات الدولية التي تمنح الحماية القانونية للمهاجرين، وأبرزها: الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
كما أن اتفاقيات منظمة العمل الدولية التي تحمي الحقوق العمالية وحقوق العمال المهاجرين، والبروتوكولان الملحقان بالاتفاقية الدولية لمناهضة الجريمة الدولية العابرة للحدود، المتعلقان بالاتجار بالأشخاص وتهريبهم، وكذا، أحكام الاتفاقية بشأن الأشخاص الذين لا يحملون جنسية دولة ما لعام 1954، واتفاقية انعدام الجنسية لعام 1961، واتفاقية حقوق العمال المهاجرين وأسرهم لعام 1990، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2003، كلها عوامل محددة للهجرة وضوابطها القانونية.
ويعتبر المغرب من البلدان المنخرطة في كل الالتزامات والاتفاقيات المتعلقة بالهجرة، حيث شهد تعامل المغرب مع قضايا الهجرة تغيرات متتالية، بحسب طبيعة وحجم تدفقات الهجرة، ونظرا لتحول موقعه في خريطة اتجاهاتها، بانتقاله من بلد مُصدِّر إلى بلد للعبور والاستقرار لعدد كبير من الأجانب، وذلك في إطار "البدائل" التي شرع في تجريبها مع الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي جعل المسارات الجديدة للهجرة، تُرتِّب العديد من المخاطر بالتوازي مع ما تمنحه من فرص، في ظل تصاعد دوره في الحكامة الدولية للهجرة، برعايته للمؤتمر الوزاري الرابع للحوار الأورو إفريقي حول الهجرة والتنمية (مسلسل الرباط)، ومساهمته في بلورة الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، واحتضانه للمرصد الإفريقي للهجرة، وما رافق ذلك من صعوبة الموازنة بين اعتبارات المصلحة والاعتبارات الإنسانية في ضبط تدفقات المهاجرين نحو أوروبا.
وتشكل قضية الهجرة أولوية استراتيجية بالنسبة للمملكة المغربية، التي تولي، تحت قيادة الملك محمد السادس، اهتماما خاصا لهذا الموضوع، من خلال اعتماد سياسة إنسانية في فلسفتها، وشاملة في مضمونها، وعملية في نهجها، ومسؤولة في تطبيقها.
والواقع أن المغرب باشر منذ سنة 2014 سياسة هجرة استباقية وذات طابع انساني، ترجمت بإطلاق المرحلة الأولى لإدماج المهاجرين في وضعية غير قانونية، وفق معايير معقولة ومنصفة، من خلال توفير الظروف الملائمة لهم للإقامة والعمل والعيش الكريم داخل المجتمع، وهمت هذه العملية واسعة النطاق، التي حظيت بإشادة دولية عالية، قرابة 25 ألف شخص، وقدمت تسهيلات للمهاجرين من أجل الولوج إلى العلاجات والتكوين وسوق الشغل، فضلا على توفير دعم هام من أجل تمكين أكثر من 7 آلاف طفل من المهاجرين واللاجئين من التمدرس.
ودفع النجاح الباهر الذي حققته هذه الحملة والأثر الإيجابي الذي خلفته، المملكة إلى إطلاق المرحلة الثانية من عملية التسوية في دجنبر 2016 بتعليمات سامية من جلالة الملك، وهي مبادرة نبيلة تؤكد بالملموس وضع المغرب كأرض للاستقبال والتسامح والتقاسم، والتي مكنت بدورها من تسوية وضعية حوالي 25 ألف مهاجر إضافي. من جهة أخرى، تم إعداد الاستراتيجية الوطنية في مجال الهجرة واللجوء بتاريخ 18 دجنبر 2014، وفق مقاربة تشاركية، جرى فيها الانفتاح على التجارب الدولية اعتمادا على تشخيص لوضعية الهجرة؛ وهو الأمر الذي مكن من تحديد أربعة أهداف كبرى، تتجلى في تدبير تدفق المهاجرين في إطار احترام حقوق الإنسان؛ وإقامة إطار مؤسساتي ملائم؛ وتسهيل اندماج المهاجرين الشرعيين؛ وتأهيل الإطار القانوني.
كما أن القرب الجغرافي من أوروبا والاستقرار السياسي والاقتصادي، مُعطيات جعلت المغرب في صلب قضايا الهجرة واللجوء، دولياً وإقليمياً، ومواكبا لقضية الهجرة بتوجيهات سامية من الملك محمد السادس، من خلال استراتيجية وطنية شاملة، أثبتت نجاعتها في تدبير شؤون الهجرة واللجوء في البلاد، وسط إشادة دولية وعربية.
إن استراتيجية المغرب في مجال الهجرة تقوم على العديد من الأهداف الشاملة والمتكاملة، تنطلق من ضرورة احترام حقوق الإنسان خلال تدبير عمليات تدفق المهاجرين. كما ينعكس الموقع الجغرافي والاستقرار السياسي والاجتماعي، على جعل المغرب في صلب قضايا الهجرة واللجوء، دولياً وإقليمياً، ونجاح بلادنا في مواكبة قضية الهجرة بتوجيهات من الملك محمد السادس، عبر استراتيجية وطنية شاملة، أثبتت نجاعتها في تدبير شؤون الهجرة واللجوء، وسط إشادة دولية وعربية.
وتقوم مسارات الهجرة والمهاجرين على ثلاث عناصر أساسية تتلخص في الاستقرار المؤقت في انتظار الفرصة المناسبة وانتظار الدور للعبور إلى أوروبا؛ وكذا، الاستقرار النهائي والاندماج في النسق الاجتماعي المغربي، والعودة إلى بلدانهم الأصلية مستفيدين من الدعم المخصص لذلك. ولقد أصبحت الاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء، استراتيجية فريدة ومتميزة تقوم على المقاربة التشاركية لكافة الفاعلين والمهتمين بموضوع الهجرة، ونجحت في تحقيق إنجازات مهمة على المستوى الحقوقي، واستحضار دور الدولة في تنزيل هذه الاستراتيجية، وذلك من خلال تعزيز الإطار القانوني الكفيل بتمتيع المهاجرين واللاجئين بحقوقهم الأساسية عبر تعزيز الإطار التنظيمي وإحداث إطار مؤسساتي مناسب.
لذلك فإن هناك اليوم، حاجة إلى إعادة النظر في الإطار التشريعي المرتبط بالهجرة واللجوء، يقوم على ثلاثة عوامل رئيسية، تتمثل في عدم ملاءمة واستجابة القوانين الوطنية لكافة التحديات والمستجدات، وضرورة تبني روح سياسة للهجرة تقوم على عدم التمييز بين المواطنين المغاربة والأجانب في التمتع بالحقوق، فضلا عن رهانات المغرب في تعزيز ترافعه واهتمامه بموضوع الهجرة، سواء لدى الهيئات الأممية أو الدولية أو الإقليمية.
وخلاصة القول، فقد أصبح ملفتا للانتباه على الصعيد الإقليمي، أن بلادنا باتت تتحمل عبئا يزداد ثقلا يوما بعد يوم، من جراء استفحال ظاهرة الهجرة غير النظامية، وصارت بلادنا تشكل بالنسبة للمهاجرين السريين، وخاصة المنحدرين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، بلدا للعبور وللاستقبال في آن واحد.• وهذا الأمر، يطرح علينا ضرورة مواصلة التعامل مع القضية بمقاربة إنسانية، دون أن ينفي ذلك وجوب استحضار الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي يتعين على شركاء المغرب، وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي، تقاسم تحملاتها.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :