رغم لقاء بوريطة بوزير الخارجية الفرنسي.. بين الرباط وباريس مازال هناك "سُوء فهم كبير" في القضايا الخلافية الكبرى
"إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات.. ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل". بهذه العبارات الصريحة والمُباشرة وضع الملك محمد السادس وهو يوجه خطاباً إلى شعبه بمناسبة ذكرى "ثورة الملك والشعب" في غشت 2022، أمام فرنسا الشريك الاستراتيجي التقليدي خريطة طريق جديدة لعلاقة الرباط بباريس، محورها الخروج من "منطقة الراحة" والجهر بدعمها الصريح لمغربية الصحراء بعد عقود من دعمها لخطة الحكم الذاتي كمبادرة مغربية لحل قضية الصحراء.
انتشاء أمل استعادة دفء العلاقات
طيلة شهور ماضية، حاولت باريس تدارك "سوء الفهم" مع الرباط وإصلاح ما يُمكن إصلاحه لطي صفحة أزمة عمّرت طويلا، واستعادة مكانها، وما تعتبره هي "هيبة" المستعمر القديم، سيّما وأنها تعيش بشكل عام على وقع علاقات متشنجة مع عدد من مستعمراتها السابقة في إفريقيا بعدما تضرّرت علاقتها تماماً مع النيجر عقب الانقلاب الأخير الذي وصل حد اعتبار باريس أن سفيرها في النيجر بات محتجزا لدى الانقلابين، فيما الوضع ليس وردياً كذلك مع مالي وبوركينا فاسو اللتين صعدتا كذلك ضدها، بينما في شمال إفريقيا، الوضع يتراوح بين مدٍ وجزر مع تونس، أما مع الجزائر، فقدر هذه العلاقة الثنائية ألا تهدأ ولا أن تبلغ برّ مأمن.
ومع كل هذه الصدامات الفرنسية في القارة، حاولت الدبلوماسية الفرنسية منذ مطلع السنة الجارية، إخراج علاقتها مع الرباط من الأزمة وإعادة الروح لخط الرباط باريس "الدافئ" من خلال إشهار استعدادها لمد جسور الثقة، وهو ما يفسّر إعلان ستيفان سيجورنيه، الذي تولى حقيبة الدبلوماسية الفرنسية في الـ11 من يناير الماضي، ويعد من الدائرة المقربة من الرئيس إيمانويل ماكرون، أنه قد تم تكليفه "شخصيا" من قبل الرئيس الفرنسي للعمل من أجل تحقيق هذا التقارب المرجو، مع أنه ومن غرائب الصدف التي لا يمكن أن تحدث في الدبلوماسية، هو نفسه متزعم مجموعة "تجديد أوروبا" التي قادت تصويت البرلمان الأوروبي في يناير 2023على إدانة تدهور حرية الصحافة في المغرب، ما أثار غضب وغيظ الرباط بقوة.
وتعهّد الوزير الشاب خلال جلسة استماع في البرلمان الفرنسي، قبل أسابيع قليلة، أنه يواصل العمل على التقريب بين باريس والرباط، للخروج من الجمود الذي طغى على العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة، مشدّدا على أن العلاقة بين البلدية "أساسية"، وأنه يرغب في تجديد أواصر الثقة، وتجاوز ما وصفه بـ "سوء الفهم الذي أدى إلى صعوبة في التفاهم".
ثلاث سنوات من العزلة الفرنسية وزيارة بلا معنى
سيجورني، وهو نفسه الوزير الذي زار المغرب أمس الإثنين، لبحث سبل طي الأزمة التي أطفأت شمعتها الثالثة، مع نظيره المغربي ناصر بوريطة، لم يستطع الحفاظ على ذات الحماس والتوق لتطبيع العلاقات، أو على الأقل هذا ما فضحته ملامحه ونظيره المغربي عقب الندوة التي ترأساها بحضور الصحافة ولم يستطيعا على أية حال إخفاء واقع أن لا جديد على ضوء شمس العلاقات المغربية- الفرنسية إلا مزيدا من الغموض والارتباك.
وبدت العقيدة الدبلوماسية الجديدة للمغرب وحدّة مصطلحاته، واضحة في صرامة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، وهو يُظهر نديته مع شركائه على المستوى الدولي، حتى مع إعلان نظيره تجديد دعم باريس مبادرة الحكم الذاتي للمغرب على صحرائه، وأن الرباط يسعها أن تعوّل على باريس، حيث أكد وزير الخارجية المغربي على أن المغرب يبحث عن علاقة "دولة بدولة"، وعن مزيد من التنسيق والاحترام المتبادل.
وعلى الرغم، من تأكيد سيجورني، أنه واع بأن ملف الصحراء ذو أهمية قصوى بالنسبة للمغرب والمغاربة، إلا أنه اكتفى بعرض على ضرورة تثمين إحراز تقدم في هذا الملف واعتماد "البراغماتية" من خلال تسريع مسار التنمية في الأقاليم الصحراوية.
أما بوريطة، فكان يُركز أكثر على الثقة بين البلدين، فرغم حديثه عن الطابع "الخاص والمتفرد" للعلاقات المغربية الفرنسية، وعلى "امتداداتها التاريخية"، فإنه تطرق أيضا إلى ضرورة "تجديدها" بناء على مجموعة من المبادئ، وفي مقدمتها "التنسيق والاحترام المتبادل"، مشددا على أن المغرب "الفاعل الرئيسي في المنطقة المغاربية والقارة الإفريقية والبحر الأبيض المتوسط" يبحث عن "علاقة دولة بدولة".
وطيلة العقود الماضية، ظلت فرنسا في موقف رمادي من قضية الصحراء المغربية وإن كانت داعمة بشكل رئيسي للمغرب في المحافل الدولية -سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو في مجلس الأمن- في القرارات والمواقف ذات الصلة بموضوع الصحراء، وهذا يمتد إلى اللحظة الراهنة، إذ صوتت فرنسا و12 عضوا بمجلس الأمن لصالح قرار يخدم الموقف المغربي نسبيا في قضية الصحراء مقابل امتناع كل من روسيا وكينيا، وهذا الموقف يقضي تمديد عمل بعثة المينورسو لعام واحد، مما يعني أن باريس أبقت على ذات الموقف في أوج أزمتها مع الرباط لأسباب متشعبة، في مقدمتها اتهام صحف فرنسية الرباط بالتجسس على المسؤولين الفرنسيين بمن فيهم الرئيس ماكرون، فيما يعرف بفضيحة برنامج بيغاسوس الشهير، والقيود المفروضة على منح تأشيرات للمغاربة، كما ظلت الرباط لأزيد من سنة دون سفير لها لدى باريس.
وأضيفت إلى هذه الأزمات، أزمة أخرى أشعلها الإعلام الفرنسي حين اتهم المغرب "برفض المساعدات الفرنسية" بعد "زلزال الحوز"، بينما الرباط قبلت مساعدات أربع دول فقط هي إسبانيا وبريطانيا وقطر والإمارات.
وقبل تولي ستيفان سيجورنيه حقيبة الخارجية، حاولت باريس تجديد الحوار مع الرباط التي زارتها رئيسة الدبلوماسية الفرنسية السابقة كاترين كولونا، حيث أعلنت من هناك عن انتهاء السياسة الفرنسية المتمثلة في تقييد التأشيرات الممنوحة للمواطنين المغاربة.
تمهيد في الكواليس لحل الخلاف
في الأشهر القليلة الماضية، تحدثت تقارير إعلامية في البلدين، عن مؤشرات توحي بعودة الدفء إلى العلاقات بين الرباط وباريس، بما فيها تعيين سفيرة مغربية جديدة في فرنسا، في شهر أكتوبر الماضي، بعد أشهر من الشغور في هذا المنصب الدبلوماسي المهم، وفي نفس الشهر استقبل العاهل المغربي محمد السادس السفير الفرنسي الجديد لدى الرباط، كريستوف ليكورتييه، لتقديم أوراق اعتماده بعد نحو عام من الانتظار.
واستقبلت زوجة الرئيس الفرنسي بريجيت ماكرون، قبل أسبوع في قصر الإليزيه، شقيقات الملك محمد السادس الأميرات مريم وأسماء وحسناء، كما تحدثت الرئاسة الفرنسية عن "استمرار لعلاقات الصداقة التاريخية بين فرنسا والمغرب".
في هذا السياق، يرى تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس، أن فرنسا اليوم وإن كانت قد أشارت إلى المبعوث الشخصي للأمين العام وإلى إمكانية اتخاذ قرارات داخلية بمجلس الأمن تصب في مصلحة المملكة وتأكيدها تأييد هذا المسار والمفاوضات والموائد المستديرة كما جاء في تصريحات الوزير الفرنسي، إلا أن دعم الاقتراح الذاتي لن يكون كافيا لتأكيد الموقف الفرنسي، بحكم أن لباريس وضع خاص باعتبارها ليست ككافة الدول التي ليست لها علاقة بالموضوع، فهي "تملك كل الوثائق التي تدبر قضية الصحراء منذ استعمارها من طرف إسبانيا إلى حين استردادها من طرف المغرب".
الحسيني، وفي تصريح خص به "الصحيفة"، شدّد على أن لفرنسا وإسبانيا دور مهم في هذه العملية، وذلك في إطار تقسيم مناطق النفوذ المرتبطة باختيارات الدولتين خلال فترة الاستعمار، "وبالتالي فإن باريس هي التي بإمكانها أن تصرح أمام الجميع بأن المغرب محق في استرجاع صحرائه وبأنها جزء لا يتجزأ من التراب المغربي".
اعتراف ضمني؟
ولفت المحلل السياسي والخبير في العلاقات الدولية، من جهة ثانية إلى أنه ممكن اعتبار ما ذهب إليه الوزير الفرنسي يتناغم وشروع باريس فعلا في تثبيت جملة من البرامج الثقافية في كل من الداخلة والعيون بإدارة تلك المراكز ومتابعتها، إلى جانب تعاونها مع المغرب في ما يتعلق بالطاقات النظيفة في منطقة الصحراء، مضيفا: "أعتقد أن مثل هذا النوع من التصريحات التي قدّمها الوزير الفرنسي هي اعتراف ضمني بالسيادة المغربية على الصحراء عل اعتبار أن الاعتراف كما هو متعارف عليه في القانون الدولي نوعين الأول كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية أي تصريح وزير الخارجية أو رئيس الدولية بكيفية رسمية بالاعتراف، أو ممارسة بعض النشاطات التي تؤكد وجود اعتراف ضمني.
وتابع الحسيني بالقول:" أظن بأن القيام بنشاطات ثقافية واسعة في الأقاليم المسترجعة والقيام بأنشطة اقتصادية من خلال استثمارات باسم الدولة وليس الشركات في القطاع الخاص على اعتبار أن المركز الثقافي تابع للدولة فإن هذا يشكل اعترافا ضمنيا فعليا بالسيادة، وقد اتفق معي بهذا الخصوص باحث فرنسي كان معي على الخط رآه هو الآخر اعتراف ضمني على أمل أن يليه اعتراف صريح".
هل يفك ماكرون عقدة الاعتراف بمغربية الصحراء؟
يرجح الحسيني أن يأتي الاعتراف الصريح على لسان الرئيس ماكرون في زيارته للمغرب، بعدما سبق وطلب تحديد موعد لهذه الزيارة، لكن تبين أن المغرب لم يكن راضيا بأي زيارة من هذا المستوى لأن فرنسا دخلت حينها منطقة رمادية تبين من خلالها أنها تبحث تحالفات أخرى مع الجزائر".
وخلافا للسابق، رفع الحسيني من احتمالية تحديد موعد لهذه الزيارة المرتقبة، سيما وأن الملف الجزائري الفرنسي يشوبه اختلالات، بعدما عبر قصر المرادية عن عدم رضاه على طريقة إدارة فرنسا لمسألة الذاكرة الجزائرية إبان الاستعمار، ولا قضية الهجرة والتأشيرات وغيرها من القضايا المتعددة.
ويفسر الخبير في العلاقات الدولية أسباب انعطاف فرنسا صوب المغرب في هذه الظرفية، لكون هذه الأخيرة تبحث عن شخص أكثر موثوقية في القارة الأفريقية ولدى الشركاء المرتبطين بها، وتجد اليوم هذا الدور في المغرب، سيما وأن "وزير الخارجية عبر قائلا إن الرئيس الفرنسي هو الذي رغب بأن يقوم بهذه الزيارة وأن يؤكد للمغاربة أنه معهم ومتضامن مع المغرب في قضيته الوطنية".
بالمقابل، لاحظ الحسيني أن الوزير الفرنسي في تصريحه قال بأننا ندرك جيدا الأهمية الوجدانية لقضية الصحراء بالنسبة للشعب المغربي وأننا مستعدون لدعم مقترح الحكم الذاتي، فهذه الخطوة الأولى ولو أنها ما تزال بطيئة لكن الخطوات نحو الاعتراف الحقيقي وخطوات أكثر جدية نحو دعم لا مشروط للمغرب داخل مجلس الأمن في ما يتعلق بمقترح الحكم الذاتي وإلا لو تراجعت فرنسا عن مثل هذه العهود فما هو معني زيارات الوزراء الفرنسيين المقبلين إلى المغرب في المستقبل القريب لتدارس القضايا التي تهم الثقافة والطاقات النظيفة والمتجددة ومسائل المناخ.
وخلص المتحدث، في تصريحه لـ "الصحيفة"، إلى وجود انعطاف في الدور الفرنسي في موضوع الصحراء المغربية، لافتا إلى أن ماكرون كان قد أسر لبعض المقربين منه بأنه لا يرغب في أن تنتهي ولايته قبل أن يعود إلى تسوية العلاقات مع المغرب بشكل نهائي.
توقعات المغرب العالية معلّقة
وخلافا لتحليل تاج الدين الحسيني لمستجدات العلاقات المغربية الفرنسية، يُسلم الخبير في العلاقات الدولية حسن بلوان، بأن المؤشرات المشجعة على عودة العلاقات الثنائية بعد استنفاد ما وصفها بـ "السياسة الخارجية الماكرونية جميع أوراقها دون تحقيق نتائج ايجابية في الفضاء الإقليمي والقاري تتوالى إلا أنها لا تتناغم وتوقعات المغرب في هذه الفترة.
بلوان، وفي تصريح لـ "الصحيفة"، نبّه إلى أنه مهما كانت طبيعة التصريحات الروتينية التي تلت هذه الزيارة، إلا أنها لا تخفي رغبة فرنسية على أعلى المستويات بضرورة تصحيح مسار العلاقات مع المملكة المغربية التي شابها التخبط والعشوائية في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، مما أثر على المصالح الفرنسية ليس فقط على المستوى المغاربي والإقليمي ولكن على مستوى العمق الافريقي أيضا.
ويرى الأستاذ الجامعي والباحث في العلاقات الدولية، أن فرنسا تبنت مواقف متوازنة دائما في القضية الوطنية خاصة على مستوى مجلس الأمن، ورغم أن وزير الخارجية الفرنسي أكد فقط تجديد فرنسا دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية إلا أن المغرب يتوقع من فرنسا أن تتخذ موقفا قويا في الملف على غرار المواقف المتقدمة للولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واسبانيا وباقي الدول الأوربية، على اعتبار أن قضية الصحراء هي النظارة التي تنظر بها المملكة المغربية لعلاقاتها مع العالم الخارجي، كما جاء في الخطاب الملكي.
حركة دبلوماسية واضحة
على العموم، يرى بلوان أن أمام ارتفاع وتيرة التصريحات الفرنسية المطمئنة اتجاه المغرب ستفتح زيارة وزير الخارجية الفرنسي اليوم عهدا جديدا في تبادل الزيارات الرسمية بين البلدين التي غابت او انقطعت لقرابة السنتين، كما تشكل هذه الزيارة مؤشرا حقيقيا لخروج العلاقات بين البلدين من منطقة الجمود، مضيفا: "وبالتالي اعتقد أن عودة العلاقات بينهما لسابق عهدها دخلت منعطفا حاسما رغم أن مخرجات اللقاء بين بوريطة وسيجوريه لم تكن في حجم التوقعات، لكن من المؤكد أن هناك حركية دبلوماسية تحضر للقاء القمة بين الملك محمد السادس والرئيس ايمانويل ماكرون وفق ٱليات جديدة وقواعد اشتغال مبتكرة تراعي التطور الناعم الذي تشكله المملكة إقليميا وقاريا، ويحفظ في نفس الوقت المصالح المشتركة بين البلدين داخل القارة الافريقية".
وشدّد المتحدث، على أنه بالموازاة مع ذلك فالمغرب لا يمكن أن يتنازل عن موقف واضح وقوي لقصر الاليزيه داعم لقضية الصحراء المغربية، مما سيشكل مفتاحا أساسيا لطي صفحة الخلاف بين البلدين من جهة ويفتح الباب ايضا لتنسيق الرؤى والمواقف حول مجموعة من القضايا الدولية والقارية ذات الاهتمام المشترك.