جهالة بنكيران وجهله
يبدو أن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، لم يستوعب الدروس ولم يدرك أن التاريخ لا يعيد نفسه. لهذا يتمادى في غيّه وعنجهيته في محاولة بئيسة لترهيب خصومه الذين عجز عن مواجهتهم سياسيا ودحرهم انتخابيا؛ إذ كان حزبه، وبكل ترسانته المالية والإعلامية والإيديولوجية، الخاسر الأكبر في انتخابات 8 شتنبر. لقد جاءت تلك النتائج مؤكدة تخلّص الناخبين من حزب تاجَر بالدين ونصَب على فئات واسعة من المواطنين باسم النزاهة والاستقامة ومحاربة الفساد والاستبداد. فكانت كل المؤشرات تصنف المغرب في أسوأ المراتب على مستوى التنمية، الصحة، الشفافية، الرشوة، التعليم نتيجة للفشل الذريع للحزب في إدارة الشأن العام.
حبل الكذب قصير.
دأب قادة الحزب على استعمال الكذب وسيلة لمواجهة الخصوم السياسيين. فعلوها عند صدور مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، وها هم يفعلونها اليوم لمواجهة المطالب النسائية والحزبية بمدونة أسرة عصرية منسجمة مع الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب. ولأن قيادة حزب العدالة والتنمية تفتقر إلى البرهان والحجة لتبرير مناهضتها للمطالب النسائية والحزبية، فقد لجأت إلى الكذب والقذف في حق الخصوم. وحسبنا، في هذا المقال، التركيز على ما فاه به بنكيران من أكاذيب خلال المهرجان الوطني حول إصلاح مدونة الأسرة، الذي نظمه الحزب يوم الأحد 03 مارس 2024 بمدينة الدار البيضاء. ومن تلك الأكاذيب:
تجريم تزويج الطفلات في المدونة: كيف لمن كان رئيس الحكومة ألا يميز بين مدونة الأسرة وبين القانون الجنائي؟ فالتجريم والعقاب من اختصاص القانون الجنائي وليس مدونة الأسرة. لكن بنكيران اختار الكذب على أتباعه وعموم المواطنين بهدف التجييش ضد المطالب النسائية العادلة والمشروعة، وحجز عملية التغيير التي ستخضع لها مدونة الأسرة انسجاما مع التزامات المغرب بالقضاء على كل أشكال العنف والتمييز ضد النساء. من هنا لم يمنعه الوازع الديني ولا الوازع الأخلاقي عن الكذب والافتراء بـ "أن الذين ينادون بتجريم تزويج الطفلات، لا يريدون من القاضي أن يكون هو الحكم في مثل هذه القضايا التي هي قليلة أصلا، بل يطالبون بالتجريم التام بدعوى حماية حقوق الطفلات وضمان تمدرسهن". ومعلوم أن المادة 20 من مدونة الأسرة تنص على أنه لقاضي الأسرة المكلف بالزواج أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية (18 عاما)، مع تبيان المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي، والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي. إن مدونة الأسرة ليس من اختصاصها التجريم والعقاب. لهذا شددت الجمعيات النسائية والأحزاب، في مقترحاتها المتعلقة بالمدونة، على منع تزويج الطفلات القاصرات. ومن ثم فما قاله بنكيران هو كذب وبهتاف.
تشريع العلاقات الرضائية: من افتراءات بنكيران على خصومه تضمينهم المذكرات الاقتراحية فيما يتعلق بالمدونة، تشريع العلاقات الرضائية. طبعا لم يخجل بنكيران وهو يفتري على خصومه، فهذه ليست المرة الأولى التي تعمّد فيها استعمال الكذب والافتراء كسلاح لمواجهة الخصوم. ولعلم بنكيران أن مشروع القانون الجنائية لم تتم مناقشته بعد، وليس من اختصاص اللجنة الملكية لتعديل مدونة الأسرة مناقشة أو تعديل القانون الجنائي.
زواج المثليين: من أكاذيب بنكيران على خصومه اتهامه إياهم بالمطالبة بالسماح لزواج المثليين وهو يعلم ألا طرف سياسي مغربي تقدم بمثل هذا الطلب أو اقترحه؛ وإنما تعمّد الكذب لتهييج الرأي العام واستعدائه ضد الخصوم تمهيدا "للمسيرة المليونية" التي يهدد بها معتقدا أنه سيرهب الدولة ويفرض توجهه وقناعاته المعادية للنساء على اللجنة المكلفة بتعديل المدونة. أنى لك هذا !!
نسبة تزويج القاصرات: من المغالطات التي روّج لها بنكيران قوله إن "هذه القضايا هي قليلة أصلا". وهذا دليل آخر على استحلاله الكذب، من جهة، ومن أخرى على جهله بالواقع المغربي الذي عرف ويعرف اتساع ظاهرة تزويج القاصرات وارتفاع نسبها. فقد سبق لوزير العدل، السيدعبد اللطيف وهبي، أن قدم معطيات تفيد بأنه “في عام 2017 تم تسجيل 26 ألف حالة زواج قاصر، وانخفض العدد سنة 2020 إلى 12 ألف حالة، وفي سنة 2021 ارتفع إلى 19 ألفا". أما الدراسة التشخيصية المنجزة من طرف رئاسة النيابة العامة سنة 2021، فقد أكدت أن نسبة زواج القاصر مقارنة بمجموع رسوم الزواج منذ سنة 2004 إلى سنة 2019 تراوحت بين 99.11 في المائة كأعلى نسبة من المجموع العام لرسوم الزواج و53.7 في المائة كأقل نسبة. نحن، إذن، أمام عشرات الآلاف من الطفلات اللائي يتم تعريضهن للاغتصاب والتعذيب والقهر والاستغلال الجنسي، بينما المفروض أن يكنّ في الأقسام الدراسية أو مراكز التكوين المهني. وردّا على بهتان بنكيران من كون هذا النوع من الزواج يكون في معظمه بين القاصرين ذكورا وإناثا، نقدم نتائج الدراسة التشخيصية لرئاسة النيابة العامة التي بينت أن المعدل العام لنسبة الذكور المعنيين بهذا الزواج برسم 13 سنة (2007-2019) شكل ما نسبته 0,67 في المائة؛ في حين شكلت نسبة الإناث 99,33 في المائة بهذا الخصوص، إذ لم يتجاوز الرقم 0,21 بالمقارنة مع نسبة الإناث التي سجلت ما نسبته 99,79 في المائة، حيث شكل عدد الذكور 92 في المائة؛ فيما بلغ عدد الإناث 43 ألفا و416. ومعنى هذا أن نسبة الذكور الراغبين في الزواج من طفلات قاصرات تتجاوز 99 في المائة.
جبْنَا لقْرَع يْوَنّسْنا ،عرّا راسو وهوّسنا .
يؤكد بنكيران أن حزبه مناهض لحقوق النساء ومعادي للجمعيات النسائية المطالِبة بالمساواة والمناصفة وإلغاء كل القوانين المكرسة للعنف والتمييز القائم على النوع. لم تكن الحياة السياسية ولا الاجتماعية بحاجة إلى خلق أحزاب الإسلام السياسي. فالتطور الطبيعي للمجتمعات الإنسانية يفرز أحزابا ومنظمات تنخرط في حركية المجتمعات وتقود تطورها؛ ومتى ظهر تنظيم شاذ سرعان من تلفظه المجتمعات. إن تنظيمات الإسلام السياسي خلقتها ظروف الحرب الباردة وصراع الإيديولوجيات لا لتجيب عن حاجة اجتماعية بقدر ما تخدم مصالح القوى الدولية المتصارعة من أجل الهيمنة على العالم الثالث وضمنه الشعوب العربية/الإسلامية. منذ بداياتها الأولى كانت تنظيمات الإسلام السياسي ضد الحريات وحقوق الإنسان وقيم التعايش والحوار والاختلاف. لهذا لن تنسلخ عن جذور تأسيسها والأهداف المرسومة لها، وستظل تناهض التغيير والتطور. فأينما تغوّل الإسلاميون إلا وحل الخراب.
ولا يشذ حزب العدالة والتنمية عن بقية تنظيمات الإسلام السياسي في النشأة والممارسة والأهداف. وليس أمام المجتمع المغربي سوى التصدي لكل من يعرقل حركة التغيير والتحديث والتقدم التي تتوقف على إشراك كل أفراد المجتمع، إناثا وذكورا، في صناعة المستقبل وبناء مغرب الغد.
شكون داها فيك ألمكحلة بالليل.
كلما يئس بنكيران من بلوغ مراميه السياسوية إلا ونصّب نفسه "حاميا للدين" ووصيا على الشعب متجاوزا مؤسسات الدولة وثوابت الشعب المغربي. لم يدرك بعدُ، أن المغاربة نفضوا أيديهم من حزب العدالة والتنمية بعدما اكتشفوا تناقض الأقوال والأفعال واكتووا بنار القرارات الجائرة التي اتخذها بنكيران وكرّسها العثماني ضد قُوتِهم اليومي. لقد فقد المغاربة كل ثقة في البيجيدي وفي وعوده الكاذبة وشعاراته الخدّاعة. وعلى مر تاريخ الدولة المغربية، ظل الشعب متمسكا بالسلطة الروحية للسلطان التي تجسدها إمارة المؤمنين والتي أوكل إليها مسؤولية حماية الملة والدين وضمان وحدة الشعب المغربي وحماية أمنه الروحي. لهذا لن يلتفت الشعب ولا النظام للتهديدات الجوفاء التي يطلقها بنكيران بتنظيم مسيرة "مليونية" لتكريس ظلم النساء وأكل أموالهن بالباطل ومصادرة حقهن في المساواة والمناصفة.
لا نحتاج لتذكير بنكيران أن للمغرب مؤسساته الدينية التي يَحتكم إليها في القضايا الخلافية، وما تهديداته سوى صيحة في وادي. من هنا لن يلتفت المغاربة لوعيد بنكيران ولن يتخذوه مرجعا دينيا يبين لهم أمور دينهم. يكفي أنه أتى من الأفعال واتخذ من القرارات ما يتنافى مع الشرع الإسلامي، بل يأكل السحت جهارا نهارا.
بنكيران ينعت أئمة المذاهب بـ"المجرمين".
كان على بنكيران أن يستحيي من نفسه ومن الأئمة والفقهاء وهو يصف من يطالبون بتقنين الإجهاض عبر السماح به داخل الأربعة أشهر الأولى من الحمل، "بالمجرمين". هل يعلم أن المذاهب الفقهية تُجمِع على أن الجنين ما لم يتخلّق فإنه ليس بآدمي، وإذا لم يكن كذلك فلا حُرمة له ومن ثم يجوز إسقاطه. قال المرداوي رحمه الله في “الإنصاف” (1/386):” يجوز شرب دواء لإسقاط نطفة. وفي مذهب الحنفية: يباح الإسقاط بعد الحمل، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوماً؛ لأنه ليس بآدمي. وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق: نفخ الروح. ومن الأعذار التي أجاز بها الأحناف الإسقاط: أن ينقطع لبَنُ الأم بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه.
قال النووي: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ”وقال ابن حجر: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر” وروى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة”. فقوله صلى الله عليه وسلم: “ثم ينفخ فيه الروح” جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً. وجواز الإسقاط قبل نفخ الروح، هو قول الحنفية والشافعية والحنابلة وجزء من المالكية.