إهانة موسمية

 إهانة موسمية
الصحيفة - افتتاحية
الأثنين 18 مارس 2024 - 15:39

المغرب ليس بلدا خاليًا من الأعطاب، ومن يدعي ذلك فهو ليس مُخطئا فحسب، بل يساهم، من حيث لا يدري في تأخر عملية الإصلاح، وبالتالي يضر البلد أكثر مما ينفعه، ولا مجال هنا للحديث عن النوايا الحسنة، لأننا نعلم جميعا أنها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى الجحيم.

أعطابنا مُشكلة، لكن يجب ألا تكون عارا، العار الحقيقي هو محاولة طمسها أو تجاهلها، والمؤكد أن أحدها، أو ربما أبرزها، البون الشاسع بين تنمية الحجر وتنمية البشر، وهي خطيئة استمرت لعقود ولم تنتبه لها مؤسسات الدولة إلا متأخرة، ولا زالت البرامج التي تطمح لتدارك ما فات تفتقر للكثير من النجاعة والكثير من الإبداع.

الفقر الذي يعاني منه الكثير المغاربة في المدن الكبرى لا يقارن بالفقر المدقع الذي يعيش فيه إخوانهم في الوطن في المدن الصغرى المهمشة وفي البوادي النائية، لذلك يرى هؤلاء في أي مناسبة لتحسين وضعهم المادي فرصة للانعتاق، ولو مؤقتا، من واقع مرير لا تبدو فرص النجاة منه وفيرة، والدولة واجبها أن توفر لهؤلاء الناس تلك السبل، لكنها مطالبة أيضا بأن توفر لهم الكرامة مع لقمة العيش.

مناسبة هذا الحديث، هو الخرجة الفولكلورية الأخيرة لوزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات يونس السكوري، وهو يودع، في ميناء طنجة المدينة، "دفعة أولى" من العاملات الموسميات في حقول الفواكه الحمراء في الجنوب الإسباني، في مشهد أراد له الوزير أن يحظى بأوسع تغطية إعلامية ممكنة، وكأن الأمر إنجاز خارق.

نعم، من حق تلك السيدات البحث عن لقمة عيش في بلاد الغربة، وهن اللواتي يظهر الشقاء على ملامحهن، في محطة الإركاب استعدادا للمغادرة نحو الديار الإسبانية، لكسب بعض المال ومعه بعض الأمل في أن يَبنين لأنفسهن وأسرهن حياة أفضل.

لكن تلك النسوة لا يذهبن للعمل في المكاتب المكيفة، ولا للإقامة في الهيلتون أو الشيراتون… إنهن متوجهات إلى حقول الفراولة في "ويلبا" حيث يُمضين الساعات الطوال مقوسات الظهر، ويحمل الصناديق الثقيلة، ويقطن في غرف ضيقة مُتقادمة… في نهاية المطاف إنهن يقمن بعمل "تتأفف" الإسبانيات من القيام به، صابرات على وضع لم يخترنه بإرادتهن، يقاومن الإرهاق والضغط وأحيانا وحشية وعنصرية، بل وهمجية بعض مشغليهن.

ظهور الوزير ضاحكا وهو يُسوق "إنجازه" المتمثل في بعث 16 ألف امرأة إلى الضفة الأخرى من المتوسط للعمل في حقول الأجناب، بينما يخوض الإسبان حربا مُعلنة غير أخلاقية على الفواكه الحمراء المغربية، وبينما ينتظر الكثير من الجزائريين الذين غسل نظام تبون – شنقريحة أدمغتهم، أي فرصة للنيل من كرامة المغاربة وشرف المغربيات، ليس أمرا ذكيا على الإطلاق.

ربما لا يعلم السكوري ما هي "ويلبا" وربما يجهل كيف يختار الإسبانُ النساءَ، تحديدا، دون الرجال منذ أكثر من عقدين من الزمن، للتوجه إلى "المجهول"… ربما عليه أن يحضر في إحدى تلك الحقول ويرى ما تعانيه العاملات الموسميات هناك من "تكرفيص"، وقبل ذلك عليه أن يسأل من سبقوه كيف أن المزارعين الأندلسيين يصرون على اختيار النساء ذوات الأيدي الخشنة والمتحدرات من أشد المناطق بؤسا في المغرب.

نفهم أن السكوري يريد أن يُروج لبعض "إنجازاته" كوزير مكلف بقطاع التشغيل، مع اقتراب التعديل الحكومي، وهو الذي لم يستوعب كيف قدمه رئيس الحكومة عزيز أخنوش كبش فداء في التعامل مع الأرقام الكارثية التي كشفت عنها المندوبية السامية بخصوص التشغيل في عهد الحكومة الحالية.

لكن قبل أن ينادي على كاميرات القنوات التلفزيونية العمومية لتصوير "إنجازه" وبثه إلى العالم، ليتخيل ولو قليلا أمه أو شقيقته هناك، بين النساء اللواتي ينتظرن دورهن لركوب العبارة صوب طريفة قبل التوجه إلى حقول الفراولة، هل كان سيعتبر هذا الأمر إنجازا؟.

نحن هنا لا نُزايد، لأننا نعرف الواقع وما فيه، ولا نقول إنه يجب منع تلك النساء من الذهاب للعمل في ظل عجز الحكومة عن توفير بدائل المناسب لهن ولأزواجهن وأبنائهن، لكن، على الأقل، ليكن ذلك دون بهرجة، ولنحفظ لهن كرامتهن.. وكرامة وطنهن.

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

 الجزائر.. وأزمة هُوية سَحيقة

انحدر النظام الجزائري إلى حفرة عميقة من التاريخ للبحث عن هوية مفقودة، يبني بها شرعيته كنظام قتل 250 ألف جزائري في العشرية السوداء (2002-1991). وهو ذات النظام الذي يبحث، أيضا، ...

استطلاع رأي

كمغربي أو مقيم في المغرب، هل تشعر أن ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم أثرت على:

Loading...