في جدليات الحركة الشيوعية
مقدمة كتاب "خطى الشيوعيين"
نشرت هذه المقدمة في كتاب الدكتور علاء الحطاب الموسوم "خطى الشيوعيين "، الصادر عن دار دجلة الأكاديمية ودار المرهج، في بغداد، 2024.
حسنًا فعل الدكتور علاء الحطاب، المختص بالعلوم السياسية، والوجه الإعلامي المعروف، الذي أدار حوارات سياسية وفكرية مع العديد من النخب، حين قرّر إصدار عددًا من مقابلاته المهمة عن التاريخ السياسي العراقي المعاصر في كتب، بدأها بكتابه الموسوم "خطى الشيوعيين"، وهو ما كنت اقترحته عليه، بعد أن شاهدت بعض حلقاته التلفزيونية في محطة "العراقية الفضائية"، وتسجيل مقابلة مطولة معي في بغداد، بُثّت على 6 حلقات في العام 2018.
الذاكرة الشفوية
إن تدوين الذاكرة الشفوية، هو جزء من التاريخ السياسي المعاصر، حيث يُستكمل التاريخ المكتوب بالتاريخ الشفوي، بما يحمله الأخير من تصحيحات مباشرة للأحداث والروايات التاريخية، فتكمل الشهادة، الرؤية المعرفية التاريخية، وتضيف عليها، حتى وإن كان بعضها منسيًا أو مهمشًا، وفي ذلك توسيعًا للبحث التاريخي.
وقد انقسم الدارسون بشأن التاريخ الشفوي، فهناك من يدافع عنه ويعتبره ضرورة لا غنى عنها، لاستكمال البحث التاريخي المعاصر، ويمكن الاعتماد عليه كمادة مصدرية قائمة بذاتها، وأحد الآليات الأساسية، التي يشتغل عليها المؤرخ المختص والأكاديمي، وبين من يرفضه بالكامل، ويعتبر أن لا تاريخ دون وثيقة، استنادًا إلى مقولة صينية شهيرة تقول "ريشة قلم خير من ألف ذاكرة".
وإذا كانت الرواية الشفوية، هي ما تتناقله الأجيال مشافهةً، لاسيّما على لسان من عاش الحدث، باعتباره الوعاء الذي اختزن تفاصيل لا غنى عنها، إلّا أن للتاريخ الشفوي ثمة نواقص وثغرات وعيوب، والمسألة تتعلّق بالصدقية ورواية الشاهد والمشارك في الحدث، خصوصًا حين يتناول دوره، وتلك إشكالية ترتبط بأمانته ونزاهته، ليس هذا فحسب، بل يتعلّق الأمر بذاكرته التي قد تخطئ أو تصاب بالوهن أو التعب أو تختلط فيها الأحداث والتواريخ، بما قد يؤدي إلى تشويه الحدث.
لذلك لا يمكن الركون إلى الذاكرة الشفوية لوحدها، خصوصًا حين تتشخصن، وإنما الاستفادة منها في تعزيز النص التاريخي، وهو ما توقف عنده الفيلسوف كانط ، فالراوي قد يخضع الماضي لمزاجه أو أفكاره أو مصالحه، الأمر الذي يقتضي التنبه إليه.
وللتاريخ الشفوي أربعة عناصر، أولها - الراوي؛ وثانيها - المادة المروية (الشفوية)؛ وثالثها - لغة الرواية الفصحى أو الشعبية وكيفية الاستفادة منها وتوظيفها؛ ورابعها - الباحث الذي يجمع الشهادات التي يُدلي بها الرواة أو الشهود ويفلترها ويقارنها بروايات أخرى، ليستنبط منها الغث من السمين، كما يقال، بحثًا عن الحقيقة.
وللخشية من تشويه التاريخ أو تزييفه وتضليل المتلقي، فإن باحثًا أمريكيًا يُدعى غي توبلييه، دعا إلى استبدال فكرة "التاريخ الشفوي" "بالأرشيف الشفوي" للتخفيف من وقع كلمة "تاريخ" فيما يتعلّق بالمروي من الأحداث.
والأمر يكتسب أهميةً خاصةً، وربما أكبر بالنسبة للشيوعيين، وذلك بسبب ظروف العمل السري، والمطاردات التي تعرّضوا لها في تاريخهم الطويل، الذي يصادف العام الجاري الذكرى اﻟ 90 لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي.
تاريخ الشيوعيين
ولأن معظم تاريخ الشيوعيين جاء على لسان أعدائهم أو خصومهم، مشوهًا ومشوشًا وقاصرًا ومغرضًا ومرتبكًا؛ سواء كان بصورة مباشرة أو مبطنة، ومنه ما ورد في اعترافات بعض قياداتهم في موسوعة التحقيقات الجنائية في العهد الملكي (مطلع خمسينيات القرن المنصرم)، أو في العهود اللاحقة، لاسيّما بعد انقلاب 8 شباط / فبراير العام 1963، وباستثناء ما كتبه حنا بطاطو، وهو باحث علمي مستقل، في ثلاثيته الأثيرة: "العراق - الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية" و"العراق - الحزب الشيوعي" و"العراق - الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار"، فإن معظم الكتابات كانت تتّخذ موقفًا سلبيًا مسبقًا بالإساءة من جانب الأعداء والخصوم أو بالإشادة إيجابيًا من جانب الأنصار والمؤيدين. وهذه وتلك لا يمكن الركون إليهما من جانب المؤرخ الموضوعي والباحث الأكاديمي.
ولذلك فإن الحوارات التي أجراها الحطاب مع عدد من المعنيين عن تاريخ الحزب الشيوعي، سواءً من إدارات الحزب السابقة أو من كوادره المتقدمة، ستكون مكملةً ومتممةً ومصحّحةً ومدققةً ومصوبةً (وهكذا يفترض بالشهادة التاريخية)، لاسيّما إذا كانت نقديةً وجريئةً في مراجعة التاريخ كرواة وشهود ومشاركين، دون التشبّث بالماضي في محاولات البعض تلميع الصورة وعدم الاعتراف بالأخطاء، وحتى إذا لم يتحقق مثل هذا الافتراض، فإن الباحث والمؤرخ الرصين هو من يستطيع مقارنة ما يرد على لسان الرواة والشهود، بما فيها ملاحظة التناقضات الحادة والمتعارضة في رواية الحدث التاريخي، انطلاقًا من الذات، فضلًا عما يتمتع به الراوي أو الشاهد من اقتراب أو ابتعاد من الحقيقة.
قيمة التجربة بنقدها
ولعلّ قيمة أية تجربة هي بنقدها، ولا قيمة للتجربة بما لها، وقد يكون كثيرًا، وما عليها، وقد يكون غير قليل، إلّا بالموقف النقدي الجريء والشجاع، فمحاولة التشبّث بامتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات وإلقاء اللوم والسلبيات على الخصوم والأعداء، هي التفاف على التاريخ، "والتاريخ ماكر ومخادع" على حدّ تعبير هيغل، وحسب ماركس "الحكماء فقط هم الذين يفهمون التاريخ"، وكان الروائي الروسي مكسيم غوركي يقول: إن التاريخ لا يكتبه المؤرخون فحسب، وإنما يكتب الفنانون التاريخ الحقيقي للإنسان، لما للفن من إحاطة تجارب البشر بالنضج الفكري والعاطفي والروحي، وهكذا يساهم الفن في كتابة التاريخ، من خلال دوره في تشكيل الوعي وتسجيل حوادثه بصورة أكثر عمقًا وإنسانية.
أستطيع القول دون مبالغة أنه لا يمكن الحديث عن تاريخ الدولة العراقية الحديثة، منذ عشرينيات القرن المنصرم، دون الحديث عن تاريخ اليسار العراقي والحركة الشيوعية، ابتداءً من الحلقات الماركسية الأولى في بغداد بقيادة حسين الرحال، وصولًا إلى تبلور صيغة تنظيم باسم "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" (1934)، بلقاء جماعة بغداد وجماعة الموصل وجماعة جنوب العراق، ولاسيما الناصرية، التي كان فهد (يوسف سلمان يوسف - الأمين العام للحزب لاحقًا، والذي أعدم في 14 شباط / فبراير 1949) من أبرز روادها، وبعد عام واحد اتّخذت اللجنة اسم "الحزب الشيوعي العراقي"، الاسم الذي عرف به منذ ذلك التاريخ.
قراءات مختلفة
وحريّ بنا التوقف بعد الاطلاع على خطى الشيوعيين، التي أعدها علاء الحطاب بمهارة ومهنية واستقلالية، عند تدوينات بعض إداراته، أو من حاول على نحو رسمي بتكليف من إدارة الحزب أو دون تكليف، كتابة تاريخه، أو من خلال مذكرات وسرديات تم نشرها خلال العقود الثلاثة المنصرمة، فسنجد أن الكثير من التناقضات احتوتها تلك التدوينات أو السرديات أو المذكرات، إذْ يكفي أن نقرأ ما كتبه زكي خيري وعقيلته سعاد خيري "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" (1984)، أو عزيز الحاج "ذاكرة النخيل: صفحات من تاريخ الشيوعية في العراق" (1993) و"مع الأعوام: صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية" (1994) ، أو ابراهيم علاوي "الصراع في الحزب الشيوعي العراقي" (طبعة جديدة 2019) و "المقايضة: برلين - بغداد" (طبعة جديدة 2014) أو "مذكرات بهاء الدين نوري" (2001) أو "مذكرات باقر ابراهيم" (2002) أو عزيز سباهي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" (3 أجزاء)، التي هي أقرب إلى التدوين الرسمي. وأكتفي بهذا القدر، حيث يمكن الرجوع إلى العديد من كتب السير والمذكرات، التي تروي جزءًا من تاريخ الحزب.
وسنلحظ أن الكثير من المعلومات المتناقضة التي استند إليها البعض لتبرير موقفه، خصوصًا في الصراعات الداخلية أو لتشويه موقف خصمه الفكري، ودائمًا ما تضيع الحقيقة أو تتبدّد أو تتذرّر بحيث يحمّل كلّ تيار خصومه ملقيًا بالأخطاء، بل والخطايا على عاتقه. ولو افترضنا فوز التيار الآخر، فإنه سيصف أصحاب التيار المنهزم بأسوء النعوت، ويحملهم مسؤولية ما حصل من تردّي وضع الحزب، بما في ذلك في المواقف الحاسمة والتواريخ المفصلية، حتى وإن كان بالأمس هو مصدر اتهام، فإنه حين يصبح في مطبخ إدارة الحزب، يحسب كلّ رأي آخر منشقًا، بعد أن كان هو متهم بالانشقاق.
وتلك هي سمة جميع الأحزاب الشمولية الشيوعية والقومية والإسلامية، وستكون أكثر حدّة وإقصاءً عند الوصول إلى السلطة أو شم ريحتها، حتى في أوضاع المعارضة، والمسألة لا تقتصر على العراق وحده، بل إن البحث في تاريخ الحركة الشيوعية سيجعلنا نطّلع على الكثير مما هو مشابه لأوضاعنا، و يمكنني القول أن بعض ما جرى عندنا كان اقتباسًا من المركز الأممي، وهو ما حاول علاء الحطاب تظهير صورته كي تكون ألوانها واضحة وملامحها مرسومة. وتنسحب مثل تلك الممارسات على الأحزاب القومية التي شهدت هي الأخرى صراعات دموية.
مدرستا كولومبيا وشيكاغو
شهدت الدراسات التاريخية الأمريكية والأوروبية، منذ ما يزيد عن قرن ونصف من الزمن، اهتمامًا كبيرًا بالتاريخ الشفوي، لسدّ الفجوة في غياب المصادر المكتوبة والأرشيفات الضرورية، وهو ما انتظم للتوثيق، حيث طوّرت مدرسة خاصة بالبحث الميداني، والتي ترتكز على المقابلات والروايات، التي تتناول التاريخ، سواء بجمع المعلومات أو استخدام طريقة السيرة الذاتية وسيلة لمعرفة الواقع الاجتماعي، وتلك هي المدرسة الأولى.
أما المدرسة الثانية، فهي التي تعتمد على استخدام السير الذاتية، من خلال جمع عدد من الروايات لرسم محيط وتفاصيل مجموعة الأشخاص أو السكان، إضافة إلى السير الذاتية المكثفة والمعمقة والمفصلة والمتعارضة والمتوافقة، لاسيّما للمهمشين.
المدرسة الأولى اشتهرت بها جامعة كولومبيا، أما الثانية فقد كان نموذجها البارز، مدرسة شيكاغو. وقد أسس في جامعة كولومبيا العام 1948 قسم التاريخ الشفوي، الذي بدأ بتسجيل (أجهزة التسجيل) لسير ذاتية، يتم تفريغها ونسخها وكتابتها بشكل منهجي، إضافة إلى مقابلات للنخب الفكرية والسياسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية، وتوجد لدى الجامعات مئات الآلاف، بل ملايين من الصفحات، سجلت ذاكرة آلاف الشخصيات الكبرى، وتوسعت أقسام التاريخ الشفوي لتغطي عشرات الجامعات ومئات مراكز الأبحاث، وهو ما انعكس أوروبيًا، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، ولاسيّما في بريطانيا، ابتداءً من مطلع ستينيات القرن المنصرم بالاهتمام بالأنثروبولوجيا، إضافة إلى المقاربات السيسيولوجية لكتابة تاريخ اجتماعي جديد.
وفي العراق، ومنذ منتصف القرن المنصرم، بدأت تتسع دائرة الاهتمام بالتاريخ الشفوي كمكمّل للتاريخ المكتوب، علمًا بأن الكثير من الإدارات الشيوعية، ظلّت تحجم عن تدوين تاريخها، خصوصًا ما هو شفاهي منه. وتبرير بعض ذلك تواضعًا بزعم ما قيمة ما يقدّم، ومن ذلك حوار الباحث مع الرفيق عزيز محمد، الأمين العام الأسبق للحزب، الذي قال أنا لست زعيمًا لكي أدوّن تجربتي، فلا أنا محمد مهدي كبّة ولا الجادرجي ولا البارزاني ولا الجواهري، وأنا لست من أصحاب القلم مثلكم، وفي ذلك ابتعاد عن الخوض في الأحداث التاريخية، لكن علاء الحطاب حاول استنطاقه بحدود معينة، وقبله فعل ذلك توفيق التميمي، الصحافي المختفي قسريًا، وفي جميع مقابلاته ظلّ متحفظًا حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وإجاباته كانت عمومية.
والبعض الآخر اعتذر تحت مبرر النسيان والتقدّم بالسن والخشية من ظلم الآخرين، بمن فيهم الشهداء، أو غير ذلك، وهي صحيحة جميعها، لكن الحطاب تمكن من الحصول على شهادات ثلاثة من الأمناء العامين (عزيز محمد وبهاء الدين نوري وحميد مجيد موسى)، إضافة إلى أمين عام حزب القيادة المركزية (عزيز الحاج)، وأحد الشخصيات الشيوعية المخضرمة (مكرّم الطالباني)، وأحد إداريي الحزب الجدد (مفيد الجزائري)، وكادر قيادي متقدم من القيادة المركزية (فاروق ملّا مصطفى)، وكادر سابق قبل العام 1963 (جاسم المطير) وكاتب السطور، ومجموعهم يمثل 10 شخصيات شيوعية، عملت في فترات مختلفة في الحزب، ولكلّ منهم دوره الخاص ومساهمته، سواء على الصعيد السياسي أو التنظيمي أو الفكري والثقافي، كبر أم صغر، لكنه مثّل جزءًا من التيار الشيوعي، على الأقل خلال نصف القرن الماضي، أو ما يزيد عن ذلك.
مفاتيح البحث والأسئلة المُشرعة
وتدوين الذاكرة أمر في غاية الأهمية، فالكثير من الرفاق رحلوا، وكانت لهم أدوار أكبر، ربما مما عليه الكثير ممن أجرى الحطاب مقابلات معهم، وأعتقد أن هذه المقابلات التي جمعها ستكون مفاتيح تساعد الباحث وتمدّه بخيوط مهمة للتوغل في دراسة تاريخ الحزب الشيوعي، خصوصًا وأنها تمثل طيفًا واسعًا ورؤى مختلفة وليست واحدة، لا بالنسبة للتاريخ القديم للحزب، ولا لتاريخه الحالي.
والتاريخ الشفوي المكمّل هو وعي وذاكرة ومراجعة ونقد وهويّة وفلسفة، وفي كلّ تاريخ فلسفة مثلما لكلّ فلسفة تاريخ، والاستذكار والقصّ بما فيه من حبكة درامية، هو تعبير عن الحيوات التي عاشها كل من أجرى معه مقابلة.
أعتقد أن المقابلات أثارت أسئلة أكثر مما قدمت إجابات، وقد كان الحطاب ناجحًا حين جعلها معلقة، ولم يغلق أبواب تلك السرديات، وما نشْر هذه النصوص سوى فتح نقاش جديد وطرح أسئلة ظلّت مستعصية على الإجابة.
التاريخ مضى لكنه لا يريد أن يمضي، وبكل الأحوال لا يمكن استعادته، لكنه يمكن الاستفادة من دروسه وعبره، ومن لم يقرأ التاريخ سيعيد نفس أخطائه التي ارتكبها، وتبقى شجرة الحياة خضراء، أما النظرية فهي رمادية، على حد تعبير الفيلسوف الألماني غوته.