نهاية الابتزاز والرقص على الحبلين
في الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك تخليدا لذكرى المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر 2021، لم يخص به فقط الشعب المغربي، بل أساسا الدول التي دأبت على ابتزاز المغرب ولي ذراعه حتى تظفر بفرص أكثر لاستغلال ونهب ثرواته. خطاب وضع نهاية لمرحلة الابتزاز، وفتح ، في المقابل، أخرى جديدة عنوانها النّدّية في إعادة بناء العلاقات الدولية للمغرب مع من يريد الشراكة الاقتصادية على أساس احترام وحدته الترابية. لهذا كان جلالته حازما تجاه المبتزّين والراقصين على الحبلين "نقول لأصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة، بأن المغرب لن يقوم معهم، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية". ومزيدا من الحزم والتأكيد على ثبات المغرب في قراره، خاطب جلالته، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب 2022، الدول المعنية: "أوجه رسالة واضحة للجميع: إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات". وبهذا وضع الخطاب الملكي الدول المعنية أمام مسؤولية توضيح موقفها من السيادة المغربية على الأقاليم المسترجعة: "ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل".
مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس
عبارة تحمل أكثر من دلالة ومغزى تلك التي قالها السيد ناصر بوريطة في مواجهة الابتزاز والمبتزين، في مايو 2021، من أن "مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس". إذ مكّنت الحنكة الدبلوماسية للمغرب، كما قال جلالته "من تحقيق إنجازات كبيرة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، لصالح الموقف العادل والشرعي للمملكة، بخصوص مغربية الصحراء". كما أن الموقف الثابت للولايات المتحدة الأمريكية "شكل حافزا حقيقيا، لا يتغير بتغير الإدارات، ولا يتأثر بالظرفيات". كلها عناصر قوة مكّنت المغرب من فرض نِدّيته وشروطه على الراغبين في الشراكة معه بعيدا عن الاستغلال والابتزاز. ولا شك أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء عزّز موقف المغرب وقوّى صموده في وجه الابتزاز. للأسف فرنسا، وهي الدولة التي تربطها بالمغرب علاقات تاريخية عريقة، وعلى دراية كبيرة بأصل المشكل، لم تلتقط رسائل المغرب في حينها، متوهمة أنها بهكذا أسلوب يحن إلى فترة الاستعمار ويتاجر بورقة البوليساريو ستطيل عهد الابتزاز وتفلح في تركيع المغرب. لهذا أضاعت على نفسها فرصة الإصغاء إلى صوت الحكمة والمصالح المشتركة مع المغرب، وتمادت في أساليب الاستفزاز عبر: البرلمان الأوروبي، المحكمة الأوروبية، برنامج بيغاسوس، التأشيرات. أساليب لم يعد يكترث لها المغرب بعد المكاسب الدبلوماسية التي حققها منذ الاعتراف الأمريكي وتحرير معبر الكركرات من عصابات البوليساريو.
انتصار الحكمة والمصلحة
لم يعد من شك في أن قرار الرئيس ماكرون الاعتراف بمغربية الصحراء هو انتصار للحق وإصغاء لصوت الحكمة. فالاستمرار في المنطقة الرمادية يضر بالمصالح الفرنسية أكثر ما يضر بالمصالح المغربية. فالمغرب بات مدعوما من غالبية أعضاء الأمم المتحدة الذين يساندون مقترح الحكم الذاتي كحل واقعي وذي مصداقية. لهذا لم يبق من خيار أمام فرنسا سوى ركوب القطار الذي انطلق نحو آفاق التنمية والمشاريع العملاقة والاستثمارات الكبرى التي تجعل من المغرب قوة إقليمية وازنة على المستوى الاقتصادي والعسكري والأمني، خصوصا وأنها ـ فرنساـ باتت غير مرغوب فيها إفريقيا.
من هنا فإن الحكمة والمصلحة تقتضيان من الدولة الفرنسية مراجعة مواقفها والخروج من الوضعية الرمادية والكف عن اللعب على الحبلين. فالرهان على المغرب وما يتيحه من آفاق اقتصادية واستثمارية يفرض جعل المصالح الوطنية فوق الحسابات السياسوية الضيقة. ولعل رسالة الرئيس ماكرون إلى جلالة الملك جاءت لتتدارك التأخير الذي حصل في الاعتراف بمغربية الصحراء، من خلال التأكيد لجلالته على "ثبات الموقف الفرنسي بشأن هذه القضية الحساسة للأمن القومي لمملكتكم، وتعتزم فرنسا التصرف بما يتماشى مع هذا الموقف على الصعيدين الوطني والدولي". هذا الالتزام هو مكسب إضافي وهام للمغرب سرعان ما نوّه به جلالة الملك في الرسالة الجوابية التي وجهها للرئيس ماكرون "ويدرك الشعب المغربي وقواه الحية أهمية هذا القرار، الذي صدر عن عضو دائم بمجلس الأمن، ومطلع وثيق على ماضي شمال أفريقيا وحاضرها، وشاهد عن كثب على تطور هذا النزاع الإقليمي". وبمقتضى هذا الالتزام، ستعمل فرنسا على الدفاع عن مغربية الصحراء في كل المحافل الدولية. وبذلك يربح المغرب عضوا ثانيا بمجلس الأمن إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية سيتكلفان بالدفاع عن السيادة المغربية على الصحراء والتصدي لمخططات أعداء وحدتنا الترابية.
لا شك أن فرنسا وعت بأهمية مكانة المغرب الاقتصادية والعسكرية والأمنية في إفريقيا والتي أهّلته، كما ورد في رسالة ماكرون، ليلعب دور "فاعل لا غنى عنه في إفريقيا والعالم". لهذا اختارت فرنسا تعزيز علاقاتها مع المغرب "كشريك أساسي لفرنسا وللاتحاد الأوروبي، وكذلك، في سياق دولي مضطرب بشكل خاص، كقطب استقرار يلعب دورًا دوليًا متزايدًا". فعلى فرنسا والدول الأوروبية أن تدعم المغرب في نهضته الاقتصادية وتعزز قدراته الدفاعية والأمنية للدور المركزي الذي يلعبه في حفظ الأمن والسلم بالمنطقة، ومواجهة مخاطر الإرهاب التي تتهدد إفريقيا وأوروبا والمصالح الغربية.
أما الرهان على الجزائر فقد أدركت فرنسا عدم جدواه طالما أن الجزائر نفسها باتت معزولة إفريقيا، خصوصا لدى دول الساحل التي قررت طرد فرنسا وفك الارتباط بها؛ في حين تزداد العلاقة مع المغرب قوة ومتانة وتنوعا. ولا تخفى على فرنسا أهمية المبادرة الملكية بمنح دول الساحل منفذا على المحيط الأطلسي وتمكينها من الاستفادة من البنيات التحتية لتصدير معادنها واستيراد حاجياتها. وستكون لهذه المبادرة انعكاسات إيجابية على اقتصاديات الدول ومستويات معيشة سكانها.