الشريك الموثوق... سياقات ودلالات اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء
تقليديًا، كانت فرنسا تتبنى موقفًا محايدًا نسبيًا في النزاع، لكن في السنوات الأخيرة، بدأت باريس في إعادة تقييم سياستها. يأتي الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء في إطار دعم المغرب كحليف استراتيجي في منطقة شمال إفريقيا، خاصة في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب.
وقد سبق للعاهل المغربي الملك محمد السادس أن شدد في خطاب ألقاه أن عبّر عن رفضه لمواقف الدول التي تحاول التموقع في المنطقة الرمادية في موقفها في قضية الصحراء، وشكل هذا الخطاب الملكي بداية تحول وانعطاف مهم في الدبلوماسية المغربية، وضربة موجعة لبعض دول أوروبا، التي جعلت من هذه القضية ورقة تعتمدها في تحقيق منافعها ومصالحها، في رسالة موجهة إلى العاهل المغربي، الملك محمد السادس، نُشرت في 30 يوليو 2024، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اعتراف بلاده بـالسيادة المغربية على الصحراء، مشيراً إلى أن الخطة المغربية "تشكل الآن الأساس الوحيد لتحقيق الحل السياسي" للنزاع الذي تعود جذوره إلى خمسة عقود. ومن خلال هذا الإعلان، يُعيد الموقف الفرنسي صياغة علاقات جديدة مع كلٍّ من المغرب والجزائر، وهو ما سيكون له تأثيرات جذرية على مستقبل المنطقة، وعلى النفوذ الفرنسي في شمال أفريقيا والساحل وجنوب الصحراء.
اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء يعتبر خطوة سياسية هامة في العلاقات بين البلدين. هذا الاعتراف يعكس دعم فرنسا لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ويمكن أن يؤدي إلى تعزيز التعاون الثنائي والاقتصادي بينهما. كما يمكن أن يؤدي هذا الاعتراف أيضًا إلى تحسين العلاقات بين المغرب والاتحاد الأوروبي، حيث تلعب فرنسا دورًا مهمًا كعضو في الاتحاد. ومن المهم أيضًا أن تكون هذه الخطوة إشارة إيجابية لحل النزاع حول الصحراء وتعزيز الاستقرار في المنطقة.
أولا: السياقات الممهدة للاعتراف الفرنسي:
- تحسن العلاقات بين البلدين:
شهد التعاون الفرنسي المغربي مرحلة جديدة من الديناميكية إثر أزمة دبلوماسية استمرت عدة أشهر بين الحليفين التقليديين. في مؤتمر صحفي عُقد يوم الثلاثاء الموافق 9 أبريل 2023 صرح المتحدث باسم الخارجية الفرنسية بأن المباحثات التي جرت في باريس بين وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني، ونظيره المغربي، ناصر بوريطة، قد أسفرت عن تقدم إضافي في تنفيذ الأجندة السياسية وخارطة الطريق الطموحة المشتركة بين البلدين. حيث شملت هذه الخارطة الاستثمارات الكبرى المستقبلية، والجوانب الأمنية والتبادلات الثقافية وحتى القضايا العالمية.
- البيئة السياسية الداخلية
بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي لم تحسم مركز السلطة في البلاد، وفقدان الرئيس ماكرون زمام المبادرة السياسية، وجد نفسه أمام معضلة تشكيل حكومة مستقرة وعجز تجاه البرلمان ثلاثي القوى. لذلك تبدو فرصة حكومة تصريف الأعمال التي يدير من خلالها ماكرون السلطة دون ضغط برلماني فرصة ودافع لاتخاذ قرار الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، والذي كان يمكن أن يسقط في حال وجود حكومة رسمية. كما أن أي حكومة مستقبلية ستكون في موقف صعب في حال أرادت التراجع عن هذا الاعتراف.
- تحسين صورة فرنسا الدولية
شهدت السياسة الفرنسية في أفريقيا تراجعا كبيرا منذ نهاية حقبة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، نتيجة عدد من العوامل أبرزها سيطرة الروح الاستغلالية، والاستعلاء الفرنسي على الأفارقة، وتكرار السياسات الاستعمارية نفسها.
وتواجه سياسة فرنسا الافريقية تحديات بعد ست سنوات من خطاب ايمانويل ماكرون بجامعة واغادوغو يوم 28 نوفمبر 2018 حول سياسته الأفريقية الجديدة، ومجموعة من القمم والاجتماعات التي تهدف إلى إقامة شراكة جديدة مع القارة السمراء، لكن النتائج التي حصل عليها ماكرون في إفريقيا هزيلة اجتمعت في الانسحاب العسكري وفقدان النفوذ السياسي والاقتصادي وزيادة المشاعر المعادية لفرنسا داخل المجتمعات الافريقية.
ويبدو أن النفوذ الفرنسي أصبح مهدداً أكثر من أي وقت مضى في هذه المنطقة، على الرغم من كل ما تمثله من حاجة إلى المصالح الفرنسية، سواء في مسألة مكافحة الإرهاب، أو في منع تمدد النفوذ الروسي في الحديقة الخلفية لفرنسا.
قد يُنظر إلى اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء كخطوة إيجابية في سياق المتغيرات الدولية الراهنة، حيث تعكس دعمًا لحل النزاعات الإقليمية من خلال الحوار والتفاوض. هذا يمكن أن يحسن من صورة فرنسا في العالم العربي ويعزز موقفها في القضايا الدولية.
- دعم واسع للموقف المغربي من المجتمع الدولي:
يأتي الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء بعد التغيير الجذري والتحول التاريخي لموقف إسبانيا، المستعمر السابق للصحراء، بعدما أعلن رئيس حكومتها بيدرو سانشيز، في 19 مارس 2022، دعم الموقف المغربي علناً وللمرة الأولى، من خلال اعتباره مقترح الحكم الذاتي "الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية لحل النزاع".
وقبل التحول التاريخي في موقف مدريد، كان لافتا الموقف الذي أعلنه رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية، فرانك فالتر شتاينماير، في رسالة وجهها إلى العاهل المغربي في يناير 2022، حينما قال إن ألمانيا "تعتبر أن مخطط الحكم الذاتي الذي قدم في سنة 2007 بمثابة جهود جادة وذات صدقية من قبل المغرب، وأساس جيد للتوصل إلى اتفاق" لهذا النزاع الإقليمي.
وللإشارة، فإن هولندا في 11 مايو 2022 نوهت بمبادرة الحكم الذاتي واصفة إياها بـ "المساهمة الجادة وذات صدقية" في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة لإيجاد حل لقضية الصحراء، وإعلان بلجيكا في 21 أكتوبر من السنة نفسها، دعمها لمخطط الحكم الذاتي، خطوات أوروبية أخرى عززت الموقف المغربي وأكسبته زخماً.
وفضلاً عن الدعم الأوروبي، كان الاعتراف الأميركي بسيادة الرباط على الصحراء في نهاية 2020 حينما اعترفت واشنطن بمغربية الصحراء وبخطة الحكم الذاتي لحل النزاع، حيث وزعت الممثلة الدائمة للولايات المتحدة الأمريكية بمجلس الأمن كيلي كرافت رسالة مؤرخة في 15 دجنبر 2020 على جميع أعضاء المجلس أعلنت من خلالها أن الولايات المتحدة الأمريكية تتشرف بتقديم الاعتراف بسيادة المملكة المغربية على الصحراء الغربية" حيث اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بـ"أن إقليم الصحراء الغربية إقليم بأكمله جزء من المملكة المغربية، وبأن الحكم الذاتي هو الأساس والوحيد لحل عادل ودائم للنزاع في الإقليم". كما طالبت ممثلة واشنطن بمجلس الأمن بتعميم هذا الاعتراف وما يرافقه باعتباره وثيقة من وثائق مجلس الأمن. وقد كان هذا الاعتراف حافزاً لإعلان دول أفريقية عدة ودول مجلس التعاون الخليجي والأردن اعترافها بمغربية الصحراء وفتح تمثيليات دبلوماسية بمدينتي العيون والداخلية.
- متانة العلاقات الاقتصادية بين البلدين :
على الرغم من التوترات الدبلوماسية السابقة بين البلدين، ظلت العلاقات الاقتصادية بين باريس والرباط قوية ومتينة. في عام 2023، بلغ حجم التبادل التجاري بين العاصمتين مستوى قياسيًا وصل إلى 14 مليار يورو. تعد فرنسا الشريك الاستثماري الأجنبي الأول للمغرب، حيث تتواجد الغالبية العظمى من الشركات الفرنسية المستثمرة في البورصة الباريسية. كما تعد فرنسا في صدارة المستثمرين بالمغرب برسم سنة 2023، بصافي تدفق قدره 6,8 مليارات درهم، مقابل 3,8 مليارات درهم في سنة 2022، أي بارتفاع بلغت نسبته 79,5 في المائة.
و قد أوضح مكتب الصرف ، في تقريره السنوي حول ميزان المدفوعات ووضع الاستثمار الدولي للمغرب برسم سنة 2023، أن هذا التدفق يمثل حصة قدرها 61,4 في المائة من صافي التدفق الإجمالي للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر المغرب أكبر مستثمر إفريقي في فرنسا، حيث بلغت قيمة استثماراته 1.8 مليار يورو في العام 2022، مقارنة بـ 372 مليون يورو في العام 2015. كما أن المغرب هو المستفيد الأكبر من تمويلات وكالة التنمية الفرنسية، بحسب ما أوردته تقارير الوكالة الفرنسية للتنمية التابعة للمديرية العامة للخزانة الفرنسية.
إعلان باريس عن نيتها للاستثمار في المناطق الصحراوية الذي عد حسب بعض المراقبين كاعتراف ضمني بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية، جاء بعد حوالي شهرين من زيارة وزير الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني، إلى الرباط، حيث بين أن الملف الأبرز خلال زيارته كان "مخطط الحكم الذاتي الذي يطرحه المغرب لحل النزاع في الصحراء"، مؤكدًا على "ضرورة اعتماد الرباط على باريس ووضوح موقفها في دعم هذا المخطط الغربي". لكن، رغم ذلك، لم يعلن سيجورني صراحة دعم فرنسا للسيادة المغربية على الصحراء على الطريقة الأمريكية ولا حتى الاسبانية، وأتت تصريحات وزير التجارة الخارجية الفرنسي، فرانك ريستر، حول استعداد باريس للاستثمار في الصحراء دون ذكر الدعم للسيادة المغربية، مما أثار شكوك بعض الأطراف في المغرب حول نوايا الفرنسيين.
ثانيا: دلالات الاعتراف الفرنسي:
قرار فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، يحمل تطورا هاما وبالغ الدلالة لدعم السيادة المغربية على الصحراء، وهو لا يمثل انتصارا على أي أحد، ولا هزيمة لأي أحد؛ بل يجسد الحقيقة التاريخية والشرعية القانونية.
1-الواقعية السياسة مرتكز القرار الفرنسي:
المدرسة الواقعية لا تؤمن بإمكانية إدارة السياسة الخارجية للدولة عبر مبادئ مثالية عالمية بل تتبنى موقفاً يُعنى بالمصالح الخاصة للدولة بالدرجة الأولى ولا يبالي بمصالح الدول الأخرى إن اقتضى الأمر.
ينطلق موقف فرنسا في قضية الصحراء من إيمانها بضرورة أن تبقى المصالح الإستراتيجية المغربية امتدادا لمصالح باريس الجيو/إستراتيجية، وبالتالي فبقاء الصحراء الغربية تحت السيادة المغربية يعني بقاؤها واجهة إضافية للأمن الفرنسي الذي سيكون في ظل مغرب قوي وموحد أفضل بكثير من جزائر كبرى غير مستقرة.
القرار الفرنسي لم يأت نتيجة ظرفية سياسية معينة، بل هو جزء من رؤية استراتيجية واضحة ودعم مؤسساتي متجذر. كما أكد الرئيس الفرنسي، فإن بلاده تعتزم التحرك بتناسق على المستويين الوطني والدولي، مما يضفي طابع الجدية والاستمرارية على هذا الدعم.
من الناحية العملية، يعزز هذا القرار تنمية منطقة الصحراء المغربية ويرفض سياسات الجمود التي قد تعرقل تقدم منطقة المغرب العربي.
1-اعتراف قانوني يتجاوز المفهوم الدبلوماسي:
يتماشى الموقف الفرنسي مع أحكام القانون الدولي، وعند مقارنة الموقف الفرنسي و الاسباني نجد أن فرنسا تجاوزت الموقف الإسباني بكثير، إذ إن إسبانيا وصفت مبادرة الحكم الذاتي ب: " الأكثر جدية ومصداقية"، فيما باريس تقول اليوم على لسان رئيسها إنه الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى حل سياسي عادل ومستدام ومتفاوض بشأنه، وبالتالي قطعت الطريق أمام أي وسائل أخرى للتسوية باستثناء ما اقترحه المغرب”
وفي هذا الصدد يقول الرئيس الفرنسي: وتحقيقا لهذه الغاية، شدد إيمانويل ماكرون على أنه “بالنسبة لفرنسا، فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعد الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه القضية. وإن دعمنا لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في 2007 واضح وثابت”، مضيفا أن هذا المخطط “يشكل، من الآن فصاعدا، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “.
وسابقاً، كانت باريس تقول إن المخطط المغربي يشكل «قاعدة جدية وذات مصداقية»، لإيجاد حل لمعضلة الصحراء، ولكن ليست القاعدة «الوحيدة» للحل.
من جهة أخرى، ستوزع فرنسا مذكرة إلى أعضاء مجلس الأمن عبر ممثلها الدائم تعلن من خلالها لجميع الأعضاء في المجلس بالاعتراف بمغربية الصحراء، وتعتبر أن مقترح الحكم الذاتي هو "الأساس والحل الواحد والأوحد لحل نزاع الصحراء".
هذا، وسيلي ذلك، إبلاغ جميع الهيئات والبعثات الدبلوماسية الفرنسية في جميع أنحاء العالم بتضمين هذا الاعتراف في ديباجتهم ومراسلاتهم والخرائط التي تتواجد في هذه البعثات والهيئات، حيث يجب تغييرها بخرائط للمملكة المغربية بصحرائها بدون أي خط فاصل، وهو ما سينطبق أيضا على جميع الوزارات الفرنسية، ووسائل الإعلام التابعة للدولة.
2- التخلـي عن فرضية الأطروحة الانفصالية:
يتماشى القرار الفرنسي مع الرفض الدولي لفكرة الطموحات الانفصالية التي تجتاح العالم، حيث كانت فرنسا من الرافضين للاعتراف بالجمهوريات التي انفصلت عن أوكرانيا وضمها الاتحاد الروسي، كما أنه يعكس التزام فرنسا بتعزيز السلام والاستقرار الإقليميين، مساهما بذلك في حل النزاع بما يتماشى مع مبادرة الحكم الذاتي التي طرحتها المغرب والتي دعمتها فرنسا منذ عام 2007 في مجلس الأمن الدولي.
3-تأكيد مركزية المصالح الاستراتيجية بين البلدين:
إن هذا الموقف وإن تزامن مع احتفالات عيد العرش، إلا أنه بعيد كل البعد عن كونه مجرد خطوة مناسباتية. إنه قرار مهيكل ومدروس وقانوني يعزز العلاقات الاستراتيجية بين المغرب وفرنسا ويؤكد التزام باريس تجاه الوحدة الترابية للمغرب ورؤيتهما المشتركة لمستقبل مشترك.
بهذا القرار، تضخ فرنسا نفسا جديدا في العلاقة الاستراتيجية مع المغرب، مؤكدة دعمها لتنمية منطقة الصحراء المغربية ورؤيتها لمستقبل أكثر إشراقًا واستقرارًا للمنطقة بأكملها.
من ناحية أخرى، فإن الاعتراف بمغربية الصحراء يعزز من موقف المغرب كداعم للاستقرار في المنطقة مع تزايد التهديدات الأمنية في منطقة شمال إفريقيا، بما في ذلك الإرهاب والهجرة غير الشرعية، يعتبر المغرب حليفًا استراتيجيًا لفرنسا.
إن اصطفاف باريس إلى جانب الرباط يُعتبر ترجمة واضحة لموقفها حيال التحولات الجيوسياسية المتسارعة في منطقة شمال أفريقيا والساحل. ففي ظل تعزيز موسكو لوجودها في المنطقة عبر تحالفات عسكرية واقتصادية مع الجزائر، تسعى فرنسا إلى بناء محور مغربي لمواجهة هذا التمدد الروسي. وتعتبر الرباط، بفضل نفوذها المتنامي في القارة السمراء، شريكاً استراتيجياً في هذه المعادلة، خاصة وأن دعم موقفها في قضية الصحراء من شأنه أن يعزز نفوذ التحالف الغربي-المغربي في عمق أفريقيا."
- الرغبة في إحياء الاتحاد المغربي:
إن الرهانات السياسية لتسوية قضية الصحراء المغربية تدمجها فرنسا في إطار بناء شمولي لصرح الاتحاد المغاربي، بحيث من البديهي أن مستقبل هذه البلدان ينبغي النظر إليه في إطار إقليمي؛ فهذا النزاع المفتعل يثقل منذ مدة طويلة اقتصاديات كل بلدان المنطقة ويعوق النهوض بالاتحاد المغاربي مما يفقد كلا من المغرب والجزائر نقطتين من ناتجهما الداخلي الخام.
وهي رسالة سياسية واضحة إلى الجزائر بضرورة رفع العراقيل المصطنعة لبناء فضاء مغاربي قوي موحد في خدمة مصالح إفريقيا الشمالية وأوروبا على حد سواء، بعيد عن التشرذم وخال من الكيانات الوهمية.
إن دعم فرنسا لحل سياسي لقضية الصحراء من خلال مبادرة الحكم الذاتي يستهدف تحقيق التوازن الإقليمي في المنطقة ؛ وهو الأمر الذي يلتقي مع نفس الرؤيا لدى فاعلين دوليين آخرين كالولايات المتحدة الأمريكية؛ فهذه المبادرة لن ترهق الجزائر، كما أنها لن تضعف المغرب مما يجعلها حلا سياسيا تفاوضيا ووسطيا، يمكن من تفادي القطيعة بين المحورين المركزيين في بناء تنظيم المغرب العربي؛ وهو الأمر الذي سيخدم في نهاية المطاف المصالح الفرنسية لأن هذه المنطقة أصبحت تفرض على فرنسا انشغالات وقلقا على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
مواقف متباينة...تداعيات الاعتراف الفرنسي:
من أبرز تداعيات هذا الاعتراف، قرار الجزائر سحب سفيرها من باريس "على الفور"، على الرغم من التقارير الإعلامية التي أشارت إلى أن باريس أبلغت الجزائر مسبقًا بمضمون قرارها. وفي بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية الجزائرية، جاء فيه: "أعلنت الحكومة الفرنسية تأييدها الصريح والقاطع للواقع الاستعماري المفروض على إقليم الصحراء الغربية. وهذه الخطوة، التي لم تقدم عليها أي حكومة فرنسية سابقة، تمت من قِبَل الحكومة الحالية باستخفاف كبير، ودون تقييم متبصر للعواقب التي قد تترتب عليها". كما اتهم البيان باريس بـ"انتهاك الشرعية الدولية، والتنكر لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، مما يتناقض مع الجهود الدؤوبة التي تبذلها الأمم المتحدة لاستكمال مسار تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية، بالإضافة إلى تنصلها من مسؤولياتها الخاصة المرتبطة بعضويتها الدائمة في مجلس الأمن.
من ناحية أخرى ، باتت الجزائر تلجأ بشكل متزايد إلى أداة العقوبات الاقتصادية كوسيلة للضغط على الدول التي تتبنى مواقف معادية لمصالحها خصوصا فيما يتعلق بمغربية الصحراء. فقد أثبتت الجزائر فعالية هذا الأسلوب في التعامل مع العديد من الأزمات الدبلوماسية، وللجزائر سوابق في تفعيل العقوبات الاقتصادية -قطع العلاقات التجارية، وإنهاء العقود مع الشركات الأجنبية، ووضع العراقيل أمام الاستثمارات الأجنبية -حيث تكبدت دول مثل إسبانيا وفرنسا (قبل الاعتراف) خسائر فادحة نتيجة توقف صادراتها إلى الجزائر.
من جهته، جدّد الاتحاد الأوروبي تأكيده على موقفه الثابت بشأن قضية الصحراء، وذلك عقب إعلان فرنسا اعترافها بسيادة المغرب على الإقليم. وشدّدت المتحدثة باسم وزارة خارجية الاتحاد الأوروبي على أهمية الالتزام بالحل السياسي للقضية، مشيرة إلى أن لكل دولة عضو الحق في اتخاذ موقفها الخاص، إلا أن موقف الاتحاد الأوروبي سيظل ثابتاً في دعمه الكامل لجهود الأمم المتحدة الرامية إلى إيجاد حل شامل ودائم لهذا النزاع، وفقاً لمبادئ القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
إن موقف الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بمسألة الصحراء ' الغربية" معروف جيدا ولم يتغير. يدعم الاتحاد الأوروبي بقوة الجهود التي يبذلها الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي "ستافان دي ميستورا" لمواصلة العملية السياسية الرامية إلى التوصل إلى حل سياسي عادل وواقعي وعملي ودائم ومقبول من الطرفين لقضية الصحراء ، على أساس التسوية ووفقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ، ولا سيما القرار 2654 المؤرخ 27 أكتوبر 2022 .
يبدو واضحاً أن خطوة الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي سعى في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى التقارب مع الجزائر، وتصفية الإرث الاستعماري لبلاده من خلال زيارة رسمية للرئيس عبد المجيد تبون، وعبر مجموعة من الخطوات، ستدفع مجدداً العلاقات الفرنسية -ـ الجزائرية نحو التوتر، بالنظر لحساسية الملف للمسؤولين الجزائريين، وللعلاقات المتردية بين الرباط والجزائر.
كخلاصة فإن الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء خطوة استراتيجية تعكس التغيرات في السياسة الدولية والإقليمية. بينما يسعى المغرب لتعزيز سيادته، يبقى تأثير هذا الاعتراف على عملية السلام في الصحراء الغربية موضوعًا للنقاش. المستقبل يحمل الكثير من التحديات والفرص، مما يتطلب من جميع الأطراف المعنية العمل نحو حلول سلمية ودائمة.
الاعتراف الفرنسي يشكل خطوة مهمة في إعادة تنشيط العلاقات بين المغرب وفرنسا، فالبلدان تربطهما علاقات تاريخية وثقافية واقتصادية متينة، والأكيد أنه سيفتح المجال لمزيد من التعاون بين البلدين في أفق تأسيس شراكة اقتصادية استراتيجية متينة.
- أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي- جامعة محمد الأول-وجدة