في تطور غير مسبوق.. تونس تفتح مدرجات جامعاتها لِترويج الطرح الانفصالي في المغرب
فتحت الجامعات التونسية مدرجاتها للخطاب الانفصالي الذي يستهدف الوحدة الترابية للمغرب، وهو التطور "غير المسبوق" في تاريخ علاقة الرباط بتونس، خصوصاً أن السياسة الخارجية التونسية عُرفت تاريخياً بـ"نهجها الحيادي"، وهو ما تغير في السنوات القليلة الماضية، بعد استقبال الرئيس التونسي قيس سعيّد، بشكل رسمي، زعيم جبهة "البوليساريو" الانفصالية شهر غشت من سنة 2022 بمطار قرطاج الدولي، وخصه بلقاء مطول، وهو ما اعتبر حدثا استثنائيا لم يقدم عليه أي رئيس تونسي من قبل.
واحتضنت مدينة الحمامات التونسية هذا الأسبوع، ملتقىَ علمياً حمل عنوان "المقاومة والصمود.. مقاربات متعددة"، نظمه مركز بحث جزائري متخصص في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية والإنسانية، بشراكة مع جامعة المنستير التونسية، إذ جمع الملتقى باحثين وأكاديميين من دول المغرب الكبير بما في ذلك الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا باستثناء المغرب، فيما حضر ممثلين عن ما يُعرف بـ"جامعة تفاريتي"، التي تتخذ من مخيمات تندوف مقرًا لها وتعتبرها الجبهة الانفصالية مؤسسة للتعليم العالي خاصة بها، حيث استمرت أشغال الملتقى على مدى ثلاثة أيام، وركزت بالأساس على قضايا المقاومة الفلسطينية، مع تسليط الضوء على الأحداث الأخيرة التي شهدتها غزة في السابع من أكتوبر 2023.
وما أثار جدلاً واسعاً في هذا اللقاء الذي انعقد داخل الحرم الجامعي التونسي، هو تخصيص جلسات لطرح مواضيع تتعلق بالصحراء المغربية، من بينها مداخلة بعنوان "مقاومة الاستعمار في الصحراء الغربية: قراءة تاريخية"، قدمها المدعو حمة المهدي من "جامعة تفاريتي"، وأخرى حول "الشعر الشعبي في الصحراء الغربية: ذاكرة الصمود والمقاومة"، ألقاها المدعو محمد عالي من نفس الجامعة المزعومة، فيما تعتبر هذه الواقعة سابقة في تاريخ الجامعات التونسية، وفقاً لشهادات عدد من الأكاديميين الذين تواصلت معهم "الصحيفة"، مؤكدين استغرابهم من هذا المنحى الجديد وغير المسبوق في طبيعة الأنشطة الأكاديمية التي تحتضنها المؤسسات الجامعية التونسية.
وفي هذا الإطار، قال أستاذ للعلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة قرطاج، رفض ذكر اسمه لحساسية الموضوع، لـ "الصحيفة"، إن "احتضان إحدى الجامعات التونسية لأنشطة تروّج لأطروحات تمس بسيادة دولة شقيقة مثل المغرب، يُعدّ تحولاً غير مسبوق ومثيراً للقلق في العقيدة الدبلوماسية لتونس التي طالما استندت إلى مبادئ الحياد واحترام السيادة وحسن الجوار، فيما الجامعات، بوصفها فضاءات للعلم والحوار البناء، يجب أن تظل بعيدة عن استغلالها لتصفية الحسابات السياسية أو الترويج لمواقف تعمّق من أزمات دبلوماسية لا طائل منه."
واعتبر المصدر ذاته، الذي اختار الإدلاء بتصريح لـ "الصحيفة" أن ما يثير الاستغراب أكثر هو أن هذا التوجه يأتي في إطار قرارات سياسية باتت تتسم بالارتجال والضبابية، صادرة عن الرئيس وتنطوي على ضرر بالغ لعلاقات تونس الخارجية ومكانتها الإقليمية، موردا: "ما نشهده اليوم من تحولات في السياسات العامة للدولة التونسية، بما في ذلك احتضان أنشطة أكاديمية تُروّج لأطروحات تمس بسيادة دولة شقيقة كالمغرب، يمثل خروجاً غير مسبوق عن النهج الدبلوماسي المتزن الذي ميّز تونس لعقود طويلة".
وأكد الخبير في العلاقات الدولية، أن هذه الأنشطة، التي باتت تحمل طابعاً سياسياً واضحاً، تُظهر محاولة واضحة من قِبل القيادة الحالية في تونس، ممثلة بالرئيس قيس سعيّد، لإرضاء الجزائر بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب مبادئ الحياد واحترام السيادة وحسن الجوار التي لطالما اعتُبرت من ثوابت السياسة الخارجية لتونس، مضيفا: "تاريخياً، عُرفت تونس بدبلوماسيتها المتزنة والقائمة على التوازن بين الأطراف الإقليمية، حيث كانت تُعلي من قيمة الحوار وتجنّب التحيز لصالح أي طرف على حساب آخر، لكن اليوم، يبدو أن هذا التوازن قد اختلّ بشكل غير عقلاني، فالقرارات السياسية المتخذة في هذا السياق لا يمكن فصلها عن التقارب المتزايد بين قيس سعيّد والجزائر، حيث بات واضحاً أن هذا التقارب يتجاوز حدود التعاون الطبيعي ليصل إلى مستوى من التبعية السياسية التي تتعارض مع مصالح تونس الاستراتيجية".
وما يثير القلق، حسب المتحدث، هو أن هذا التقارب يأتي على حساب علاقات تونس التاريخية مع المغرب، الذي كان دائماً شريكاً استراتيجياً وحليفاً موثوقاً، تربطه بتونس أواصر تاريخية وثقافية متينة، من خلال السماح لجامعات تونسية بالانخراط في أنشطة تروج لأطروحات انفصالية تتعلق بالصحراء المغربية، وبذلك توجِه تونس رسالة خاطئة تماماً، لا تعكس فقط انحرافاً عن مسار دبلوماسي حكيم، بل تكرّس أيضاً لسياسات ارتجالية تسعى فيها القيادة الحالية إلى كسب رضا الجزائر دون اعتبار للضرر الذي تلحقه بمصداقية تونس الدولية، مع العلم أن القرارات المتخذة مؤخراً، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، تشير إلى نهج أحادي يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية ويُدار بمنطق ردود الأفعال.
وشدّد الخبير في التصريح ذاته لـ "الصحيفة"، على أن هذا النهج "يسيء ليس فقط إلى العلاقات مع المغرب، بل أيضاً إلى سمعة تونس كفاعل مسؤول ومعتدل في المنطقة. السياسات التي تُبنى على إرضاء طرف إقليمي واحد دون اعتبار لتوازن المصالح وعلاقات حسن الجوار، تُضعف مكانة تونس وتُعرضها لفقدان شركاء استراتيجيين كانوا دائماً سنداً لها في مواجهة تحدياتها الإقليمية والدولية."
وجاء سَماح الحكومة التونسية، لجامعات البلاد باحتضان أنشطة تروّج لأطروحات انفصالية تمس بالسيادة المغربية، ليعيد العلاقات المغربية-التونسية إلى مربع الشكوك والتساؤلات، بعد أن بدت بوادر التقارب تلوح في الأفق، فهذه الخطوة غير المسبوقة، التي جاءت بإيعاز جزائري بحسب ما يُستشف من سياقها السياسي، وضعت حداً للتفاؤل الذي كان قد أبداه البعض عقب مؤشرات حملها محللون على أنها قد تمهد لعودة العلاقات إلى طبيعتها بعد أكثر من سنتين من التوتر الدبلوماسي الذي أحدثه استقبال قيس سعيّد لزعيم جبهة البوليساريو الانفصالية إبراهيم غالي.
من أبرز هذه المؤشرات، لقاء وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة بنظيره التونسي محمد علي النفطي في العاصمة الصينية بكين على هامش اجتماع "فوكاك" في شتنبر الماضي، والذي أرفقته وزارة الخارجية التونسية بنشر صورة ودية جمعت الوزيرين على منصتها في "إكس"، مؤكدةً أن اللقاء تطرّق إلى علاقات التعاون بين البلدين وسبل تعزيزها.
كما شهدت الفترة ذاتها أول اتصال رسمي بين الرباط وتونس تمثل في تهنئة بوريطة لنظيره التونسي الجديد بمناسبة توليه منصبه، حيث عبّر الجانبان عن "حرص مشترك على دعم أواصر التعاون بين البلدين". ولم يكن هذا اللقاء الوحيد، بل سبقه لقاء آخر في غشت جمع بين رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش ووزير الخارجية التونسي السابق نبيل عمار، في فرنسا، في إطار مناقشات لتعزيز التعاون الثنائي، وهو اللقاء الذي وصفته الصحافة التونسية بـ"الهام"، مشيرة إلى أنه يعكس رغبة مشتركة في إنهاء الأزمة الدبلوماسية.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية، فإن خطوة احتضان الجامعات التونسية لأنشطة تدعم الانفصال في الصحراء المغربية جاءت لتعيد طرح تساؤلات عميقة حول مسار العلاقات بين البلدين، عقب تصريحات سابقة لوزير الخارجية التونسي السابق نبيل عمار، الذي أبدى رغبة واضحة في حلحلة الأزمة، عززت التفاؤل، إلا أن رحيله ضمن تعديل وزاري واسع أجراه الرئيس قيس سعيّد أثار الشكوك مجدداً بشأن نوايا تونس الحقيقية.
والوزير الحالي، محمد علي النفطي، الذي يُعرف بسيرته المهنية المنفتحة، يحمل تطلعات لتعزيز التعاون الإقليمي، ولكن السماح لمؤسسات تعليمية تونسية بالترويج لأجندات سياسية موجهة من الجزائر قد يضع قيوداً على جهود إعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعي، ويعكس ازدواجية في النهج التونسي إزاء المغرب.
يُذكر أن وزارة الخارجية التونسية أكدت في وقت سابق لـ "الصحيفة" أن العلاقات بين البلدين "مستقرة"، إلا أن غياب خطوات عملية لعودة السفيرين إلى منصبيهما يظل مؤشراً على استمرار الأزمة، التي قد تتعمق أكثر في ظل السياسات غير المفهومة التي يتبعها قيس سعيّد.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :