الفلسفة الجنائية ومقاصد الشريعة
من المؤكد أنَّ بلادنا سائرةٌ، لا محالة، في إثارة تجديد سياستها الجنائية، من حيث تجريم الأفعال، وتحديد الجزاءات والعقوبات، كما من حيث المسطرة الجنائية. وهو ورش إصلاحي ضخم ومؤثر على حاضر ومستقبل المغرب. كما أنه ورش تأخر تناوله، بالجرأة والشمولية اللازمتين، وانتظر في الرفوف أعواماً عديدة، وقد آن أوانُ إماطة اللثام عنه.
والسياسة الجنائية، ببلادنا كما في كافة البلدان، إنما تخضع لفلسفةٍ أو فلسفاتٍ محددة. ولذلك فالنقاش يتعين أن يكون عميقاً حول توجهات الإصلاح وحول تفاصيله أيضاً.
والسياسة الجنائية تُعَدُّ أمراً جَــلَــلاً، بالنظر إلى أثرها ووقعها على المجتمع برمته وعلى كافة الأفراد. وهي سياسة ينبغي أن تخضع للمرجعية الدستورية المتقدمة، وأن تستحضر المتغيرات الثقافية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية التي يشهدها المجتمع المغربي، دون إغفال ثوابت المجتمع وأسسه التي ينبني عليها. إنها عملية عسيرة ولكنها غير مستحيلة. فقط تتطلب إعمال ما يكفي وما يلزم من ذكاء واجتهاد وتوليف، من دون طابوهات ولا عُقد ولا تشنج.
في ما يلي، سوف نعرض، من خلال هذه المساهمة الأولى، إلى بعضٍ من المقاصد الشرعية في الإسلام، وهي أيضاً من غايات القانون الجنائي الذي عليه أن يتعاطى معها، أثناء مناقشات تغييره، بكثيرٍ من الأريحية والعمق وسِعة الصدر ورحابة التفكير.
1/حفظ الدين
ومعناهُ مجموع العقائد والعبادات والأحكام التي شَــرَّعها الله سبحانه وتعالى لأجل تنظيم علاقة الناس بربهم وعلاقات بعضهم ببعض، حيث قصد الشارع بتلك الأحكام إقامة الدين وتثبيته في النفوس، وذلك باتباع أحكام شرعها الله واجتناب الأفعال أو الأقوال التي نهى عنها، والحفاظ على الدين أو حرية الاعتقاد لإثبات الوحدانية لله. قال عز من قال: "لا إكراه في الدين" (الآية 256- سورة البقرة)، و فسر العلماء ذلك بأن هنا تكمن حرية الاعتقاد وأن الإسلام لا يُــكرِهُ أحداً على اعتناقه، فمن شاء فليعتنق الإسلام، ومن شاء أن يعتنق دينا آخر. فالآية جاءت قطعية وحسمت حرية الاعتقاد "لا إكراه في الدين". وعليه، فإنَّ كل ما يرتبط بالفلسفة الجنائية المرتبطة بحرية المُعتقَــد يجب تحريرها من كل الإكراهات التي تُضَيِّقُ الخناق على حرية التدين وحرية المعتقد، تطبيقا لقوله عز وجل "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
2/حفظ النفس
لأجل حفظ النفسوبقاء النوع البشري على الوجه الأكمل، فقد شرع الإسلام الزواج والتناسل، لقوله عز وجل: "انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا" (الآية 3 - سورة النساء). كما أوجب لحماية النفس تناول ما يَــقِــيهَا من ضروري الطعام والشراب والكساء والسكن، لقوله تعالى :"كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون" (الآية 19 - سورة الطور)، وأوجب دفع الضرر عنها، ففرض القصاص والدية، لقوله عز وجل: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" (الأية 179- سورة البقرة)، وحرم القتل بغير حق، لقوله تعالى: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" (الآية 32- سورة المائدة)، وحرم أيضا كل ما يلقي بها إلى التهلكة لقوله تعالى: "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (الآية 195، سورة البقرة).
تأسيساً على كل ذلك، يتبين أن حفظ النفس هو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية. وهنا نلاحظ كيف دافعت الشريعة عن الحق في الحياة. ومنه يتضح أن الفلسفة الجنائية التي لازلت تقضي بحكم الإعدام ووضع حد للحق في الحياة، في حاجة ماسَّةٍ إلى مراجعة عميقة، مادام أنَّ الشريعة الإسلامية تعطي لحفظ النفس مقصداً أسمى، بل هناك من قدمه على الدين، فقد قال أبو حامد الغزالي بأن "حفظ الأبدان مُقَدَّمٌ على حفظ الأديان".
3/حفظ العقل
لقد أوجب الشارع سبحانه الحفاظ على العقل، فَحرَّمَ كُــلَّ مُسكرٍ، وعاقب من يتناوله وما يُذهِبُ العقل، فكل مُسكر أو مشروب أو معجون أو مطحون يُــذهب العقل حرَّمَهُ الشارع حفاظا على العقل. وهنا نلتقي فلسفة التخدير في القانون الجنائي، لا سيما من خلال أحكام هذا الأخير التي تعاقب بناءً على السُّــكر والإسكار، حيث أن الشرع وجد أنَّ العلة في تحريم المخدر والمسكر هي إذهاب العقل. فالمشروبات الروحية، وما شابهها، إذا استُــعملت بما لا يُــذهب العقل، هل ستنتفي العلة معها أم تبقى العلة قائمة؟ هل ينتفي الحكم أم يبقى الحكم قائما؟ مادام أن العلة والحكم مُــرتبطان وجودا وعدما؟؟
4 / حفظ النسل
ولقد شرع لإيجاده الزواج للتوالد والتناسل، وشرع لحفظه وحمايته حَــدُّ الزنا وحد القذف. وقد قال الله تعالى: "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (الآية 21- سورة الروم).
إنَّ الغاية والعلة من الزواج السكن والمودة والرحمة، والتوالد طبعا والإنجاب. والعلة في تحريم الزنا هي تجنب اختلاط الأنساب. والفلسفة الجنائية التي تعاقب عن الزنا وتُجرِّمُ العلاقات الرضائية تنبني على روح هذا المقصد الذي يعتبر العلة في تفادي اختلاط الأنساب. وهنا نتساءل جميعا: هل إذا تم ضبط النسل وانتفت علة الاختلاط بوسائل علمية وطبية جينية، أو بعمليات جراحية، وهنا يُطرح بابُ الإجهاض أيضا، هل في تلك الحالات يمكن أن نتحدث عن انتفاء الأساس الشرعي والمقاصدي للحكم؟ أم يبقى الحكم قائما؟ من هذا التساؤل ينبغي مراجعة الفلسفة الجنائية في ما يرتبط بالعلاقات الرضائية وبالإجهاض.
5/ حفظ المال
لقد أوجب الشارع، للحفاظ على المال، السعيَ في طلب الرزق، لقوله عز وجل:" فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الآية 15 - سرة الملك)؛ وأباح المعاملات والمبادلات والتجارة لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى" (الآية 282- سورة البقرة). وللحفاظ عليه حرم السرقة والغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل لقوله تعالى: "وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ" (الآية 188 – سورة البقرة)، وعاقب على ذلك. وشرع أيضاً عدم تبذير الأموال، لقوله عز وجل :" وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (الآية 31 - سورة الأعراف).
وهنا يتضح أنَّ المقصد العام للشريعة من خلال تحريم الغش والسرقة والخيانة والتبذير في أموال الناس هو حفظ أموالهم وعدم أكلها بالباطل.
وبالتالي، فالسياسة الجنائية في حماية أموال الناس والأموال العامة يجب أن تنطلق من هذه الفلسفة، ويجب أن يعود إليها مفهوم التناسب بين الجرائم والأحكام. ونقف عند قوله عز وجل: "فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِى ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا" (الآية 71 – سورة الكهف). إلا أن هذا الخرق يبدو مُجَــرَّماً قانونًا، لكنه كان مؤيداً بوحي وتوفيق من الله، لأنه بهذا الخرق يحفظ حقوقا وأموالا أخرى كانت ستضيع على المساكين الذين يعملون في السفينة. إنها الفلسفة الشرعية التي أجازت شرعاً ارتكاب ضرر لجلب منفعة، في الشريعة الإسلامية. وقد مثلنا في ذلك بقوله "فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِى ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا" (الأية 71- سورة الكهف).
في ختام هذا المقال الأول؛
حاصل القول: يبدو أن الفلسفة الجنائية في حاجة إلى مراجعة جديدة على ضوء مقاصد الشريعة، اعتمادا على العلة من أحكام الشريعة كأساسٍ في إعادة صياغة الأحكام الجنائية. وهذا ما سنتناوله في المقالات المقبلة التي سننتقل خلالها من النظرة الفلسفية والرؤية المقاصدية للكليات الخمس في الشريعة الإسلامية، إلى النظرية التطبيقية، وإلى القواعد والفصول والأحكام الموجودة داخل مجموعة القانون الجنائي أو في المسطرة الجنائية أو مدونة الأسرة، أو في غير ذلك من التشريعات المتفرقة ذات الصلة، وذلك لأجل تقديم اقتراحاتٍ ملموسة، اجتهاداً منا في سبيل إيجاد نصوصٍ تشريعية أكثر تفاعلاً وأشد التصاقاً مع متغيرات العصر وتطورات المجتمع المغربي الذي يبدو أنه سائرٌ بخطىً حثيثةٍ ومتسارعةٍ، لكن هادئة ورصينة، نحو آفاقٍ أرحب من الحداثة والتحديث.
والله ولي التوفيق.
* نائب برلماني؛ باحث في الشؤون الدينية والسياسية؛
مدير المركز المغربي للقيم والحداثة؛
دكتور في القانون الدستوري وعلم السياسة؛
دكتور في العقائد والأديان السماوية