محمد عابد الجابري ... جدل الفلسفة
يوم رحل المفكّر المغربي محمد عابد الجابري في الثالث من أيار(مايو) 2010 استعدتُ عدداً من مؤلفاته وكتبه، فضلاً عن العلاقة التي ربطتني به منذ أواخر التسعينيات.
وكان أول منجزه كتاب "العصبية والدولة" وهو أطروحته للدكتوراه (1970). أما مشروعه النقدي الباذخ "نقد العقل العربي" فإنه يتألف من أربعة أجزاء هي: "تكوين العقل العربي"1984، و"بنية العقل العربي"1986، و"العقل السياسي العربي" 1990 و"العقل الأخلاقي العربي"2001، إضافة إلى كتاب"نحن والتراث"2007 و"الخطاب العربي المعاصر"1983.
وقد ساهمت قراءاته في نقد التراث والفكر العربي على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن في إثارة جدل وحوارٍ واستقطاب بين النخب الفكرية والثقافية بتياراتها المتعدّدة بتقاطعاتها وإلتقاءاتها بحثاً وتأصيلاً ولم يتوانَ عن تعميق منهجه مقدِّماً أعمالاً جريئة وإشكالية في الآن، سعيَاً لإثارة أسئلة ساخنة حول مستقبل العقل العربي بإعادة قراءة التراث من منظور جديد فرفد المكتبة العربية بالعديد من المؤلّفات المتميّزة.
وكانت رباعيّته في نقد العقل العربي ذروة مشروعه النقديّ الذي اكتمل بمنجزه الأخير "مدخل إلى القرآن الكريم" المؤلف من ثلاثة أجزاء، لاسيّما في التعريف بالقرآن وأسباب النزول والكتاب الحكيم، وهو عصارة لفكره وتعميم وتعميق لاستنتاجاته، ويوم وصله خبر صدوره هتف من الأعماق قائلاً: "الآن يمكن لعزرائيل أن يزورنا"، وذلك لاعتقاده بأنّ هذا الإنجاز ذروة ما يريد أن يقوله.
يعود الفضل لمركز دراسات الوحدة العربية والدكتور خيرالدين حسيب في إلفات نظري إلى الجابري الذي لم أكن قد قرأت له حتى أواخر التسعينيات، ولكن نشر المركز لكتبه جعلني من المتابعين والمهتمّين بقراءة أفكاره ومسارها وتطورها ومنهجيتها، خصوصاً حين بدأت معرفة أوليّة بيننا تعمقت مع مرور الأيام حيث إلتقيته مرات عديدة في بيروت والرباط والدوحة وغيرها، وكان آخر لقاء لي معه في الرياض في مهرجان الجنادرية الثقافي، قبل رحيله بعامين على ما أذكر.
لقد بدأ الجابري أطروحاته النقدية بخصوص التراث والعقل في إطار خطة معرفيّة أخذت تتكامل وتتطّور في مسيرته الفكرية، لاسيّما اهتمامه بالفكر العربي -الإسلامي تدريساً وبحثاً وتأليفاً، من خلال عمله باحثا في الفلسفة ومدرّساً لها في الآن نفسه، وقد أنجز بعض الدراسات عن الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، وهو ما جمعه في كتاب أشرنا إليه بعنوان "نحن والتراث".
والمسألة، بحسب الجابري، تعود إلى عصر التدوين الذي يعتبره الإطار المرجعيّ للعقل العربي حيث تأسست الثقافة العربية-الإسلامية على 3 عناصر هي:
1- البيان (العقل البياني) أو حسب تسميته "المعقول الديني العربي" وفيه يمكن قياس الغائب على الشاهد كمنهج في إنتاج المعرفة، ويشمل هذا الحقل علوم البيان من نحو وفقه وكلام وبلاغة (اللغة والدين).
2- العرفان (العقل العرفاني) وهو ما أطلق عليه مصطلح "اللاّمعقول العقلي"، وهذا يشمل التصوّف والفكر والفلسفة (الشيعة والإسماعيلية) وتفسيرات "باطنيّة" للقرآن، إضافة إلى علوم الكيمياء والطب والسحر والفلك. وأُسست هذه على "الكشف والوصال" و"التجاذب والتدافع" واستمدت أدواتها من المواريث القديمة.
3- البرهان أو"المعقول العقلي" ويعتمد على الملاحظة والتجريب والاستنتاج العقلي (كمنهج)، أيّ المعرفة العقلية المؤسَسة على مقدمات عقلية وتشمل الفلسفة الأرسطية بما فيها من منطق ورياضيات وطبيعيات وميتافيزيقيا.
جدير بالذكر أن الجابري وهو يعرض هذه المنظومة الكلاميّة المُتداخلة يؤكد على دور العامل السياسي الذي يرّجح كفة "عقل" على آخر، ويقمع "عقلاً" ليُعلي من شأن آخر، أيّ عقل مقابل عقل وذلك لمصالح أنانية ضيقة.
ابن رشد والرشدية
انشغل الجابري بابن رشد بشكل خاص، وأعاد نشر أعماله بتحقيق علميّ جديد محاولاً الإضاءة عليها بمداخل مهمة، ولاحقاً أعاد نشر العديد من نصوصه، لأنه رأى في الطبعات السابقة مشوّهة، وبالتالي فهي "خائنة" للنص الرشدي حسب تعبيره. وألّف كتاباً عنه بعنوان "ابن رشد: سيرة وفكراً"، وضع فيه خلاصة ما توصّل إليه في دراسة المتن الرشدي، وجعله مدخلاً محورياً لكل مهتم بالدراسات الرشدية.
ويعتقد الجابري أن ابن رشد هو الممثّل للتراث العقلاني في الحضارة العربية-الإسلامية. ويمكن استلهامه في نهضة جديدة، وهو ما لخصه بقوله: ما تبقى من تراثنا، أي ما يمكن أن يكون فيه قادراً على أن يعيش معنا عصره، لا يمكن أن يكون رشديأً. فالرشدية في الفكر العربي تعادل الديكارتية في الفكر الغربي، ولذلك أُطلق عليه مغاربيّاً، وحتى عربيّاً "شيخ الرشديين"، فثمة علاقة وثيقة بين الجابري وابن رشد ويمكن اقتفاء أثر الرشدية في فكر الجابري.
تحدّث الجابري عن قطيعة إبستمولوجية أنجزها فكر ابن رشد مع "الفلسفة الإشراقية" لابن سينا على حد تعبير الصديق المفكر عبد الإله بلقزيز، وهذه قادت إلى قيام عقلانية رشدية أرسطية، وكان ذلك بمثابة مرجعية لعقلانيته هو بالذات، وقد سبق له قبل هذه الفترة أن اهتم بعلم الكلام والتصوَّف وفيما بعد بأصول الفقه، إضافة إلى الفلسفة.
وإذا أردنا تتبّع خيط نقد العقل العربي، فيمكن أن نعثر على أولوياته في كتاب "الخطاب العربي المعاصر"،حيث بدأ التتابع عن "التكوين" و"البنية" و"السياسة" و"الأخلاق" في إطار منهج نقدي مُهنْدَس على منهجية الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط الذي قسّم العقل إلى نظري وعملي، اقتفاءً بأثر الفلسفة الإغريقية التي اعتمدت بحث الفلسفة النظرية والفلسفة العقلية. فالجزآن الأولان هما للعقل النظري والجزءان الثانيان هما للعقل العملي، ودخل العامل التاريخي في الجزءين الأخيرين في قراءة نقدية للعقل السياسي والأخلاقي العربي.
فرّق الجابري بين العقل المكَوَّن والعقل المكّوِن، وشدّد على نقد الأول ودوره في الثقافة العربية، وقد أجرى مقارنات مفيدة بينه وبين العقل اليوناني والعقل الأوروبي، الحديث والمعاصر. ويرى الجابري أن العقل العربي متخلّف ومقلِّد للغرب ولا يستطيع التخلص من هذا المصير، لأن ثمة خلل جوهري في تكوينه الثقافي والحضاري، وهو راكد ويعيد إنتاج نفسه في دورة اجترارية مغلقة، وإذا كنّا ذكرنا مكوّنات الثقافة العربية: البيان والعرفان والبرهان التي يضعها في نظم معرفية، متداخلة وممزوجة أحياناً بشكل نافر مُسلطاً الضوء على فكر ابن حزم والشاطبي وابن رشد الذين أسسوا لثقافة رائدة في الأندلس، سواء في مجال الفقه أو الفلسفة.
التراث بزواياه المختلفة
يمكنني أن أضع مشروع الجابري بين مشاريع أخرى، وهي ما يمكن قراءته من زوايا مختلفة ومتعدّدة، سواء تقاطعت أم تواصلت هذه المشاريع. وإذا استثنينا القراءة السلفيّة السكونية المتلقيّة، وكذلك القراءة الاغترابية الإسقاطية على التراث، فيمكن أن نذكر هنا القراءة الآيديولوجية والمعلمنة أو المعقلنة استناداً إلى رؤية الجابري. ومن المفيد الإشارة إلى قراءات تتداخل فيها الرؤى وإن اتّخذت منهجاً أحادياً تاريخياً مثل كتاب "التراث والثورة" للطيب تيزيني(سوريا) و"النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" لحسين مروّة(لبنان)، و"نقد العقل الإسلامي" لمحمد أركون(الجزائر) و"من العقيدة إلى الثورة" لحسن حنفي(مصر)، ويمكن أن نضيف قراءة هادي العلوي(العراق) وخصوصاً كتابه "فصول من تاريخ الإسلام السياسي".
تجديد العقل
لا تعني دعوة الجابري إلى تجديد العقل إلاّ إحداث نوع من القطيعة في تكوينه وبنيته منذ عصر الانحطاط الممتد إلى الآن، وهو ما جعل منهجه عرضة للنقد كما سنأتي إلى ذلك. وقد رأى الجابري أن التجديد يتطلّب البدء من داخل العقل العربي ومن تراثه اعتماداً على آليات عقلانية مستوحاة من الثقافة الإنسانية في محاولة لتوطينها أو تبيئتها، وحين تصدّى للتراث فلأنه حسب وجهة نظره غير ثابت أو ساكن وذلك في محاولة لتنقيته مما علق به من ترهات وتخليصه من عبء التقديس (السلفيون) كما يريد البعض أو ثقل التدنيس كما يهوى (التغريبيون).
وقد شمل النقد منطلقات الجابري ومنظومته الفكرية، استناداً إلى آراء الفرقاء المختلفين، فنقد السلفيين هو غير نقد التغريبيين، ونقد دعاة العلمنة هو غير نقد من يقرأ التراث بعين الحداثة دون أن يلغيه. وهناك نقد تشكيكي شمل أمانته العلمية ومصادره وصولاً إلى اجتهاداته واستنتاجاته، ولأنه لم يرد على جميع هذه الاتهامات أو الانتقادات فقد وُصِفَ بالتعاليّ المعرفي في حين أن من يعرف الجابري يعرف مدى تواضعه، ناهيك عن شخصيته المتسامحة.
لكنه كما أعتقد لا يريد الانشغال عما يعطلّه عن انجاز مشروعه التاريخي، فمضى غير آبهٍ أو ملتفت إلى بعض الإستدراجات لجرّه إلى نقاشات أو سجالات شعبوية، وإن كان قد جاء على بعض الانتقادات إلا أنه لم يشر إليها وإنما حاول معالجة بعضها في كتاباته اللاحقة، ولم يرغب في الاستغراق في بحر من الردود والردود على الردود التي لا ضفاف لها.
مع حسن حنفي
في حواره مع المفكر المصري الإسلامي المتنّور حسن حنفي والموسوم "بين المشرق والمغرب"، توسعت دائرة الجدل وشملت مواضيع عديدة، وقد نشرت على حلقات في مجلة "اليوم السابع"، ثم صدرت في كتاب بعنوان "حوار المشرق والمغرب" وهو من تحرير الصديق فيصل جلول، وطبع أكثر من طبعة. ويتمثّل رأي الجابري بأنه لا يتعّصب للمغرب، بل يؤمن أن المغرب مشرق وأن المشرق مغرب ولن يفترقا، وكما يقول: نحن إخوة، أبناء عم واحد، لكن ربما من أمهات عديدات، لسنا توأم، بل نحن إخوة.
تناول الحوار 10 محاور ناقشت عدداً من القضايا الأقرب إلى التساؤلات، منها: "الأصولية والعصر" و"العلمانية والإسلام" و"الوحدة العربية: إقليمية أم اندماجية" و"التقليد والحداثة" و"مشروعية النضال الفلسطيني".
وساهم في الطبعة الثانية تحت عنوان "حق الرد" كتّاب ومفكرون اشتبكوا بحوارات أخرى مع كل من الجابري وحنفي، منهم صلاح أحمد إبراهيم وجورج طرابيشي وأحمد عبد المعطي حجازي ورضوان السيد، وقد شمل الكتاب تعقيبات الجابري وحنفي على ملاحظات المشاركين النقدية. وتُسجل للجابري عبارة "تمشرق المغرب وتمغرب المشرق"، حيث بيّن وشائج القربى الروحية المتينة بين جناحيّ العالم العربي. وكان الجابري يبحث عن نقاط الالتقاء التي بالإمكان وقوف الجميع في كتلة تاريخية لمواجهة المصير المشترك.
والأمر لا علاقة له بفكرة الكتلة التاريخية التي بلورها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي. وكان خيرالدين حسيب يشاطر الجابري الرأي في مفهوم الكتلة التاريخية، التي هي عبارة عن تحالف بين التيارات السياسية القومية العربية والإسلامية واليسارية في إطار المشروع النهضوي العربي. وقد سبق لي أن ناقشت حسيب بشأن مفهوم الكتلة التاريخية ومدى انطباقه على التجارب العربية، حتى وإن اعتبرنا المسألة أقرب إلى تحالف سياسي فإن مستلزماته لم تكتمل ناهيك عن تعارضات شديدة بين أطرافه بالقرب أو البعد عن السلطة وما ينطبق على رؤية حسيب ينطبق على رؤية الجابري، ويمكن العودة إلى مقالتي المنشورة في مجلة المستقبل العربي والموسومة "الرياضة النفسية والمثقف الكوني والكتلة التاريخية" العام 2016 .
مع جورج طرابيشي
لم يترك طرابيشي شاردة وواردة خلال ربع قرن إلاّ وردّ فيها على الجابري، فقد قام بتعّقب منجزه الفكري وتفكيكه لنقده، فمثلاً عن كتاب "تكوين العقل العربي" الذي أثار نقاشاً حاميّاً وجدلاً واسعاً في الساحة الفكرية والثقافية العربية ووضع الجابري في موقع المفكر القارئ للتراث والمُجدد والعقلاني وصاحب مشروع شامل وجامع، قال طرابيشي قبل أن ينتقل إلى الخصومة الفكرية "إن من قرأه لن يعود مثلما كان قبل أن يقرأه". ولكنه عاد وانتقد الجابري على اقتطاعه فقرات والإتيان باستشهادات مبتورة عن سياقها التاريخي، ناهيك عن تفسيرات مغلوطة حسب تعبيره. وهي اتهامات أقرب إلى المساس بالذمة الأكاديمية.
ليس هذا فحسب، بل إن طرابيشي ألفّ أربعة كتب في نقد الجابري وعنونها "نقد نقد العقل العربي" على غرار ما كتبه الغزالي في نقد ابن رشد، تهافت الفلاسفة، فرّد عليه بكتاب "تهافت التهافت".
لم يرّد الجابري على طرابيشي، واكتفى بقوله "أنا لا أساجل غير مسلم في شؤون الإسلام". وبغضّ النظر عما جاء به طرابيشي وبعضه يستحق التأمل وإعادة القراءة وبعضه مبالغ فيه ولا يخلو من الإغراض في الانتقاص من الآخر، إلاّ أن الجابري بعبارته تلك أغلق باب الجدال والنقاش، منصرفاً إلى مشروعه الفكري، ولم يرغب أن تفلت لحظة من بين أصابعه في سجالات تبعده عنه، علماً بأن رداً من هذا القبيل، وهو مساهمة أخرى في نقد العقل العربي، كان يمكن التعاطيّ معها بأريحية وتقبّل، سواءً كان الأمر قد جاء على لسان مسيحي كتابيّ أو مستشرق أو حتى غير مؤمن، فالمسألة لا تمت إلى الإيمان أو الدين بصلة.
مع طه عبد الرحمن
انتقد طه عبد الرحمن، الجابري في مسألتين أولهما: النظرة إلى الرشدّية، وثانيهما: النظرة إلى التراث. فالجابري وعبد الرحمن على طرفيّ نقيض فيما يتعلق بالموقف من ابن رشد وأفكاره، ففي حين يؤيد الجابري الحاجة المعاصرة إلى ابن رشد والرشدية كمفاهيم عقلانيّة، فإن عبد الرحمن يرى جمود ابن رشد على حرفيّة النص الأرسطي، ولذلك فقد أخذ عبد الرحمن على الجابري الوقوع في آفتين، هما: الأولى: آفة التعارض بين ادعاء التكامل والعمل التجزيئي، والثانية: آفة القصور في تحصيل المقتضيات الإجرائية للآليات التي وقع التوّسل بها في تقديم التراث.
ويتهم عبد الرحمن، الجابري بأنه يقوّل الكتّاب ما لم يقولوه ويسيء التصرف في النصوص، وهي نفس ملاحظة طرابيشي المذكورة سابقاً، كما أنه لا يُجيد التعريف، ناهيك عن سقوطه في التناقض وعجزه عن النقد والتمحيص، وعدم تمكّنه من الأدوات المنهجيّة. وقد جمع عبد النبي الحرّي آراؤهما في كتاب يفصل خلافهما حول المشروع الرشدي بعنوان "طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري- صراع المشروعين على أرض الحكمة الرشدية".
ولم يعقّب الجابري أو يرد على انتقادات طه عبد الرحمن، ولم يدخل في سجال معه على الإطلاق، علماً بأن الأخير تناول معظم أعماله بالنقد، سواء في استدلالاتها أو رؤيتها ومنهجها في قراءة التراث، والرد الوحيد الذي جاء على لسانه قوله "كان حرّياً به (المقصود عبد الرحمن) أن يقول أنا لا أفهم ما يقوله الجابري"، وهو رد يشبه إلى حدود كبيرة رده على طرابيشي.
القبيلة والغنيمة والعقيدة
قال الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي" إن القبيلة والغنيمة والعقيدة محددات ثلاث حكمت العقل العربي الماضي وما تزال تحكمه. والتجديد يتمثّل في تحويل القبيلة إلى مجتمع منظم مدنيّاً واجتماعيًّا وسياسيًّا، وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد منتج وضرائب وغير ذلك، وتحويل العقيدة إلى رأي أو فكر قابل للتعامل معه بعقل اجتهادي ونقدي.
وقد جاءت على هذه الثلاثيّة في مناظرة حول "الديمقراطية وآفاقها المستقبلية" حيث كنت وإياه على المنصة في الدوحة العام 2001، وهي أطروحات حاول تعميمها فيما يتعلق بالحاضر. في حين تناولتُ أنا المنطلقات النظرية ودور الطبقة الوسطى وأهمية الوعي الديمقراطي، لاسيّما بوجود قوانين ومؤسسات وقضاء مستقل، لإحداث التغيير والتحول الذي يحتاج إلى تراكم وتطور بطيء وتدرجيّ، بما فيه من احتمالات تراجع ونكوصٍ.
وفي كتابي "تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف" 2009 حاول محاوري خضير ميري أن يسألني عن محمد عابد الجابري وبُنية العقل العربي، وكان جوابي أن مشروعه مهم بتسليط ضوء على التراث ومشكلاته وتقديم قراءة جديدة ومفتوحة له، فقد حرّك الكثير من المياه الراكدة.
وأعتقد إن فحص بنيان العقل العربي في ضوء مناهج البنيوية، إنما يقع في حقل الابستومولوجيا النظرية وهو حقل دراسي مفتوح، ولا يمكن عدّه مشروعاً واقعياً أو معالجة جذرية. إنه منهج قراءة وليس للمناهج التي من هذا النوع نصيب من الصواب والخطأ، وبالتالي فان هناك مساحات فكرية في الخطاب العربي المعاصر تمارس نوعاً من القراءات على خطاب غربي أو مناهج أو أطروحات تفيد عمل نظريات المعرفة. وهكذا تصّح مقولة ماركس "ليست الأجوبة وحدها هي الزائفة، بل الأسئلة كذلك".
كما وردت الإشارة إلى الجابري في كتابي "دين العقل وفقه الواقع" فالعصبية لدى الجابري تعبير عن البعد السياسي والغنيمة تتعلق بالبعد الإقتصادي. أما العقيدة فهي تمثّل البعد الفكري وهو ما ورد في كتابه "التراث والحداثة- دراسات ومناقشات".
ووردت الاشارة لاستخدامه الفكر العربي بوصفه أمراً من البداهة. مثلما نقول "الفكر اليوناني" و"الفكر الهندي" و"الفكر الفرنسي" وذلك ارتباطاً بمضمون الفكر ومحتواه وأدواته ليتسع بحيث يشمل كل ما أنتجه العرب من أفكار أو يستسهلون منها في التعبير عن نظراتهم إلى الحياة والى المحيط الخارجي والعالم والكون. هكذا إذن يمكن اعطاء الفكر القدرة على : التأمل والتدبر والتفكر والتعبير والتعقل والتنظيم. وقد يكون عربياً معين يفترض باللغة والثقافة والفضاء الحضاري كما نطلق عليه "العروبة" لغة ثقافة وتاريخاً وجغرافيا وبكل ما يخص العرب وحياتهم في مختلف العصور، حيث ساهموا في نشأة ثقافة عربية تختلف بفنونها وآدابها وعلومها. وحين نتحدث عن الفكر العربي المعاصر فذلك لأنه منشغل بهموم عصرنا بالنشاط الإنساني.
وقد لاحظ الجابري أن التصنيف الشائع القديم للعلوم الإسلامية إلى علوم نقلية وأخرى عقلية أو علوم دينية وأخرى لغوية أو علوم العرب وعلوم العجم غير كافٍ باعتماده على المظاهر الخارجية، الأمر الذي يحتاج إلى تصنيف جديد يقوم على البنية الداخلية للمعرفة وآلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية.
وكان الإمام الشافعي الذي يعتبر مؤسس المنهج في العلوم البيانية، وبخاصة كتابه "الرسالة" قد قال "ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلّ أو حُرمٍ إلاّ من جهة العلم، وجهة العلم: الخبر في الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس" (وهذه مصادر الشريعة في الفقه الإسلامي، ويمكن إضافة الاجتهاد إليها).
أما علوم العرفان حيث يقدم العقل استقالته فتبدأ مع الترجمة في عهد خالد بن يزيد بن معاوية، حيث تمت ترجمة علوم الكيمياء والتنجيم والطب اليونانية، ويعود دور نشرها لجابر بن حيّان والرازي وللتيارات الإسلامية الصوفية وإخوان الصفا والشيعة وفلسفة ابن سينا.
وكانت مرحلة علوم البرهان في عهد المأمون الذي أمر بترجمة الفلسفة اليونانية، وكان الكندي هو الذي أكد أن الفلسفة يمكن أن تكون حسيّة أو عقلية أو إلهية (أداتها الرسل والتبليغ) وحاول الفارابي التوفيق بين أرسطو وأفلاطون متوصلاً إلى أن العرفان إنما هو ثمرة البرهان.
ورفض ابن رشد إضافات الفارابي وابن سينا واحتفظ بالصورة النقيّة للفلسفة الأرسطية، وهكذا تكونت الحقول الثلاثة البيانية والعرفانية والبرهانية، وإن تداخلت بعضها مع بعض أحياناً، حيث اعتبر ابن رشد الشريعة صنو الحكمة وأختها الرضيعة، علماً بأن الجابري اعتبر محاولة ابن رشد متأخرة، إذ كان العقل المستقيل قد انتصر في حركات صوفية وشيعية، حين اختلطت الروافد، فأحدث أزمة في أسس الفكر الإسلامي وسبّب في شقاء الحقيقة بسبب الجمود والتقليد وتحريم الاجتهاد والتفكير العقلي.
يقول الجابري تعليقاً على منهج ابن رشد: كانت الرشدية قادرة على طرق آفاق جديدة تماماً، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن في أوروبا حيث انتقلت وليس في العالم العربي، حيث اختنقت في مهدها، ولم يتردد في صيحتها الأولى "صيحة الميلاد" أيّ صدى إلى اليوم كما جاء في كتابه "بنية العقل العربي".
لقد حاول الجابري تأصيل الأصول في الفقه وفي منهج التفكير في الشريعة، ودعا المجتهدين الراغبين في التجديد حقاً والشاعرين بضرورته فعلاً إلى القواعد الأصولية نفسها لإعادة بنائها وفقاً لمنهجية جديدة.
كما سعى إلى تأسيس منظومة معقلنة للأحكام الشرعيّة، أي استخدام المقاصد والمصالح أساساً للتشريع وربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها، حيث يقول إن "عملية تأسيس معقوليّة للأحكام هي العملية التي بدونها لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات ولا على الظروف والأحوال المختلفة المتباينة، ولما كان مقصد الشارع الأول والأخير هو مصلحة الناس (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران:97]. فإن المصلحة هي التي تؤسس عليها المعقوليّة وهي أصل الأصول كلها، وهذه تجعل الاجتهاد ممكناً، ولا سبيل إلاّ للمقاصد والمصالح بربط الأحكام بأسباب النزول وظروف العصر وأحواله المتغيرة.
خلّف لنا الجابري ثروة فكرية كبيرة عملت على تفكيك العقل العربي ونقده من خلال نظمه المعرفيّة بعيداً عن الإيديولوجيات المسبقة، من خلال قراءات جديدة هي امتدادٌ لسؤال النهضة من داخل التراث العربي-الإسلامي. وأعتقد أن الأسئلة التي طرحها الجابري ما تزال راهنيّة وهي شغل شاغل للعديد من المفكرين والباحثين الذين بإمكانهم وضع بصماتهم أيضاً على طريق نقد الفكر العربي ومسلّماته، ابتداءً من العلاقة بالتراث والتاريخ وكيفية قراءتهما خارج منظور التأييد أو التنديد، بل باستشراف منطلق التجديد والتغيير وتلك سمة العصر.
*انظر: الحوار المتمدن" 16/7/2010، وقد وردت بعض الإشارات إلى الجابري في مقالتي الموسومة "حين يرحل المفكر مطمئناً" قراءة إنسانية سوسيو ثقافية لرحيل أربعة مفكرين، وهم السيد محمد حسين فضل الله وألفريد هاليدي ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري، كما وردت اشارات إلى الجابري في كتابي "تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف"، الدار العربية للعلوم، بيروت 2009.