رَهَانَاتُ الوَاقِعِ التَّعلِيمِيِّ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ

 رَهَانَاتُ الوَاقِعِ التَّعلِيمِيِّ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ
بليغ حمدي إسماعيل
الأربعاء 4 ماي 2022 - 9:58

أ ـ مشهد رأسي على واقعنا التربوي المعاصر : 

من أجل تطوير التربية العربية الراهنة ، فنحن بحاجة ماسة إلى تجديد الخطاب التربوي نفسه ، وإيجاد إطار مرجعي يحكم الظاهرة التربوية التي تمارس في مؤسساتنا التعليمية الضاربة بالوطن العربي شرقا وغربا ، وإذا كانت الحياة اليوم تتسارع بصورة رهيبة ، فبات أولى الاكتراث بضرورة تنويع خطابنا التربوي العام مستهدفين خلق جيل جديد من الطلاب يستطيعون مواجهة تحديات المستقبل . وإذا كانت التربية الفوقية التي تصدر عن صانعي القرار التعليمي لا تعكس واقعنا المدرسي الحقيقي ،وهذا يزيد من تفاقم أزمة التربية التي قد تشارف نهاياتها إذا لم ندرك المفارقة القيمية بين قرار تربوي يصدر ، ومشهد تعليمي مغاير .

فحتى الذين لا يدركون كنه التربية ، يفطنون حد اليقين أننا على مشارف نهايتها التي تبدو منطقية بعض الشئ ، وهذا الوعي الذي امتثل ليقين الفعل جاء من سؤال مفاده هل تمتلك المؤسسة التعليمية العربية مقومات التربية ؟ . والسؤال بهل يقتضي دوما إجابة بالإيجاب أم بالنفي ، وفي المشهد التعليمي الراهن وفي ظل أزمات التربية المتلاحقة تغدو الإجابة الحتمية بالنفي غالبا . 

ومشارف النهاية تجئ على عجل كوننا على كفاءة ومهارة في توصيف واقعنا التربوي ، وتوافر إمكاناتنا الهائلة في رصد الخلل ومواضعه ، والتردي ودوافعه ، وهذه سنتنا التي لا تنقضي أننا نجيد توصيف العَرَض وسرده ، ثم ندخل في حالات من الجدل الواسع في علاج المرض ، الأمر الذي يؤدي بنا دائما إلى تبني سياسات تربوية لا تتوافق مع واقعنا الراهن ومستقبلنا الذي يبدو غامضا معرفيا وتعليميا . وهذا الجدل يعكس قصورا شديدا في العلاج.

تلك مقدمة تدفع القارئ إلى تعكير صفو سعادته ، وربما إيقاظه على حقيقة صادمة بأن أبناءه الذين يذهبون كل صباح إلى مؤسسته التربوية لا تفي بمسئولياتها ، ولا تكترث بأنها تقدم أكبر خدمة إنسانية لأبنائه وهي أن يستحيل عضوا فاعلا في مجتمعه ومن بعد وطنه العربي الكبير . 

ب ـ ويسألونك عن التطوير ؟ : 

ويسألونك عن التطوير التربوي ، وسيخرج عليك رجال يدغدغون أسماعك بأحاديث تشبه حواديت جدتي عن ملامح تطوير التربية ، والدور التنموي للمدرسة والواقع يشير إلى أننا بالفعل لا نقدم تربية ممكنة التحقيق ، فالمؤسسة التعليمية صارت مشغولة بفعل السياسات التعليمية والقوانين المنظمة لها بالتحصيل والترويج لثقافة الاختبارات والدرجة النهائية ولا تهرول إلى صيحات تنمية القدرات أو تعديل الاتجاهات وتنمية المواهب وتعزيز الإمكانات المتاحة لتلاميذنا ، فكل هذه الأمور ورقية تزين أرفف وجدران مؤسساتنا التعليمية وخير دليل حرص بعض المحافظين على تتبع مراكز الدروس الخصوصية لأن المدرسة بالفعل صارت ورقة امتحان ودرجة نهائية ومرحلة لاحقة ينتقل إليها الطالب .

ونحن بالفعل أمام ملامح عصية على التأويل وصعبة المراس في تفسيرها أيضا ، تلك الملامح التي لا يمكن حصرها وقصرها على وجود إدارة تعليمية فاشلة وباهتة وأكثر خيبة لواقع تعليمي متأزم بالفعل ، ولا على مستوى المعلم الذي صار ينتظر قرارات وزارته كمن يقبع خلف باب زنزانته انتظارا لأخذه غرفة تنفيذ حكم الإعدام من خلال قرارات وتعليمات ودورات تدريبية وهمية وورش عمل كارتونية ، وتطبيق أنظمة لا تصلح لبيئة تعليمية تحتاج إلى تطهير شامل وكامل .

وماذا أيضا ؟ نكتشف على الدوام أننا نمارس قبيل المعاناة عشوائية في التخطيط التربوي لمؤسساتنا التعليمية ، وبسؤال لأحد أساتذتي الذين غفل عنه صانعو القرار التربوي رغم أنه الرائد في مجال التربية الراهنة عن عدم وجوده في مكان صناعة القرار التربوي أفادني بأن السياسة التعليمية العربية منذ سنوات بعيدة لا تشجع على الاستقرار ، وأن القادم يطبق فكرة تربوية ستمحي بعد زوال منصبه وهكذا ، أصبحت لدينا قناعة بأننا نعشق الانطلاق من نقطة الصفر .

ونقطة الصفر الغالبة على سياساتنا التربوية تجعلنا نؤكد على ملمح رئيس للتربية العربية التي تشارف على النهاية ؛ أحادية الرؤية التربوية ، فمشكلة التخطيط لا تزال تقف عند عائق الأحادية وجنوحها بغير اكتراث أو اقتناع للأخذ بفكرة المشروع الجماعي للتخطيط ، حتى ورش العمل والندوات الجمعية التي تعقد ليل نهار بمؤسساتنا التربوية العربية نجدها تدور حول فكرة محددة سابقا وهو أمر محمود ، لكن غير المحمود أن هناك ثمة محاور ثابتة لا يمكن الخروج عنها رغم كوننا نردد صباح مساء بضرورة إمطار الأدمغة وتكريس ثقافة العصف الذهني للرؤى والطروحات النقدية البناءة .

ولا يمكن اقتناص أزمة المؤسسة التربوية العربية في المنتفع الأول بها ، ألا وهو الطالب نفسه ، الذي يظل المصطلح حائرا على تسميته ؛ فمرة يدعى طالبا ، ومرة أخرى تلميذا ، ومرة ثالثة متعلما بحجة الالتزام بتطبيق استراتيجيات التعلم النشط . وهو في الحقيقة رغم شغبه واستمرائه الفوضى مسكين يستحق الشفقة ؛ لأنه ضحية بعض الإدارات التعليمية الفاشلة التي قد تعاني من فقر الإعداد التربوي المهني ، ومعلم خائب لم يكترث بالحصول على درجات علمية تتخطى حاجز الشهادة الجامعية الأولى ، ومناهج بائسة انتهت صلاحيتها التعليمة في ظل عالم تربوي متسارع ومتصارع معرفيا ومهاريا. 

وإذا كنا نتحدث عن نهاية وشيكة للتربية فإن هذا يدفعنا إلى تحديد أبرز عوامل النهاية ، وهو التغيرات التربوية المفاجئة والمتسارعة ، فإذا كنا نعتقد بأننا على اتصال مستدام بالفكر التربوي الغربي فإن هذا الاتصال حقيقي فعلا لكنه بات اتصالا متأخرا زمنيا ، فالترجمة التربوية عادة تقتصر على أطروحات أكاديمية مقرها ومقامها الرسائل العلمية التي لا توظف في ميدانها الحقيقي ، وحركة الترجمة تتجه غالبا في هذه الأحايين إلى مجالات الطب والهندسة والفيزياء وكثيرا ما يكون الاتجاه صوب ترجمة إنسانيات النظريات النقدية أو تحليل النفس الإنسانية إلى مكوناتها التي لو فكر المترجمون قليلا لوجدوا علاج النفس وأصول تفسيره في القرآن الكريم .

فالترجمة بالفعل قائمة لكنها باهتة وتتناول ما أنتجه العقل الغربي منذ سنوات بعيدة ، رغم علم القائمين على القرار التربوي بأن التربية اليوم متسارعة وتصعب متابعة كل جديد بها .

ووجود حركة بطيئة للترجمة ، مع تزامن عقدة التخطيط الصفري التي أشرنا إليها منذ قليل ، يجلعنا نقف أمام ظاهرة تربوية عربية وهي تقليدية الإدارة ، فإذا كان القرار التربوي الفوقي في بعض الأنظمة التعليمية العربية لا يهتم بفكرة التخطيط للمستقبل أو جماعية اتخاذ القرار ، فإن الإدارة التنفيذية التي تدير المشهد التعليمي على مستوى المدرسة تتسم بالتقليدية وغياب الحضور عن الاستخدام الإلكتروني ، والاستخدام الإلكتروني لا يعني أن المدرسة بها معمل يشتمل على كثير من أجهزة الحاسوب المتطورة فالأمر لا يتعد حد الاستخدام والاستهلاك لا الإنتاج أو تطوير التقنية ذاتها . لكن الإدارات التربوية المعاصرة تطبق اليوم فكر الإدارة إليكترونيا وتسعى لربط المؤسسة التعليمية بالطلاب والمجتمع والمؤسسات ذات العلاقة بالتربوية عن طريق شبكة معلوماتية متخصصة تسهم في رفع الوعي المعلوماتي والمهاري لدى العاملين بالمدرسة وبالتلاميذ وتجعل شركاء المجتمع على علاقة وطيدة بإحدى المؤسسات الوطنية ألا وهي المدرسة . 

ج ـ سيناريوهات التطوير التربوي : 

حسنا ، هذا هو العرض في الإدارة ، فماذا عن العلاج ؟ العلاج يبدو بسيطا عن طريق تفعيل الإدارة الإلكترونية من ناحية ، ومن ناحية أخرى يكمن العلاج في سؤال فعن طريق الأسئلة يعمل العقل ويتفجر بالإبداع ، والسؤال هو : ماذا يحدث لو جعلت المدرسة طلابها يشاركون في إدارة المدرسة ولو لمدة يوم واحد كل أسبوع ؟ 

ليس الأمر بكارثة لأننا في الأصل نجرب ونطور ونعدل ونحذف هذا ونعيد تجديد هذا ، وشراكة الطلاب في الإدارة سيجدد شبابها ويحيي شرايينها المتصلبة . 

والعلاج يمكن أن نتلمسه في استشرافِ فرضية مفادها أن الاهتمام بالتربية هو اهتمام برقي الشعوب وبناء الثقافات وتشييد الحضارات الإيجابية ، وأن التربية كعمل مؤسسي منظم هو المرتكز الأصيل بناء وتأهيل وإعداد الناشئة للحياة ، وهذا ما استهدفه رواد التربية الأوائل بالفعل حينما أقروا حقيقة أن التربية ليست مجرد ألعاب تعليمية يقوم بها المتعلمون داخل جدران المؤسسة التعليمية النظامية وليست لهوا بل هي منظومة مخططة تتبعها نواتج تعلم مستهدفة ، وهذا ما أشار إليه أحد التربويين العرب المتقدمين بأن الفكرة الخاطئة التي تعتبر علم التربية مجرد لعب على الألفاظ أو ملهاة لا جدوى منها إن هي إلا ناتجة عن ضعف الوسائل التربوية. أما التربية بحد ذاتها فهي بلا ريب عماد تقدم الأجيال الطالعة. إننا نود أن نربي جيلاً مثقفاً هادئاً متزناً محباً للسلام، وكيف يتم ذلك إن لم نؤمن لهذا الجيل مربين صالحين، بمستوى المهمة الشاقة والمسؤولية الضخمة. نريد بناة لرجال الغد.وهكذا نرى أن أهمية التربية تتضاعف مع الزمن، فكل جيل جديد يحتاج إلى أساليب جديدة ومقدرات جديدة لينشأ نشأة صالحة .

د ـ بين أيدينا استشراف للمستقبل :

وكان ينبغي على المفكرين التربويين العرب أن  يقدموا لنا استشرافا لحاضرنا التعليمي ومستقبلنا التربوي الذي ننشده ؛ إذ يبدأون بصورة منطقية عرض أبرز مشكلات التعليم والتربية والتي لم تخرج عن أفلاكنا التربوية المتسارعة ، وأن يدشنوا صروحا عظيمة من الأسئلة السابرة التي تفجر طاقاتنا الذهنية بإبداع الأجوبة من مثل إلى أين وصلت التربية اليوم؟ ، ومفاد السؤال يأتي في سطور قليلة وهي أن  التربية بقيت جامدة لعقود طويلة وبعيدة ولقد دام هذا الجمود قروناً كاملة، لم تتطور فيها المعارف وأساليب الفكر والعمل؛ بينما كان من الأولى بها أن تنقل، بعد قليل من التنقيح والتعديل، المكاسب الجديدة للفنون والعلوم والآداب، بدل اكتفائها باجترار المكاسب القديمة.

واستشراف تربية جديدة تواكب متغيرات العصر ينبغي أن تأخذ بكافة الاتجاهات التربوية المعاصرة مثل التربية التقنية والتربية الديموقراطية وتربية الحريات المتعددة وإيجابية المتعلمين وتنافسهم التعليمي الطيب في جو من التعاون والسلام . كذلك  ضرورة الأخذ بنظريات علم النفس وعلم الاجتماع التي هي ضرورة تعليمية قائمة يجب تخطيط التربية النظامية في ضوئها ، مع إبراز وتأكيد وبيان دلالة دور هذه النظريات في خلق الدوافع الإيجابية نحو التعلم ، وأهمية استبصار تأليف المحتوى التعليمي في ضوء ما أشارت إليها في كل مرحلة عمرية يمر بها المتعلم . 

أسْتَاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية (م)

كلية التربية ـ جامعة المنيا

النظام الجزائري.. ووهم القوة !

صَرَف النظام الجزائري ما يزيد عن 350 مليون دولار عن استعراض عسكري دام ساعتين بمناسية الذكرى 70 لـ"الثورة الجزائرية". كل هذا المبلغ الضخم صُرف من خزينة الدولة، فقط، ليرسخ صورة ...

استطلاع رأي

كمغربي أو مقيم في المغرب، هل تشعر أن ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم أثرت على:

Loading...