نُخَبُ سَفْسَطِيّة!
■ نُخَبُنا السّياسيّة تُذَكّرُنا بمَذهَبٍ فَلسَفِيّ هُو "السّفسَطَة"، نَشَأَ في اليُونان، إبّانَ القرنِ 5 قَبْلَ المِيلاد..
والسّفسَطَةُ المُتسَيِّسةُ المُتَحزّبة، في عَصرِنا، تَزعُمُ ألاّ وُجُودَ لحَقِيقَةٍ ثابِتة، وأنّ كلَّ شيءٍ مَبنِيٌّ على الوَهْم.. ومِن هذه الأرضِيّة، نَقَلَتْ الفِكرَ الفَلسَفِيَّ مِنَ الواقِعِ المَلمُوسِ إلى نِقاشَاتٍ تِلْوَ أُخرَى..
وأوقَعَت الفلسَفةَ اليُونانيّةَ في صِراعٍ بينَ المَذهَبِ السَّفْسَطِيّ وكِبارِ فلاسِفَةِ ذلك الوَقت، مِنهُم سُقراط وأفلاَطُون، وغَيرُهُم…
ثمّ انشَقّت الفَلسَفةُ عنِ"السّفسَطَة"..
وصارَ السَّفسَطِيُّونَ لا يَعبَأُون إلاّ بنِقاشاتٍ سَطحِيّةٍ تَقُومُ على مُغالَطاتٍ لَفظِيّة، مِن أجلِ مَنافِعَ خاصّة..
■ وجَذَبَتِ "السّفسَطَةُ" إليها انتِفاعِيّين يَبنُون نِقاشاتِهِم بإقناعاتٍ واقتِناعاتٍ كلامِيّة..
وانجَذَبَ إلَيْهِم مُتسَيِّسون، وعامّةُ الناس، بهدفِ الإيقاعِ بمُتَناظِرِين في أفخاخِ الجِدَال..
▪︎وما زال السُّوفسْطائيُّون المتَحزّبون عِندَنا إلى الآن، يُناقِشُون بعضَهُم، فقط مِن أجلِ النّقاش..
وانضافَتِ السياسةُ إلى السَّفسَطة..
إنّ بينَهُما ما يُوَحِّد.. يَجمَعُهُما الرّهانُ على توظيفِ اللُّغة، من أجلِ الإقناعِ في النقاشاتِ السَّفسَطِيّة..
وتمّ التّقارُبُ بينَ الفِعلِ السياسيّ والنّشاطِ السَّفسَطِيّ..
▪︎والسياسةُ تُعرَفُ - أصْلاً - بكُونِها فنَّ الكذِب..
ويُوصَفُ الكَذِبُ بكَونِهِ منَ الألوانِ السّياسيّة، لدَرجةِ أنهُ
قيل: "السّياسيُّ لا يَستَغنِي عن إجادَة فنّ التمثِيل وتَعدُّد الوُجُوه"..
وهذا معرُوفٌ لدى أحزابِنا، ومنها ما قِيلَ فيها إنها كُبرَى، وانبَثَقَت عنها حُكومات.. ومِن أبرزِها أحزابٌ تَركَبُ على الأمواج، وبالتالي على ظَهرِ انتِخابات.. وتتَسَلّقُ إلى رئاسةِ حكومات..
■وأين القِيّمُ الحِزبيّة؟
أُذِيبَت في زَمانِنا القِيّمُ التي طالَما تمّ التّروِيجُ لَها..
وأقامَت السّفسَطَةُ الحِزبيةُ أخلاقَها على طريقةٍ نَفْعِيّة..
وتبنّت حُكومةُ الأحزاب شُرُوحاتِها، وهي مَشحُونةٌ في مُجمَلُها بمُغالَطَاتٍ إيديُولوجيّة، وشُرُوحاتٍ من النّمَطِ السُّفسطَائي النّفعِيّ القديم..
وما هي في عُمقِها إلاّ كلامٌ في كَلام..
نفسُ اللغة.. والتّفسِير.. واللّعِب بالكلِمات..
تَضلِيليّاتٌ مَغلُوطةٌ إلهائيّة..
▪︎ولا أحَدَ في الوَقتِ الرّاهِنِ مُقتَنِعٌ بتَبرِيراتِ حُكوماتٍ حِزبيّة، وأحزابٍ حُكُومِيّة..
كلُّها تَنقُلُ إلى حاضِرِنا الزّمنَ السُّوفسطَائي القديم..
ولا أحَدَ فينَا مُقتنِعٌ بشُرُوحاتٍ حُكُوميّة، وتَنظِيراتٍ حِزبيّة..
▪︎وبِلادُنا تتَأَفّفُ مِن سُلوكاتٍ حكوميةٍ مُختَلّة..
وإنّ بِلادَنا، قِمّةً وقاعِدة، لا تَقبَلُ التّعامُلَ الحُكومِيّ بمُعادَلَةِ الرّبحِ لأثرياءِ الحُكومة، ومَن يدُورُون في أفلاكِها، وأن تكُونَ الخسائرُ للفُقَراء..
ولا عاقِلٌ يَقبَلُ بازدِواجيّةِ اللّغة، والتّفاوُتِ بين القَولِ والفِعل.. ولا بنَقْلِ السّفسَطةِ القديمةِ إلى صيغةٍ مَرفُوضة..
■ لماذا مُغالَطاتٌ لَفظِيّة؟
الجواب: لطَمسِ الحقائق.. والتّهرُّبِ من الواقِع.. والإجابة عن سُؤالٍ بسُؤال.. وبِطَرحِ سُؤال مُعاكِس..
وأيضًا: التّهرُّبُ مِنَ الجَواب الحقيقي..
كان هذا في الزّمنِ السُّوفسْطائيّ..
▪︎واليُونانُ كانت في أَوجِها السياسي الذي يُوصَف بالدّيمُقراطيّ.. وكان يُقال للناسِ آنذاك: إنّ السُّوفْسْطَائيّينَ يُمثّلُون الشّعب، ويُدافِعُون عن مَصالحِهِ وحُقوقِهِ وحُرّياتِه..
▪︎ونَشَأَتْ مِنَ الفِكرِ السُّوفسطائيّ طريقةُ حياة، فأنتَجَت أجيالاً سَفسَطيّةً هي الشّبِيهةُ حاليًّا بتَفاسِيرِ وتَبرِيراتِ زيادةِ الأسعَار، على أَلْسِنةِ بعضِ زَعاماتِ ساحاتِنا الحُكومية، ومِنها العَقليةُ المُنتَشِرةُ في مَجالسِنا النّيابيّة، الجماعية والبرلمانية، لدرجةِ أنْ صَارت أحزابُنا صُورةً طِبقَ الأصلِ من المُغالَطات التي أنتَجَتها جُلُّ حُكُوماتِنا بعد استِقلالِ البلَد..
■ أيةُ قِيّمٍ للديمُقراطية؟
وهل تلتزِمُ الأحزابُ بالدُّستُور؟
وهل ترَى التّنميّةَ بنَظرَتِنا الاجتِماعِيّة؟
سُلوكاتُ أحزابِنا تُوحِي بأنّها اتّفَقت مع الحُكومةِ المُنبثِقةِ عنها، على الظّهُورِ بما ليس فيها، وبتَوظِيفِ اللغةِ التّضليليّة لإخراجِ المُستَهلِكينَ مِن الطريقِ الرئيسيّة، باتّجاهِ مَسالِكَ فرعيةٍ مُنحَرِفة..
وهذا هو نَفسُ الأُسلُوبِ السُّوفسطائيّ المُتوارَث عندَنا مِن حزبٍ لحِزب، ومِن حُكومةٍ مُتَحزّبةٍ لأُخرَى، ومِن جِيلٍ لجِيل، لدَرجةِ أنّ أحزابَنا تتَشابَهُ في أخطَائِها، وفي نَهجِ أساليبِها، بطريقةٍ تَبريريّة..
▪︎أوهامٌ حِزبيةٌ هي توصيفاتٌ بلا حُدود..
ولا هَدفَ لها إلاّ إلهاءُ النّاس، مِن أجلِ تَمرِيرِ المَرحلةِ الحاليّة، وتَجاوُزِ الحاضِر، بهذا القَفزِ إلى زمنٍ قادِم، بِنَشرِ كلامٍ بلا مَعنًى، وليس له من هدفٍ إلاّ إسكات "الخُصُومِ السّياسيّين"، عِلمًا بأن هذا النّوعَ مِن المَضامِين، لا يَنبَنِي على حَقائق، بل هو تفسِيرٌ تَسطِيحِيّ..
▪︎كلامٌ مُعَدٍّ لاستِهلاكٍ داخِليّ..
إنها السّفسَطةُ المُعاصِرةُ المُتلاعِبةُ بالألفاظ، والكلماتِ الفَضفَاضة، بعيدًا عن حقائق..
▪︎ومن رُوادِ سَفسَطةِ التّغلِيطاتِ المُعاصِرةِ - في بلادِنا - زُعماءُ تُمارِسُ العَنادَ والمُغالَطةَ والمُكابَرة، اعتِمادًا على نِقاشاتٍ سُوفسْطائيّةٍ تُوحِي بأنّ الهدفَ ليس اقتِناعًا أو إقناعًا بمَضمُون، بل هو ضَربُ حِصارٍ على "الخَصمِ السياسي"، بِزاويّةٍ ضيّقةٍ لجَعلِه في مأزِقٍ نِقاشي..
▪︎وما زالت أحزابٌ حكومِيّةٌ تتَجنّبُ تحقيقَ نجاحاتٍ مَيدانيّة، في أوراشٍ ذاتِ مَردُوديّة، وتُوَجّهُ ما تَعتَبِرُهُ "انتِصَاراتٍ" في حَلباتِها الكلاميّة..
وهذه ليست في ذاتِها انتِصارات..
هي مُغالطاتٌ لَفظيّة، لأن الهدفَ الحقيقي المنشُود لأية حكومةٍ فعّالة، هو الإنتاجُ والتّقدُّمُ والتّطوُّر، على أرضِ الواقِع، وليس في إيهامِ المُستَهلكِ بما هو خيالٌ بعِيدٌ عن المَيدان..
ولا تُجدِي بَلَدَنا أيةُ غَلَبَةٍ كلاميّة، مهما طغَى عليها مِن أشكالٍ مَجَازيةٍ وبَلاغيّةٍ ورَمزيّةٍ وتلوِيناتٍ لَفظِيّة..
▪︎بِلادُنا تَنتَظِرُ من حُكومتِنا أفعالاً، وليس أقوالاً..
وحُكُومَتُنا المُنبَثِقةُ عَن أحزابٍ سَفْسَطِيّة، تَحتَ غِطاءاتٍ انتِخابية، تعَلَّمَت كيف تكُونُ قوّالةً لا أكثَر..
وهي بالفِعلِ تتَكلّمُ أكثَرَ مِمّا تَفعَل..
وهذا عَيْبٌ يُزِيحُها عن حِكمةِ الصّمت..
■ وأحزابٌ قد قادَت حُكومَات..
وكأنّ التّسلُّقَ إلى الحُكمِ من عجائبِ التّضليلِ التّعبِيرِيّ..
▪︎كيف حدَثَ "الخُلُودُ" في الجماعات والبرلمانِ والحُكومة؟ هل وقعَ هذا بالصُّدفة؟
أم هيّ انتخاباتٌ حَقيقيّة؟
ومتى كانت لنا انتخاباتٌ غيرُ مُفَبْرَكة؟
وكيف نتَصوّرُها مَعقُولة، وهي أصلاً بدُون ناخِب، وبِلاَ مُنتَخب، ولا حِزبٍ ذي قاعدةٍ صَلبَة؟
▪︎أحزابُنا في مُجمَلِها تَفتَقِدُ أُسلُوبَ التّواصُل، وعُذُوبةَ الأخلاق، والوفاءَ بالوُعود، وليس لها أيُّ برنامجِ انتخابي يُمكِنُ إلزامُها به..
أين في هذا الخلَلِ وغيرِه مُقوّماتُ انتخاباتِ حقيقية؟
▪︎وإلى هذا، جُلّ أحزابِنا تُعانِي الجَفافَ الفكري والسّلُوكِيّ.. لا مُرُونة.. ولا إنسانيّة..
سُلوكاتُ هذه الأحزاب لا تقُودُ إلاّ لخُشُونةِ سُوءِ التّعامُل، وسُوءِ التّسيِيرِ والتّدبِير..
وتَفتَقِدُ إلى مَصَالحَ في حياتِها الخاصّة والعامّة..
▪︎وفي سياساتِها حِسابات..
■ وتلعَبُ الفلسَفَةُ أدوارًا حَضاريّة…
أدوارٌ لا يُستَهانُ بها.. أساسيةٌ لتنميّةِ العقل، والفِكر، وتنويعِ التّساؤُل، في كيفيّة تَنشئةِ الحَضارات..
وهذه البِنيَةُ الحَضاريّةُ تنظِيمٌ اجتِماعيّ يُثمِرُ إنتاجَهُ الفِكرِيّ، المادّي واللاّمادّي.. ويَزيدُ في مَواردَ اقتِصاديّة.. ويُنعِشُ الفُنونَ والعُلُوم..
ويُوسّعُ دائرةَ الأخلاقِ الاجتِماعيّة..
وهذه إيجابيّاتٌ سُلوكيّة تُقَلّصُ مِن اضطِراباتٍ بشَرية، على اختِلافِها وأنواعِها..
وتَعمَلُ على إيجادِ مُقَوّماتِ أدَواتِ الاستِقرار، وهي ضرُوريّةُ لطَمأَنةِ الناس، فُرادَى وجَماعات..
▪︎وهُنا يتَدَخّلُ مَعنَى الحياة..
وفي هذا السّياق، غيرُ مَقبُولٍ أن تَتراجَعَ الحُكومة، ومِن خَلفِها الأحزَاب، عن واجباتِها التّأهِيليّة: ضَرُورةُ المُضِيّ قُدُمًا، فُرادَى وجماعات، إلى مَوارِدِنا الطبيعيّة والفِكريةِ التي بها نَستَوعِبُ معنَى حياتِنا المُشتَرَكة، ومُقوّماتِ عَلاقاتِنا الإنسانيةِ التي تقُودُنا إلى مَزيدٍ مِنَ التّنمية والتّطوُّرِ والالتِحام…
■ وما الحَضارَةُ التي نَنشُدُها؟
إنها تَكمُنُ في سُلُوكِنا الوَطنِيّ، والإنسانِيّ.. وفي تَراكُمِنا المَعرِفِي…
وهذه تُتَرجَمُ إلى أخلاقٍ وإبداعٍ وابتِكارٍ وتَنمِيّةٍ مُستَدَامَة…
▪︎خاصِّيّاتٌ في عُمقِ حياتِنا الفِرديّةِ والجَماعيّة.. وهي مِن مُميّزاتِ بِيئَتِنا، وتنَوُّعاتِنا، وأحلامِنا.. إنّها طرِيقُنا السّالِكة.. وبِها نَحنُ مُلتَزِمُون.. وفي هذه الطريقِ السّالِكة، نَسيرُ جَنْبًا إلى جَنْب، يدًا في يَد، إلى هدَفٍ وَطَنِيّ واحِد..
▪︎وإلى الأمَام!