مغاربة العالم وثُـنائية الحكامة والسياسات العمومية..
الدعوة لإعـادة قراءة خطاب عيد ثورة الملك والشعب ليوم 20 غشت لسنة 2022، هي عودة للوقوف بشكل أعمق على رسائل ودلالات التفكيك القوي لمرحلة مفصلية يعيشها المغرب في ظل متغيرات دولية لها علاقة بملف الصحراء المغربية، وأيضا بالظروف العالمية كتداعيات كوفيد و أيضا الحرب الدائرة في أوكرانيا، وحرب الحبوب والطاقة وتداعيات التغييرات المناخية (الحرائق وقلة الأمطار) و غيرها من العوامل المؤثرة في معادلات العلاقات الدولية.
وإذا كانت روح ثـورة 20 غشت 1953 قـد طبعتها التضحية والتضامن والالتفاف حول المقدسات الوطنية و الترابية.. فإن نفس هذه الثوابت أمًنَتْ للمغرب البقاء واقفا على رجليْه وسمحت له بفرض شروطه، وأن لا يُـفاوض على صحرائه، وإنها مقياس صِدق الصداقات و نَجاعة الشراكات.
فالقيام بقراءات متعددة للخطاب هي قراءة جديدة في دلالات لحظات التوشيح الملكي أو الإشادة الملكي بمغاربة العالم بما فيهم اليهود المغاربة، بأرفع الأوسمة، نظير دورهم المحوري في الدفاع عن ملف الوحدة الترابية في بلدان الإقامة أو في أعمال التضامن مع الأسر المغربية أو عمليات الاستثمار و التنمية.
الأكيد أن الخطاب سيكون لـه ما بعده، والمؤكد أنه سيُؤسس لمرحلة جديدة في ما يتعلق بقضايا و مؤسسات الهجرة سواءً من خلال الإطار التشريعي لتلك المؤسسات أو من خلال نموذج الحكامة وسؤال السياسات العمومية المتعلقة بقضايا مغاربة العالم.. وذلك في أُفُـق الإجابــة على انتظارات مغاربة العالم فيما يخص عراقيل المساطر الإدارية أو مآلات ملفات الاستثمار وكذا التأطير الديني والتربوي و وشائج الهوية المغربية، و كذا احتضان الكفاءات والموهوبين المغاربة بالخارج ومواكبة الشباب حامل المشاريع والمبادرات.
بالمقابل فقد حدد الخطاب بدقة كبيرة إحداثيات خارطة طريق جديدة، تناولت عمليات التحديث والتأهيل للإطار المؤسسي، وهو ما سيتطلب تـدخل المشرع لتعزيز الترسانة القانونية، سواء في إطار إختصاصات الحكومة أو البرلمان، وهو ما عبر عنه الخطاب بالإطار التشريعي.
إن تعــدد المتدخلين والمؤسسات المكلفة بالهجرة و المتمثلة في وزارة الخارجية المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج و مؤسسة الحسن الثاني ومجلس الجالية و مؤسسة محمد الخامس للتضامن ووزارة التعليم وغيرها، يضعنا أمام العديد من البرامج المتضاربة أو المتعارضة أو المكررة أحيانًا من جهة، ويخلق نوعا من التنافسية وعدم التكامل و غياب الانسجام بين كل تلك المؤسسات من جهةٍ ثانية.
وهو ما وقف عليه بالفعل تقرير قضاة المجلس الأعلى للحسابات في سنة 2018 بخصوص العرض الثقافي الموجه لمغاربة العالم خلال سنتي 2016 و2017، وهو التقرير الذي حمل خُلاصات صادمة تتعلق بعدم التكامل وعدم التتبع وقياس الأثــر، الشيء الذي يرفع من درجة استعجال "إطار تشريعي" جديد يُحدد اختصاصات كل مؤسسات الهجرة بـدقـة، ويضمن مساحات مهمة للتكامل والتعاون بينها.. ويَمنع تعارضها وتضارب اختصاصاتها.. ليس هذا فحسب، بل إن التحديث والتأهيل المؤسسي، يعني أيضا الشروع في تنزيل الفصل 163 وإخراج قانون تنظمي لنسخة جديدة لمجلس الجالية تضمن له "الإحالة الذاتية" و "المبادرة " في إبـداء آرائه في كل الإجراءات والقوانين التي لها علاقة بقضايا مغاربة العالم، على اعتبار أن مجلس الجالية هو المؤسسة الوحيدة التي بإمكانها توفير المعرفة العلمية لكل قضايا الهجرة، بفضل تراكم سنوات طويلة في البحث العلمي والقيام بدراسات في ظاهرة الهجرة اعتمادا على العلوم الإنسانية والاجتماع و التاريخ و غيرها.
هذا مع التذكير بضرورة مراجعة الاطار التشريعي لمؤسسات قوية من حجم وزارة الخارجية و مؤسسة الحسن الثاني ذات طابع اجتماعي وثقافي وخطوط التماس مع وزارة التعليم أو الثقافة أو الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي المغربي بأوروبا.. فالمعنى القوي كمصطلح "الإطار المؤسسي الخاص بفئة مغاربة العالم"، يجعلنا نميل إلى أن نص الخطاب شمل كل مؤسسات الهجرة رغم تعددها وتنوعها.. وبالتالي إخضاعها أيضا لكل عمليات التحديث والتأهيل، لما فيه مصلحة مغاربة العالم.
وقــد كانت "إعادة النظر في نموذج الحكامة بالمؤسسات الموجودة قصد الرفع من نجاعتها و تكاملها. "إحدى أهم الفقرات القوية في خطاب الثورة لسنة 2022، إذ وُجُوب إعادة النظر لم يـشمل "مؤسسات" الحكامة الواردة في الوثيقة الدستورية، بل "نموذج" الحكامة، وهو ما يطرح إشكالية ثـنائية الحكامة وصناعة السياسات العمومية الخاصة بمغاربة العالم، و يظهر من خلال تعريف مصطلح "السياسات العمومية" حسب معهد الدراسات العمومية بفرنسا بأنها "مجموع القرارات والأعمال والتدخلات المتخذة من قبل الفاعلين المؤسساتيين والاجتماعين لاجل إيجاد الحلول لمشكل جماعي ما ".
بمعنى أن السياسات العمومية يقوم بها الفاعل المؤسساتي/ الحكومي بالإضافة الى الفاعل الاجتماعي والذي يمكن أن يكون نُخبا في العلوم الاجتماعية والاقتصاد والاجتماع أو هيئات استشارية / عمالية/مهنية… وهنا لابد من استحضار الفصل 163من الدستور حيث خص المشرع الدستوري مجلس الجالية بإبداء آرائه بخصوص توجهات السياسات العمومية في مجالات الهوية وحقوق مغاربة العالم و مساهمتهم في تنمية الوطن.
و إذا كنت السياسات العمومية هي مجال اشتغال و تطبيق الحكامة، والتي تعني من خلال التعاريف المفاهيمية بأنها طريقة تدبير السياسات العمومية والموارد الاقتصادية لتحقيق التنمية الاجتماعية، فإنه من البديهي طرح سؤال الحكامة الجيدة أو تخليق الحياة العامة، وهو الأمر الذي تناوله المشرع المغربي سواء في تصدير دستور2011، أو من خلال العديد من الفصول الدستورية خاصة الفصل 13، وكذا دسترة مؤسسات الحكامة الجيدة من 161الى 170 والفصل 151 والخاص بالمجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي.
لذلك، وحتى نعيد النظر في نموذج الحكامة بالمؤسسات الموجودة (الخاصة بمغاربة العالم)، فإنه يتوجب على الفاعل الحكومي أن يجعل من كل المؤسسات وهيئات الحكامة المكلفة بمغاربة العالم، شريكًا حقيقيًا في القرار السياسي و ي تنفيذ برامج السياسات العمومية المتعلقة بمغاربة العالم، وليس كغريم سياسي ومنافسه في السلطة، وهو ما سيرفع لا محالة من نجاعتها ويضمن تكاملها وتطبيقا لمبادئ الحكامة الجيدة في السياسات العمومية، لأنه لا يمكننا الاستمرار في حالة تجاهل الفاعل التشريعي (برلمان و حكومة) لقضايا مغاربة العالم والتعامل معها بكيفية مناسباتية فقط كشهر رمضان أو عملية عبور.
إذ كيف نفسر أنه طيلة الولاية التشريعية التاسعة 2011/ 2018 لم تنـل قضايا مغاربة العالم الاهتمام الواجب واللازم داخل قبة البرلمان فمين بين 23077 سؤالا كتابيًا لكل القضايا، كان نصيب قضايا مغاربة العالم134 سؤالًا فقط أي بنسبة 0,58 في المائة.
ومن بين 9583 سؤالا شفويا لكل القضايا، كان نصيب مغاربة العالم 113سؤالا فقط، أجابت الحكومة عن 77سؤال كتابي و51 سؤال شفوي بمجموع 128 إجابة، نعتقد أن لغة الأرقام ليست وجهة نظر، بل حقيقة دامغة تُعجل بضرورة إعادة النظر في نموذج الحكامة كما جاء في خطاب الثورة لسنة 2022، و من جانب آخر، فإن خارطة الطريق نبهت إلى ضرورة انفتاح قطاع المال والأعمال الوطني والمؤسسات العمومية على الكفاءات والمواهب الشابة من مغاربة العالم من أجل دعمهم وتمكينها بعد تعثر العديد من البرامج الحكومية الخاصة بالكفاءات والمواهب مثل "فينكوم " و "مغربكم" و لجهة 13".
أكثر من هذا فالطريق مُعبـد الآن للتعجيل بخلق "وكالة ثقافية" تحتضن أفكار وأحلام الأجيال الجديدة وتقدم صورة إيجابية عن مغرب اليوم. إن التعجيل بتنزيل فلسفة مضامين خطاب 20 غشت يجب أن يحتل مراتب الأولوية في الولاية التشريعية الحالية حتى نكون قادرين جميعًا على تقديم الإجابة لسؤال جلالة الملك: ماذا وفرنا لهم لتوطيد هذا الارتباط بالوطن..؟